المسرح الاستعراضي (أو الأوبيرت) بمفهومه البسيط: هو المسرح الذي يقوم على الغناء كإطار لحركية الممثل وأدائه التفاعلي مع هذه الحركية ارتباطاً بمسار الموضوع المتداول إطاراً عاما للمسرحية الأوبيرت.
وسوف لن نستقرئ جذور هذا النوع من التمثيل المسرحي غرباً وشرقاً وعندنا في المغرب؛ باعتبار ما سيتم التحدث فيه تجربةً متطلعة من فعل فرقة تلاميذ ألف بينهم تنشيط مدرسي ظرفي في مجال مسرح مُوَجَّه، لا يملكون ثقافته الموضوعية، لكنهم كانوا يمتلكون موهبته مادةً خامة قابلة للشحذ في تطلعها الحيوي الوَقَّاد، غَذَّاها واقعٌ من مرحلة ستينيات القرن الماضي بِمَدِّهِ السياسيِّ القومي: (هزيمة 1967 النكراء التي أصابت العرب على مستوى القضية الفلسطينية في مقتل)، وبِحَدَثِهِ العلمي الباهر المتمثل في وصول الإنسان إلى القمر سنة 1969. كما غَذَّاهَا واقع اجتماعيٌّ محليٌّ يتمثل في الاتجار في مخدر الكيف بوضعه الابتدائي، قبل أن يستفحل مُنطلَقاً بوجهه الاحترافي الشمولي فيما بعد.
وقد انطلقت هذه التجربة انطلاقة موفقة عُمِّرَتْ نحو خمس سنوات قبل فتورها لدواعٍ شخصيةٍ وموضوعية، في طليعتها انعدام التأطير الفني المنهجي الكافي، سعياً بها إلى التألق وإن على المستوى الجهوي، على محاولة احتضان بعض الجهات الحزبية والجمعوية للفرقة المعنية في بُعْدِهَا الموضوعي مما لم يبلغ حد احتوائها، على تبعيتها الاسمية لها في بعض محطاتها، مستجيبة لانتمائها. ولربما كان هذا من عوامل تحررها وحضورها الفُرْجَويِّ الشعبيِّ في شفشاون، ونجاحها الأدائي فيما كانت تشخصه من أدوار، كانت ـ على بساطتها ـ تحظى بالقبول وبالتصفيق الحار ـ مما حضرتُ جوانب منه في حينه ـ كوميدياً وتراجيدياً.
وخارج السياسي والجمعوي المتعاطف معه بشكل أو بآخر. ومن حديث مُحاوَرنا موضوعاً في تأليفه لمسرحياتٍ من العهد؛ تطفو على مستوى الحوار أسماءٌ عُرفت بوضعها الفني المسرحي في تطلعها الاحترافي (ذ. محمد الكحيل)، وأخرى عُرفت بنضجها الفني التشكيلي (ذ. يونس بلبشير العلمي، وذ. محمد الخزوم) مصممةً للديكور، كما طفا على سطح الحديث اسم باشا المدينة رمزُ السلطة فيها، مدعماً للفرقة دعماً مادياً ومعنوياً: أسماءٌ ساهمت إلى حد كبير في إعطاء الفرقة شخصيتها وكيانها الذي لم يكن بناؤه كما يجب لتحدي الإكراهات والعوائق بمختلف تجلياتها، لتبقى تجربتُها المرحلية نقطةً مضيئة محصورة في ظرفيتها الزمانية والمكانية. وإثارة الحديث عنها من خلال حوارنا مع الأستاذ أحمد قصري هو نفضٌ للغبار عنها، وتقديمها بوضعها للأجيال اللاحقة كتاريخ، ولِمَ لا كنموذج يُحتذى بحثا وبناء. وإليكم الحوار بوضعه السردي المُكَيَّف.
