سئلت عالمة الأنثروبولوجيا مارغريت ميد عن أولى علامات وجود الحضارة، فقالت: “أول علامة على نشأة الحضارة كانت انكسار عظمة فخد ومن ثم شفاؤها”.
وإذا سئلنا عن بداية ظهور المسرح فقد نرجعها إلى بدايات أشكال الصراع بين قوى الخير والشر (التي قد تقود إلى كسر عظام الفخذ)، وإلى طقوس تقديم القرابين للآلهة الموجودة بالعوالم الغيبية التماسا لإرضائها، ومخافة من غضبها و/أو متى ظهرت القبيلة. وبهذا المعنى يكون المسرح ملازما لظهور الحضارة البشرية، ولصيقا باستمرارها أيضا، وبالتالي هو مستمر مادام الناس موجودين على ظهر الأرض، ويحيون حياتهم بألوانها وتمظهراتها وتطوراتها عبر العصور. هذا المعنى نجده مختزلا في عنوان العمل الجديد للمسرحي اللامع رضوان احدادو؛ الصادر منذ أسابيع قليلة ضمن “إصدارات أمنية”، والذي أسماه “مات المسرح… عاش المسرح”، وكأنه يريد أن يقول: “المسرح كان دائما موجودا، وسيظل موجودا إلى الأبد”، فهو لا يموت، وليس بوسع أحد أن يئده؛ هو كالوطن قد يموت حاكمه “الرمز”(مات الملك) ويستمر الوطن تحت حكم ملك جديد (عاش الملك).
جاء النص من وصلتين: “احتفالية الموت واحتفالية الحياة”.
في الوصلة الأولى يقحم الكاتبُ القارئَ/المتفرجَ في أجواء احتفالية قاتمة، تجعلنا ندرك بل نعيش ما آل إليه المسرح عبر مساره الطويل؛ من تَرَدٍّ بفعل فاعل، باعتبار أن المسرح كان دائما “سلطة” مناوشة، ومرآةً فاضحة لعيوب اللحظة في كل الأزمنة والأمكنة. لهذا اختار المبدع أن يكون هذا العمل أو النص متحررا من بُعدي الزمان والمكان، لأن المسرح كان دائما شاهدَ عصره ومكانه.
في احتفالية الحياة، نشهد المسرح يقاوم عوادي الزمن، ويصمد في وجه المكائد والمطبات، ليُبْعَث من رماده كالعنقاء كل مرة. فالمسرح كالوطن بل هو الوطن -كما يراه الكاتب- لا يحق له أن يموت. في هذه الوصلة أيضا حافظ الكاتب على وظيفة المسرح الأزلية، فجاء النص كصدى صوت المجتمعات عبر العصور والأمكنة، ليؤكد عند الختام، في أجواء احتفالية متفائلة، أنَّ المسرح باق لا يزول.
هذا العمل الذي يتحدث فيه المسرح عن ذاته داخل نص مسرحي يدخل ضمن ما يصطلح عليه من حيث التجنيس في خانة “الميتامسرح”، أو ما أسماه الناقد ندير عبد اللطيف الذي قدم للعمل ب “مسرح المرتجلة”.
هو نوع من الكتابة المسرحية عند رضوان احدادو، جاء لينتقل بتجربته الغنية في كتابة المسرح الاحتفالي المعروف به وطنيا وعربيا إلى الكتابة في جنس الميتامسرح، الذي قلما يخوض غماره المسرحيون العرب، مرورا بتجربة أخرى ناجحة وهي الكتابة المونودرامية في مسرحية “تيرينا والملك الصغير” (2015).
من سمات كتابة رضوان احدادو عموما، وفي هذه المسرحية بالذات، شاعرية الأسلوب، والتعبير غير المباشر، والصور البديعة المبتدعة المستنبطة من ثقافته الواسعة، واطلاعه العميق على التراث العربي، والأحداث التاريخية. وصْفة ساحرة، ومادة أدبية وفنية دسمة، يقدمها الكاتب في حلة سلسة غير مثيرة للضجر، أو الملل، أو يطبعها الأسلوب الخطابي الفج.
تجربة رضوان احدادو المسرحية ككاتب ومخرج وممثل أهَّلَته لأن يضمِّن هذا العمل -على غرار أعماله السابقة- نصَّيْن في واحد، أو هكذا يتخيل للقارئ. فمن جهة، هناك نص يجعل الشخوص تتحاور وتتحرك وتقوم بأدوار محددة لها، ومن جهة ثانية، هناك كتابة سينوغرافية دقيقة ومحكمة، تحدد أجواء الأحداث وأبعادَه الزمنية والمكانية أو تلغيها، وبالتالي تجعل القارئ / المتفرج ينغمس في أجواء الاحتفال دون شعور منه. طبعا، هو لا يغفل سلطة المخرج المحتمل، فلا يوصد باب القراءة الإبداعية الخاصة به في وجهه.
تجربة “مات الملك… عاش الملك” نقلة نوعية متطورة أخرى في مسار الكاتب المسرحي رضوان احدادو الحافل.
الطيب الوزاني