1373هـ-1954م
تقديم:
يسرّ هيئة جريدة الشّمال، أن تعيد -من خلال هذه الحلقات- نشر هذا النّص السّردي المتعلّق بقصّة فتاة مغربيّة كانت لها مكانة في البلاط الإسماعيلي، نسجتها من خيوط التّاريخ والخيال، الدّكتورة آمنة اللوه رحمها الله، والذي نالت به جائزة المغرب للآداب عام 1954م.
(3)
الـشـيـخ بـكـار
- وما هو البيت المشهور لدى المغافرة بهذه المزايا ؟
-
انه یا مولاي بیت الشيخ الأكبر بكار بن علي بن عبد الله المغافـرى المشهور بالصلاح والدعاء المستجاب والرواية والحفظ الغزير، فبيته في معقل كلها معقل من معاقل الدين الصحيح، وناديه من أحفل النوادي العلمية، لا تنقطع مجالس علمه ولا يقتصر منها على فنّ، يجلس للنساء كما يجلس للرجال؛ بل إنه يحدث أحيانا في ناحية الخيمة وزوجه أم المجد تحدث النساء في النّاحية الأخرى، أكرمهما الله بحسن القبول وتعميم النفع، كما أكرمهما بزهرة فواحة نبتت في حجرهما وغذياها بلبان العلم وسقياها بنمير الأدب حتى أصبحت سكينة زمانها، أو بوران إبانها، أخذت من كل علم أحسنه، ومن كل خلـق أمتنه، تحفظ كتاب الله وتروى سنة رسول الله كما تحفظ الأشعار وتروي الاخبار، فجمعت بذلك بين العقل والدين والجمال والكمال.
-
وما اسمها ؟
-
خنانة يا مولای.
خطبة
۔ فإذا كان الأمر كذلك يا محمد فخذ أهبتك لتخرج من صباح الغد إلى الشيخ بكار فتبلغه أننا راغبون في ابنته خناثة، وخذ إليه من الألطاف والهدايا ما تقدر على حمله، وأصحب معك عريفة دارنا أم الخير لتكون عونا لك على التبليغ. وقل للشيخ أن يفد علينا متى قدر، وأن الزفة ستكون بمحلتنا هنا بمجرد ما يتم الله هذا الأمر.
وفي صبيحة الغد خرجت كوكبة من الخيل تنهب الصحراء نهباً ميمّمة شطر بیت بکار شيخ المغافرة. وما إن شارفت الخيل أحياء المغافرة حتى أقبلت النساء بأقداح الحليب وبالزغردة وكلمات الترحيب، فأسرعـت البشرى إلى بكار أن الخيل قاصدة إليه وأنها رسل أمیر المؤمنين، فخف الشيخ في جلة أصحابه، وفي جموع تلامذته يستقبـل القائد رسول أمير المؤمنين، ثم بادر ونحر الجزر ومد الموائد وأشاع السرور في كلّ مكان.
الـنـبـأ الــعـظـيـم
ولما استقر المقام بالقـوم انتحى القائد ناحية بالشيخ، وأفضـى اليه بالنبأ العظيم وقدم إليه هدايا صهره العظيم، فتهلل وجـه الشيخ فرحا وأشرقت نفسه نورا ومد يديه إلى السماء يشكر الله ويحمـده، فاستخفه السرور وولّى يبحث عن زوجه أم المجد بين الحريم المنهمكات في إعداد أطعمة الضيافة، وما كاد يسر إليها بالنبا حتى رقصت طربا وأخذت تعبر عن فرط ابتهاجها بعبرات منهمرة تكفكفها بفضل ازارها، وقال لها مما قال: ها أنت ترين كيف حقق الله أملى في خناثة وكيف استجاب فيها دعائي !