كانت البداية ـ مما يذكره الأستاذ أحمد قصري ـ عقب نكسة فلسطين والعرب سنة 1967م، على يد الفنان الشفشاوني الموهوب المرحوم السيد محمد الكحيل، من خلال مسرحية عن فلسطين المغتصبة، كان هو مؤلفها ومخرجها وبطلها، متخذاً من فريق تلاميذي غنائي من “إعدادية المشيشي”: ممثلين مُشخِّصين باقي أدوار المسرحية الثابتة، في حركات معبرة صامته، مُوَزَّعِينَ بين ضحايا عرب، وجلادين صهاينة محتلين، مُنيطاً بأحمد قصري دورَ متدخل، مرددٍ لمقاطع أغنية “زهرة المدائن” للمطربة فيروز، اَلمتخللةِ فقراتِ هذه المسرحية المؤداة ـ في مجملها ـ لوحةً متحركةً ذاتَ الصوت البطولي الواحد.
واختيار المخرج لأحمد قصري منشداً، يعود ـ حسب هذا الأخير ـ إلى إعجاب المخرج بصوته، وقد سمعه يغني ضمن فريقه التلاميذي في مناسبة مدرسية؛ إذ يذكر الأستاذ قصري: أنه في هذه المرحلة من شبابه كان مولعاً بالموسيقى والغناء، بالإضافة إلى أنه كان محتكاًّ بالمرحوم الفنان محمد الكحيل كتلميذ لديه، متعاقداً معه لتدعيمه في مادة العربية، مضيفاً أنه هو مَنْ جَرَّ الفريق كَكُلٍّ ـ بحكم ارتباطه به مدرسياً وفنياً ـ إلى هذه المسرحية. وكان هذا الفريق متكوناً من الأسماء التالية :
مصطفي التهامي العلمي، وعبد العزيز زيان، ومحمد الجابري المعروف بالشتوي، والمرحوم صلاح البقالي، والسعيد ابن عبد الرازق السمار، والمدني الريسوني، وأحمد أولاد مبارك المعروف بالحمري، ومحمد القاسمي.
وكان التدرب على هذه المسرحية يتم من مقر “جمعية الدعوة الإسلامية” الذي كان يشغل “غُرَيْفَة” فوق “باب العين” الأثري. ومُثلت أول ما مُثلت سنة 1968م، بـ”سينما العهد الجديد” بالمدينة، ثم أعيد عرضُها بقاعة الشبيبة والرياضة سنة 1969م، وكان ديكورها من إبداع الفنان الأستاذ يونس بلبشير العلمي. وفي ذات السنة؛ انخرط هذا الفريق التلاميذي المتجانس في جمعية “النجم الراشدي للمسرح”، التابعة للشبيبة الاستقلالية، لدى تجديد مكتبها؛ حيث تولى رئاستها السيد سلام عزوز، وأمانة مالها السيد أحمد قصري، ليتابع هذا الفريق نشاطه التمثيلي الاستعراضي بثانوية المشيشي، وبقاعة الشبيبة والرياضة بـ”اسكتشات” معظمُها مطروق. كـ[اسكيتش “الصباط المسلاط”]، و[سكيش” البخيل”]. وكان التدرب على هذه “السكتشات” يتم بالشبيبة والرياضة التي كان مقرها آنذاك “مقهى عبد الخالق”، يمين الداخل إلى عمارة “الأخماس” بساحة محمد الخامس. إلا أن الجدير بالذكر هنا: هو أن هذا الفريق المسرحي لم تكن تربطه برئاسة الجمعية والجمعية نفسها ـ بحسب الراوي ـ غير الانتماء الرسمي ؛ إذ كل أنشطة الفريق كانت مستقلة عن مباشرة الجمعية ورئيسها.
