تقديم:
يسرّ هيئة جريدة الشّمال، أن تعيد -من خلال هذه الحلقات- نشر هذا النّص السّردي المتعلّق بقصّة فتاة مغربيّة كانت لها مكانة في البلاط الإسماعيلي، نسجتها من خيوط التّاريخ والخيال، الدّكتورة آمنة اللوه رحمها الله، والذي نالت به جائزة المغرب للآداب عام 1954م.
(4)
تخاف أن يمتهنها
وهنا دخلت أمها وسألت: ما أمرها؟ فقصت عليها الخنساء القصة بحذافرها، فضربت الأم أخماسا في أسداس وحوقلت ثم صاحت:
- أهيلت يا بنـت ! ابك مس من الشيطان ! أتردین ید أمیر المؤمنين وهو لو أراد نجوم السماء لما امتنعت عنه ؟
-ولكني أمتنع عليه يا أماه اني أخاف أن يمتهنني وما عودتني إلا العز، ويرمينى بين الضرات وما في أرضنا ضرات.
فاقبلت أمها تربت على كتفها بحنان وتقول:
- هوني عليك يا بنتاه! لا تطلق العنان للسانك هكذا، ولا تجعلي نفسك فريسة الهواجس والأوهام؛ فان أم الخير عريفة دار مولانا السلطان حدثتني عنه أحاديث شائقة زادتني إليه رغبة على رغبة، وإنّي متيقنة أنك لو سمعت منها لما ترددت في القبول ولكنت اليوم أسعد خلق الله. دعيني أستدعي أم الخير فهي راغبة في رؤيتك منذ الصباح.
سيجعلك ملكة زمـانـك
دخلت أم الخير وهي امرأة شمطاء طاعنة في السن غير أنها تبدو لصلابة عودها وقوة أسرها كأنها لم تتجاوز بعد عتبة الأربعين. جلست بعد أن ألقت نظرة مختلسة على الخطيبة فأخذت تتحدث بطلاقة عجيبة ولسان خلاب عن فضائل أمير المؤمنين ومآثره النفسية ومحاسنه الشخصية، من غير أن تنتظر أن يسألها أحد عن ذلك، لأنها تعلم أن مهمتها هي تلك وأنها لم تبعث إلا لنشرها في الأوساط النسوية كما ينشرها القائد ابن عطية في مقامات الرجال. وكانت من حين لآخر تلقى نظرة من طرف خفي على المخطوبة، فراعها أن ترى الفتاة كتيبة كسيفة. فقالت في تعجب ظاهر: “ما دهـاك يا بنيتي؟ ألست أنت طبية الحي، وشمس نهاره، وقمر لياليه ! ألا تعلمين أنك ستكونين غدا قرينة أعظم رجل يدب على وجه الأرض؟ إنك منذ اليوم لبـوءة ذلك الأسد، إنه سيعزك ويعلي شأنك، سيرفعك إلى مقام لم يرفع إليه امرأة، سيتخذك شريكته في كل شيء، في المال وفي التاج والملك والسلطان، أو بكلام مختصر إنه سيجعلك ملكة زمانك وسيدة نساء عصرك… قد قال لي هذا وكلفني أن أبلغك إياه. وهذه هديته إليك أمرني أن أضعها في يدك”. فقامت وقدمت لها علبة مرصعة وضعتها في حجرها بعد أن فتحتها فبرز منهـا بالوسط خاتم ذو فص يخطف الأنظار وحوله عقد لآلىء تتوسطها زمردة تبهر الأبصار .