فولت أمّ المجد هي الأخرى تبحث عن ريحانتها خناثة فألفتها بين أترابها فتيات الحي يتحدثن عن أفراد الوفد السلطاني… احتضنتها أمها وأمطرتها وابلاً من القبلات الحارة، وضمتها ضمات قوية إلى صدرها الحنون… والفتاة ولهـى ذاهلة لا تدري ما الخبر… ولكن لم تمر إلا لحظة حتى تناقلته الأفواه والأسماع في أنحاء المخيم کله بل في جنبات الحي أجمع، لا بل في أرجاء الصحـراء كلها، فسكر القوم من خمرة الفرح وتعانقوا وتصايحوا أن صرنا أصهار أمير المؤمنين.
في ذلك اليوم جلس الشيخ بكار في حلقة عظيمة لم يجلس قط في مثلها يتلقى التهاني من علية القوم ويدعو بطول البقاء لصهره العظيم، وأم المجد كذلك في مجلس آخر تتلى فيه آيات التبريك وتنثر عقود المدح والثناء على كريمتها المصونة ودرتها المكنونة .
إنها لا تقبل
وأما هذه الدرة المكنونة خناثة التي عهدتها العيون فتاة لعوبا طروبا فإنهـا قد اعتصمت طول اليوم بمخدعها واعترتها رجفة شديدة فدخلت عليها أمها تنكر عليها وتنهرها، لكنها لاذت بالوجوم ولم تنبس ببنت شفة، وإن كان اخضلال عينيها النجلاوين وذبول وجنتيها المتفتحتين ينمان عن ألم يقض نفسهـا الغضة ويمض بشرتها البضة، فاجتهدت أمها أن تستخلص سرّها وتستخرج ذات نفسها، ولكن من غير طائل، وإنما هو نشيج ووجيـب، فتركتهـا لشأنها حاسبة أن الأمر لا يتجاوز ما يعرض للفتيات المخطوبات من صدمة المفاجأة.
وكان لخناثة صديقة حميمة يدعونها الخنساء أو خناس لنبوغها الأدبي، استعانت بها أمّ المجد عسى أن تسري عن خناثة وتذهب عنها ما بها. فاختلت بها ساعة استطاعت خلالها أن تحل عقدة لسانها وتجعلها تبوح بما في نفسها، فإذا بها تذكر أنها غير مسرورة بهذه الخطبة، تخاف أن تكون لها عواقب وخيمة، لأن خطيبها مشهور بفظاظة الطباع وغلطة القلب، يأخذ بالشبهة ويقتل بالريبة، وأفظع من ذلك أنه مزواج مطلاق تجيش قصوره بجيوش الجواري والحرائر، فما ذا يكون حظها بين هؤلاء ؟ وما مصيرها ؟ وكيف تركن الى رجل جعل قلبه نهبا مقسما ولياليه أوزاعا وقسما ؟ ربما كانت قسمتها بينهن قسمة ضيزي ؟
فقالت لها صديقتها خناس :
-ولكنه ملك عظيم يا خناث، قد كرمك الله به وقلت به شرفا قل من ناله من النساء، فاذا كنت لبقة معه محسنة عشرته فستنالين قلبه من غير شك وتصرفينه عمن سواك، فيرفعك إلى المنزلة السامية بل ربما يرفعك إلى مرتبة الملكة، فتصيرين يا خناث سلطانة المغرب في عصرك، لا سيما وأنـت من محتد كريم ذات أدب جم وعلم غزير، تبصری یا حبيبتي، لا تضيعي فرصة نادرة قد ساقها الله اليك. بادري واستبشري؟
- آه يا خناس ! إن قلبي لا يسعفني، لا يطاوعني. إنه لا يرضى بالشركة، إنني لا أقبل ! لا أقبل ولو…
تعسا لك يا خناث ! يا عدوة نفسها ! أترفضين المجد والشهرة ؟ أترمين التاج والصولجان ؟ إنك طائشة يا عزيزتي متهورة ! ولم يكن جوابها الا أن انكبت على وجهها تتمرغ في النشيج.
يتبع…