ولِتحرِّي مسيرة هذا الفريق المدرسي في إطار توجهه الاستعراضي؛ نتابع مرافقة الأستاذ أحمد قصري في سرده الحكائي في الموضوع إذ يقول:
في حفل انتهاء السنة الدراسية: 1968/1969، كان من جملة حضور الحفل باشا المدينة آنذاك: السيد عبد السلام الجعيدي، الذي أُعجِب بـ”الأوبيرت المسرحي” الذي عرضته الفرقة، والذي كان تحت عنوان: “قضية موسى منحوسة”. تأليف وإخراج وبطولة أحمد قصري الذي اتخذ لنفسه دور موسى صاحب المغامرات، في حين تقمص دورَ القاضي سعيدٌ أفزاز،، وَمّثَّلَ دورَ الشرطي إدريس موعلي، ودور الخصم محمد الشتوي، في حين كان الباقي في وضع الكومبارس. وكان ملخص المسرحية يتجسد في زواج رجل بامرأة كلفته ما لا يَطيق، فانخرط في مغامرات، كان آخرها الاتجار في المخدرات، الشيء الذي أودى به إلى السجن.
ومما يقوله المؤلف/البطل في هذا الأوبيرت مُتَّجراً في المخدرات:
بِـعْت الْكْوِيفَة مَا كَانْ تِيسِيرْ دَاوْنِــــي مْكتّفْ لِلْكُومِيسِيرْ
قَدْمُونِـــــــــــــــي لِلْمَحْكَمَة عَنْد الْقَاضِــــــي بُو عْمَامَة
كَان الْقَاضِــي رَجلْ شَايِبْ اكْلَا عْلِيــــهِ الدَّهْرْ وُشَرِبْ
حْكمْ عْلِـــــــــــيَّ بالسُّجُونْ كَانُو الْعَسَّاسَة فْحَال الْجْنُونْ
وعلى خلفية هذه المسرحية التي كانت تعتبر في حينه لوناً تمثيلياً جديداً؛ استدعى الباشا أحمد قصري للمثول بين يديه، ليعرب له عن إعجابه الشخصي به وبكل أفراد الفرقة، عارضاً عليه المشاركة في إحياء المهرجان الصيفي للمدينة. لتدخل الفرقة عهداً جديداً مُكِّنَتْ فيه من كل الإمكانيات المادية والمعنوية التي تتوفر عليها بلدية المدينة، بما في ذلك الجوق البلدي الذي أصبح يرافق الفرقة في تشخيص عروضها التمثيلية الاستعراضية التي كانت جميعها من إبداع أحمد قصري. وبصدده يتذكر الراوي المسرحيات التالية:
ـ “ثلاثة وامْرا طلعوا الكَمْرا”: كانت على خلفية حدث الصعود إلى القمر سنة 1969. وقد قُدم العرض بـ”ساحة وطاء الحمام”، وفي “حدائق القصبة”، وبقاعة الشبيبة والرياضة حيث مقرها اليوم. ديكور الأستاذ يونس بلبشير العلمي والفنان التشكيلي محمد الخزوم.
ـ “بنطامة جا يخطب شامة”. عُرضت بـ”ساحة وطاء الحمام” في يوليوز سنة 1970، وفي ذات الساحة سنة 1971 بمناسبة مرور خمسمئة سنة على تأسسيس مدينة شفشاون. وقد مثل دور شامة في المسرحية فضولة الزباخ، ليُسدل الستار على نشاط هذه الفريق الحيوي باعتزال محركه أحمد قصري لظروف شخصية.
تمت هذه المحاورة بمقهى التونسي برأس الماء من شفشاون يوم الاثنين 19 شتمبر 2005.
[1] ـ من مواليد 12 ـ 5 ـ 1952 بإفادته في شفشاون، كانت دراسته في سلك التعليم العام ، ثم في المعهد الديني في جزء من مرحلة الثانوي، حيث انخرط في سلك التعليم، منهياً مشواره به أستاذاً لمادة العربية بالمديرية الإقليمية للتعليم بشفشاون.
حاوره الأستاذ محمد ابن يعقوب