1373هـ-1954م
تقديم:
يسرّ هيئة جريدة الشّمال، أن تعيد -من خلال هذه الحلقات- نشر هذا النّص السّردي المتعلّق بقصّة فتاة مغربيّة لعبت أدواراً هامّة في البلاط الإسماعيلي، نسجتها من خيوط التّاريخ والخيال، الدّكتورة آمنة اللوه رحمها الله، والتي نالت به جائزة المغرب للآداب عام 1954م.
مَوكب !
هيا بنا إلى فترة من فترات التاريخ المغربي الحافلة بجلائل الأعمال، نشاهد موكبا مُلوكياً أجمعت القرون والأجيال على أنها لم تشاهد مثله قط، ولا مر بها ما يضارعه روعة وهَولا ومهابة وجلالة. كان إذا سار امتد في خيط طويل إلى نحو مسيرة يوم، لا يكاد طرفاه يلتقيان أو يتعارفان وإنما ينزل أحدهما برحيـل الآخر، ومع ذلك كان لا يغيب بعضه عن بعض، ولا يخفى شيء منه عن سائره؛ بل إن البريد يركض من خلاله، والأوامر تتوارد وتتعاقب من إرادته المتحكمة وقلبه المركزي، فكأنه هذه العقاب التي يمتد جناحاها امتداداً بعيداً في الفضاء، ولكنهمـا يخضعان لقلب واحد وارادة واحدة.
هو موكب من مواكب الدولة العلوية الفتية، يتحرك في وقار وجلال فتحسبه يسير سيراً وئيداً، غير أنّه يطوي الأرض طيّا ويلتهمها التهاما كأنها تزوّى له أو تتقلص، إذا اعترضه حزن ذللته سنابکه، أو جبل طاولته مناكبه، أو واد سالت فيه أعناق مطيّه.
وإذا نزل بمكان تحول إلى مدينة صاخبة تبنى بها القباب الشامخة وتقام الأسواق العامرة، ويدعى إلى الولائم والأعـراس، وتنصب القضاة وتقضى الحقوق، حتى إن أفراد الركب لينسون أنهم سفر فيقيمون فرائض الدين على التمام والكمال، وما يذكرهم إلا أذان الرحيـل الذي يجلجل كلّ صباح في جنبات المعسكر: ألا إن أمير المؤمنين قد ركب ! اركبوا !
غـايـة الـركـب
تسامعت قبائل الجنوب أنّ الرّكب متّجه إليهم فاستبشروا وتفننوا في الاستعداد، كل قبيلة بما يفوق الأخرى وبما يفوق الوصف، وظنوا أنهم غاية الركب القصوى، وأنّه لا يمكن أن يتجاوزهم إلى ما وراءهم من أقاليم الصحراء التي لا يتجاسر ركب بمثل تلك الضخامة على ركوبها، إلا أنهم رأوا أمير المؤمنين يوصى باتخاذ المزاد والروايا محتما على كل راجل أن يحمل واحدة وعلى كل راكب أن يحمل اثنتين، فعلموا أن همة الأمير لا تقف دون شيء، وأن سموم الصحراء وكثبانها تهون أمام عزماته كما هانت ثلوج الأطلس وشواهقه أمام جولاته.
فهو يريد لأمر لا يظهره أن يدخل أرض عرب شنجیط موطن قبائل معقل أخواله الأمجاد، وموطن قبائل حسّان وقبائل الزوايا وغيرهم من العرب الأقحاح الذين استوطنوا ذلك الإقليم من قديم الزمان، حيث احتفظوا بأحسابهم وأنسابهم وتوارثوا خير المآثر والمكارم، متعصبين لها ومتمسكين بلغتهم العربية الفصيحة وبأخلاقهم الأصيلة الصريحة.
بِيد .. إثرها بِيد!