أخذ قلبها يأنس
نظرت الفتاة إلى الفص وإلى الزمردة نظرة فيها كثير من الإعجاب فدل ذلك على أن قلبها أخذ يسلس القياد بعد جموح ويأنس بعد نفور، إلا أن الذي رد قلبها في الواقع ليس الحلي والجوهـر ـ كما قالت لصديقتهـا ـ وإنما هي كلمة قامت بها العريفة من حيث لا تدرى : «انه سيجعل منك سيدة نساء زمانك، لقد ذكرتها هذه الكلمة ورجعت بها إلى عشية مضت، يوم أن جلس أبوها في مجلس الدرس يستعرضها بعض دواوين العرب، فلما وجدها تحفظها عن ظهر قلب إلى جانب حفظها كلام الله وكلام رسوله ابتهج الشيخ ولم يجد شيئا يكافئها به إلا أن يدعو لها: أن يجعلها الله سيدة نساء زمانها”، وما كانت تشك قط في أنه عز وجل مجيب دعاء أبيها إذ كان مجاب الدعاء .
تعميم الـمـسـرات
وفي اليوم التالي خرج الحي كله يودع الوفد الكريم في طريقه إلى محلة أمير المؤمنين لينهي إليه أن الخطة المرسومة قد تمت، وأن خناثة الحسيبة النسيبة ستزف إليه في الأسبوع التالي في محفل فخم، لم تشهد الصحراء مثله.
فطير الإعلام بذلك إلى حواضر المغرب وبواديه وحملته أجنحة الطير إلى كرسى الإمبراطورية مكناسة الزيتون لاتخاذ الزينات وتعميم المسرات طيلة الأسبوع ابتهاجا بفرح سيد البلاد، كما أعلن أن سائر الأعراس التي ستقام بالصحراء داخـل الأسبوع تكون نفقاتها ولوازمها على عروس الصحراء وضيف الصحراء.
وأما في المحلة فقد أقيمت الزينات وشرع في الاستعدادات ووجهت الدعوات إلى سادة الصحراء، فصاروا يتواردون على نجائبهم وجيادهم في حلل بهية فضفاضة وأمامهم الأنعام يسوقونها هدية وعربون الولاء. نتابعت وفودهم على تلك الحال إلى أن استحالت المحلة إلى محشر أممي لا يحصى عددا .
مـوكـب الـعـروس
ولما كان اليوم الموعود نادى مناد: إن الدراهم والدنانير ستنثر على رؤوس الأشهاد ساعـة مرور موكب العروس. فهبوا جميعا وهبت الصحراء على بكرة أبيها تشهد موكب العروس الحسناء وقد سارت فيه عقائل الأشراف والمقصورات في الخيام تحوطه النجائب من كل جانب وتوضع الخيل المسومة أمامه وتخب من خلفه، والفرق الموسيقية تعزف الألحان وتملا النفوس بهجة وحبورا. سار الموكب كذلك إلى أن بلغ محلة المعسكر فحيته المدافع والمهارس وانهمر وابل الدراهم والدنانير يتناثر فوق رؤوس الملا إلى أن لم يبق أحد إلا وقد ملا منها كفيه.
ليلة مشرقة
فبات المعسكر ليلة مشرقة، نزلت فيها نجوم السماء إلى الأرض وانطلقت السنة النيران من الشهب المرسلة والألعاب النارية تلحس ظلمات الليل في جوانب الصحراء حتى كان الليل تتهاوی کواکبه أو كأن الشمس لم تغب. وفي كل مكان مدت الموائد الملكية التي لا يرد عنها أحد وقد تصدر أمير المؤمنين منها مائدة مستطيلة جلس إليها نحو مالة مدعو من علية القوم اختلفت عليها اصناف الطعام وأنواع الملاذ مما لا يدخـل تحـت حصر ولا يأتى عليه وصف . ولم ير المولى إسماعيل أبھى ولا أسخى ولا أرضى منه في تلك الليلة، كان يهش ويبش ويؤانس ويناقل الأحاديث ويبادل الأسمار والأخبار، طرح عنه الكلفة جانبا ونزع جلباب الأبهة الذي لا يكاد يفارقه، وقد استمـع في آخر الحفل إلـي الشعراء يقدمون إليه ما جادت به قرائحهم تخليدا لهذا اليوم السعيد، فكان يهتز طربا ويفيض بشرا لأشعارهم الرقيقة التي قابلها بفيض من سخانه الجم.
يتبع…