يمكن أن نصنف الساردين في رواية ” كائنات محتملة ” لمحمد عز الدين التازي كما يلي :
1 ـ السارد صاحب الاستهلال : ابن ضربان الشرياقي . والملاحظ أنه يستخدم ضمير المخاطب . يوجه خطابه إلى السارد الرئيسي في الرواية ليخطره ـ وكأنه يشمت به ـ بوقوعه في شرك الحكي عن مدينة زرقانة وعجائبها وغرائبها ، كما ينهي إلى علمه صعوبة اختراق الأسرار التي تمتليء بها ، والمعاناة التي يتجشمها من يتصدى للحكي عنها .
2 ـ السارد الرئيسي صلاح التافراوتي : وهو راوٍ شاهد على الأحداث ، مشارك فيها، يحكي عن غيره أكثر مما يحكي عن نفسه ([1])
3 ـ السارد المعلق : ويتدخل للتعليق على السارد الرئيسي في مواطن عديدة من الرواية( [2]) فيعلق على الطرائق التي يعتمدها في السرد، وعلى المنظور السردي الذي يروي من خلاله الأحداث . وينتقد تلكأه في سرد أحداث الهجرة التي هي موضوع الرواية ، كما يدعو القاريء إلى عدم تصديق ما يرويه ، فما هو إلا كذب وتخاريف تقع في ذهن السارد الرئيسي.
إن السارد المعلق يعلن تمرده على السارد الرئيسي ، لأنه لا يريد أن يمارس الحكي على الطريقة التي عهد بها إليه . إنه راوٍ كلاسيكي ـ كما يصرح هو نفسه بذلك ـ يسرد حكايته اعتماداً على البنية الكلاسيكية للرواية ( بداية وسط نهاية) لا على أساس السرد القائم على نتف وشظايا وحكايات أو شذرات مفككة كصنيع خصمه السارد الرئيسي .
وإذا كان السارد المعلق ، يصر في بعض تعليقاته ( ص: 35 و 36) على أن السارد هو نفسه المؤلف ، فإنه في بعض تعليقاته الأخرى ينفي عنه هذه الصفة ، ويعتبره مجرد سارد ، أما المؤلف فإنه يختفي وراء ستار ( ص : 68 ) بل إنه يعتبر أن هذه الرواية لا مؤلف لها ، وإنما الذي يؤلف بينها الحكايات التي تقع في مدينة زرقانة ( ص : 68 ) . وهذا ما يشير إليه ميشيل بوتور بقوله : « ليس الروائي هو من يصنع الرواية ، بل إن الرواية هي التي تصنع نفسها بمفردها ، وليس الروائي إلا أداة مجيئها إلى العالم ». ( ([3]إن السارد المعلق يتبنى التنظيرات الحديثة في الكتابة الروائية في بعض التعليقات ، ولكنه في الأغلب يجنح إلى تبني الطرائق السردية المعتمدة في الرواية التقليدية. ومن ثمة جاءت تعليقاته اللاذعة حول خواتم الشخصيات الروائية التي كان ينبغي أن تكون خواتم سعيدة .
والملاحظ أن السارد المعلق يقوم بدور التنظير للكتابة الروائية ، والكشف عن التقنية المعتمدة في بناء الرواية ، ( اعتماد رواة متعددين ـ تعدد الشخصيات ـ الابتعاد عن البناء الكلاسيكي المنظم و إقامة الرواية على أساس بناء يجعلها قائمة على نوع من الفوضى المنظمة ) ([4])
- ـ السارد ـ الشخصية المرواني :
يتسلم السارد الشخصية المرواني زمام السرد من لدن الراوي الرئيسي مرتين فيحكي لنا السارد ـ الشخصية المرواني في مقاطع سردية عديدة عن سيرته ، وما وقع له من أحداث جسام ، أثناء هجرته إلى إسبانيا ، ثم إلى ألمانيا ، وعن الشخصيات التي صادفها سواء في زرقانة أو خلال هجرته في الغرب الأوروبي.
- ـ السارد ـ الشخصية المعلم النجار المرغادي :
يتكفل هذا السارد الشخصية المشارك في الحدث بسرد أحداث تتعلق على الخصوص بابنه سعد الدين الذي يعتبره أكبر وجع في حياته. إنه يمثل الأبوة المفجوعة في ولدها الوحيد الذي خاض غمار السياسة ، فأجبر على النفي إلى إسبانيا فرارا من حكم غيابي قاس. ولأن المعلم النجار فنان في النجارة ( من أصل أندلسي ) ، وعلاقته مع الخشب علاقة حميمة ، فقد صار ملاذه ، يخفي بين نقوشه أشجانه وآلامه وحرقته ” إنني أعود إلى الخشب ، أحسه وأرق له ، فيرق لي ” ( ص : 113). في هذا البلد كان يلين الحجر ، وتنعم جذوع الشجر ، بينما تقسو وتغلظ قلوب البشر.