ثم لم تمض إلا أيام حتى تجاوز الموكب بلاد نول والساقية الحمراء متوغّلا في دروب الصحراء ومهامهها، وريح السّموم تكوى منهم الجنوب وتلفح الوجوه، والرمضاء تتلظى تحت الأقدام، والكثبان تنهال وتنهار، حيث يكون الفلج والسبق لذوات الخفّ ويذهب الزهو والخيلاء عن ذوات الحافر، وحيث ينقلب البصر خاسئا حسيراً، فلا معالم تستوقفـه، ولا مناظر تلهيه، وإنما هي موماة يضل فيها القطا ويظمأ الضبّ، وبِيد إثرها بِيد لا تفترش إلاّ السعـدان، ولا تنبت إلا الأثـل والعرفج، ولا تطعم إلاّ الشيح والقيصوم، ومفاوز لا تبض بقطرة إلا ما في الروايا على ظهور الإبل أو ما في الحوايا داخل أحشائها؛ فزموا أفواه القْرَب، وصارت لا تفتح إلا لمواعيد ولا تصرف إلا بمقادير، وكظموا مشافر النوق حتى لا تجتر فتستنفد ما في أجوافها من ماء، واهتبلوا رخصة الإسلام فاكتفوا لوضوئهم بالصعيد الطاهر.
ولم يكن يخفف عنهـم هذا العناء ويذهـب عنهم هذا الوصَب المتواصـل إلا ما تتلقاهم به الأعراب في مضاربها وحللها من تقديم الحليب والتّمر ونحر العِشار والقيام بواجب الضيافة على الّسنة العربية، فقد كانوا يتسابقون إلى ذلك وإلى نشر أعلام الزينة والفرح ترحيباً بضيفهم العظيم وإظهاراً لواجب الولاء.
الى واحـة الـغـفر
وقبيل زوال يوم شارف الركب واحة الغفر المشهورة عند تخوم السودان بوفرة مائها ووريف ظلالها، وكان قد سبق إليها قائد الأفراك السلطانية مع رجاله المنوط بهم إقامة السّرادقات ونصب الأخبية، وتنظيم الفسطاط على النمط المخزني الرائع.
وما هي إلا هنيهة حتى وصلت فرقة من الخيّالة والمُشاة فبادرت وأحاطت بالفسطاط السلطاني واصطفّت أمام السّرادق في نظام بديع… وإنها لكذلك إذا بفرقة من الفرسان والهجانة تتقدمها جوقة الموسيقى معلنة بطبولها ومزامرها مقدم أمير المؤمنين، فتسارع كبار القوم يقفون في السماطين المضروبين أمام الفسطاط. فلما أشرقت عليهم طلعة السيد الهمام على جواده المطهّم تظلله المظلة الملكية حيته مدافع المحلة وهتفوا جميعا باسمه الكريم: النصر والتمكين وطول البقاء لأمير المؤمنين مولانا إسماعيل العظيم !
فترجل المولى ودخل قبته الفخمة المصنوعة من ادم احمر مبطن بمخمل أخضر تزينه زركشة جميلة، وعلم الدّولة الأحمر المرقوم بخيوط الذّهب يرفرف على الصاري إشعاراً بأن الدولة المغربية توجد حيث يوجد.
القيلولة
دخـل السيد القبة بمفرده وتفقد فيها بعين فاحصة فوجد كل شيء في مكانه، أدوات الملك موضوعة على النضائد، والخزائن قائمة محكمة الإقفال، والأصونة مرصوصة منطوية على الأسرار، والطنافس مبثوثة بالجوانب، والوسائد منضودة أمامها الصواني اللامعة وعليها أکواب ذهبية تنتظر الشراب والشاربين. فارتاح المولى لما رأه وقال : الحمد الله الذي بوأنا منزلا أمينا بعد رحلة شاقة، فارتمى على مقعد وثير وأخذ يفك عنه حمائل سيفه وأزرار صدرته، ثم صفق ودخل الحاجب وأمره أن يأذن للقوم بالاستراحة من وعث السفر ريثما يصل بقية الركب. وبعد ذلك خرج السيّد من باب خلفي يفضي الى أخبية الحريم حيث غاب مدة القيلولة.
… يتبع