صدر كتاب “المعتبر من الأخبار عن سقوط غرناطة وعن الموريسكيين باختصار”، لمؤلف الأستاذ عبد الإله الكحييل، سنة 2022، في ما مجموعه 519 من الصفحات ذات الحجم الكبير. ويمكن القول، إن الإصدار الجديد تعزيز للاهتمامات المشتركة لدى مغاربة المرحلة الراهنة في استحضارهم للعمق الأندلسي، بتاريخه وبإشراقاته وبعطاءاته، وكذلك بانتكاساته. بمعنى، إن “أندلس الأعماق” ظلت تشكل إطارا للتفكير بالنسبة للمغاربة، وخاصة بالنسبة لساكنة منطقة الشمال، كلما ارتبط الأمر بقضايا الانتماء والهوية والمآل والتميز. والمثير في الأمر، أن هذا الاهتمام المتجدد لم يبق منحصرا -فقط- على فئة المؤرخين والباحثين المتخصصين، بل اتسع ليمارس غوايته المثيرة على قطاعات متنوعة من مثقفي المغرب المعاصر، ممن لا ينتمون بالضرورة، وبحكم التخصص، لمجال الدراسات التاريخية بمعناها الحصري الضيق. ونتيجة لذلك، أضحى المجال موضوعا متجددا، يتداخل فيه ضغط التاريخ مع إكراهات الراهن، وتتنافر داخله الأحلام النوسطالجية الحاملة لصور الحنين للأندلس المشتهاة مع مجمل المشاكل المزمنة التي لازالت ترخي بثقلها على العلاقات المغربية الإسبانية لزماننا الراهن.
ولتوضيح هذا السياق الموجه للبحث في خبايا الموضوع، يقول الأستاذ عبد الإله الكحييل في كلمته التقديمية للكتاب موضوع هذا التقديم: “وإنني بهذا العمل المتواضع، لأود أن أثير انتباه القارئ الشغوف بالتاريخ، بأن يطلع على مفاتيح الوقائع والأحداث التي عاشها الموريسكيون، عقب سقوط وتسليم غرناطة بسبب أخطاء من تعاقبوا على حكم الأندلس، كانت نتائجها ما وصلت إليه حالة الموريسكيين من تنصير إجباري، وتعذيب وتهجير وطرد… أبذلت جهدا في رواية تلك الأحداث والوقائع التاريخية بسياقاتها وتتابعها بأسلوب سردي تاريخي تارة، وتارة أخرة بأسلوب تقريري يؤكد المعلومات كحقائق كي يسهل ترسيخها في ذهن القارئ، ومدعما ذلك باستشهادات للباحثين والمهتمين بالشأن الموريسكي قبل الطرد النهائي وبعده… لعله يساعد ويشجع المهتم بهذا التاريخ في البحث أكثر للاستزادة من المعارف المتوفرة في مصادر ألفها باحثون، وأساتذة متخصصون في التاريخ، هم أولو علم ودراية، وأكثر اطلاع على دقائق الأسرار…” (ص. 8).
تُبرز مقدمة الكتاب وعي المؤلف بحدود نتائج تنقيبه، وتلك ميزة كبرى تجعل من عمله إطارا لتوجيه الاهتمام نحو قضايا التاريخ الموريسكي ببلادنا، ونحو دوره الكبير في ترصيص عناصر الهوية الجماعية المركبة للمغاربة. وقد وزع المؤلف عمله بين أربعة فصول متكاملة، فبعد المدخل التمهيدي، خصص مضامين الفصل الأول للحديث عن ظروف سقوط مدينة غرناطة وتسليمها للإسبان سنة 1492م، وتتبع في الفصل الثاني بعض مكونات المحكي من بعض تاريخ الموريسكيين المأساوي، متوقفا عند مظاهر الاضطهاد والتنصل من اتفاقية تسليم المدينة للإسبان، ومدققا في مفهوم لفظة الموريسكيين، ومعرفا بأبرز ثورات الموريسكيين ونتائجها، وراصدا لجرائم محاكم التفتيش وقراراتها المجحفة المرتبطة بإجبارية التنصير أو النفي والتهجير. كما حرص المؤلف على تبيان مظاهر “التقية” التي اضطر الموريسكيون لنهجها كأسلوب للحياة بعد استفحال جرائم الطرد النهائي بنتائجه الخطيرة. وفي الفصل الثالث من الكتاب، انتقل المؤلف لإلقاء الضوء على بعض من الإسهامات الحضارية التي خلفها الموريسكيون من آداب وإبداعات، ثم للحديث عن عجائب لغة الألخميادو وما حملته من أسرار ومن عناصر النبوغ. وفي الفصل الرابع، اهتم المؤلف بإبراز بعض من مظاهر براعة الموريسكيين في مختلف المجالات الفنية، وأنهى الكتاب بإدراج فهرس بأسماء المدن والقرى والحصون والأبراج والجهات والمناطق والجبال التي ورد ذكرها في الكتاب باللغتين العربية والإسبانية.
وبذلك، استطاع الأستاذ عبد الإله الكحييل تقديم تجميع تصنيفي غزير موجه لعموم القراء. ولعل من عناصر قوة العمل، إصرار صاحبه على التأكيد على أن عمله لا يكتسي صفة أكاديمية خاصة، بقدر ما أنه نبش لتوجيه الاهتمام نحو قضايا التاريخ الأندلسي في تقاطعاته الكبرى مع خصوبة التطورات المميزة لتاريخ المغرب الحديث. يقول بهذا الخصوص: “وقد أعلم أنني في هذا العمل المتواضع، قد يحالفني الصواب فيما جمعته من معلومات أحيانا، وأحيانا أخرى قد أكون جانبته أو بجانبي شيئا ما… وما على أهل الاختصاص إلا أن يصلحوا ما قد وقعت فيه من أخطاء بدون قصد أو بسهو ونسيان… وسيقف القارئ المتمرس، والناقد المتخصص، على بعض الثغرات -كاختزال في بعض النصوص، أو عدم ترابطها، ولربما يحسبها إغفالا مني، أو تقصيرا في كيفية عرضها…” (ص ص. 8-9).
باختصار، يتعلق الأمر بكتابة واعية بحدودها، ومعترفة بآفاقها، ومدركة لثغراتها. وتلك صفات الأمانة العلمية والمصداقية الأخلاقية التي أضفت على متن الأستاذ عبد الإله الكحييل عناصر الاحترام والتميز.
أسامة الزكاري