ويلاحظ أن حكي هذا السارد يمتليء بالشجن ، ويتسربل بالشاعرية ، وينم عن نفس شديدة الرهافة . وحديثه عن ابنه سعد الدين يقطر رقة وحناناً وإنسانية . إنه قطعة أدبية راقية مليئة بالإحساس الإنساني الرفيع ( ص : 113 )
من خلال سرد السارد ـ الشخصية المعلم النجار ، نتعرف على الأوضاع السياسية التي كان يعرفها المغرب بعد أحداث سنة 1981. ويلاحظ أن ما يميز السرد لدى هذا السارد هو المزج بين أحداث تاريخية وقعت في عالم الواقع ، وأحداث وقعت في عالم الأحلام والكوابيس .
- ـ السارد ـ الشخصية الغرناطي :
نصادف سرد الغرناطي في ثنايا الرسائل الثلاث التي بعثها إلى خطيبته “عشوشة” ، ففي الرسالة الأولى يحكي الغرناطي العاشق الصادق لخطيبته عن كيفية هجرته على متن مركب صغير مع 17 من المهاجرين السريين ، وعن وصوله إلى إسبانيا . وفي الرسالة الثانية ، يحكي عن ظروف حياته وعمله المضني ، ويعبر لحبيبته عن خوفه عليها من أولاد الحرام ، كما يخبرها بأنه تخاصم مع أحد السماسرة المغاربة ، فهدده بإبلاغ السلطات الإسبانية عن وضعه غير القانوني. أما في الرسالة الثالثة فيبلغ الخطيبة تعرضه للطرد من العمل. إن سرد الغرناطي يأتي عن طريق رسائل حميمة لعاشق صادق العشق يبعثها إلى امرأة لا تأبه بالعواطف ، ولا يهمها إلا المال القادم من الضفة الأخرى.
الفضاء الروائي :
يمكن أن نقسم الفضاء الروائي في رواية ” زرقانة ” إلى فضاءين :
1 ـ الفضاء الرمزي :
هو مدينة ” زرقانة ” وتتضمن عدة فضاءات تؤثثها ، وتوهم المتلقي بوجودها في عالم الواقع ” فهناك في ” زرقانة ” المرسى والديوانة ومحطة القطار ، وقبل أن يظهر البنك ومركز الشرطة ، ومقر الباشوية والمجلس البلدي . ما كان في ” زرقانة ” غير البرج والعبيد الذين يعيشون بداخله وحواليه ” ( ص : 17 ) ، ولكن الراوي يوحي إلينا أنها تنتمي إلى عالم أسطوري . يقول : ” لعلي أمام مدينة أسطورية يكون الداخل إليها مفقوداً والخارج منها مفقوداً أيضاً ” ( ص : 18 )
صحيح هي مدينة متخيلة لا وجود لها في عالم الواقع بهذا الاسم ، إلا أن كثيراً من ملامحها واقعية ، تؤكد أن لها وجوداً في الخريطة المغربية خاصة في شمال المغرب، لكن باسم آخر .
و غير خفي أنه كما” أن زمن الرواية ليس زمن الساعة، كذلك فإن مكان الرواية ليس المكان الطبيعي. فالنص الروائي يخلق عن طريق الكلمات مكاناً خياليا له مقوماته الخاصة وأبعاده المميزة “. ([5]) و” ليس من الضروري أن نبحث عن مماثل له في الواقع ، مادامت وظيفة المكان في الرواية وظيفة رمزية واستعارية ، تؤدي دورها مع المكونات الأخرى للعالم التخييلي في الرواية ” ([6])
2 ـ الفضاء الواقعي :
إنَّ الراوي يأبى إلا أن يصرح لنا في نهاية الرواية بأن هذا الفضاء ، سواء بملامحه التي لها وجود في الواقع ، أم بملامحه الفانطاسطيكية التي أضافها إليه خيال المؤلف ، هو صورة مصغرة لفضاء واقعي أكبر هو المغرب.. يقول الغرناطي مخاطباً الراوي الرئيسي ” صلاح ” : ” هذا المغرب هو زرقانة. المغرب زرقانة كبيرة وفي بحره يأكل الحوت الكبير السمك الصغير ، كما في بره، وأنا وأنت سنبقى سمكاً صغيراً لأننا نعيش بكرامة ” ( ص : 153 ).
إن فضاء “زرقانة” كما تقدمه الرواية هو فضاء التهميش والقهر والفقر والفساد الإداري والارتقاء الاجتماعي عن طريق الانتخابات التي كثيرا ما يشوبها التزوير والتزييف. هو شاطئ يقف عليه أبناء هذه المدينة المحرومون ، يحلمون بالهجرة إلى الضفة الأخرى ، فرارا من هذا الجحيم الأرضي الذي يبدو أنه غير قابل لأن يصير حيزا أكثر إنسانية وقابلية للحياة الكريمة.
[1] ـ الرواية ، ص : 17 .
[2] ـ الصفحات : ( 35 و 36 / 48 و 49 / 67 / 120 و 121 / 138 )
[3] ـ Las voces de la novela . Biblioteca romantica hispanica. Editorial Gredos . Madrid ، Oscar Tacca .
Segunda edicion .1978. p.33 .
[4] ـ انظر الرواية ، ص : 120.
[5] ـ سيزا قاسم ، بناء الرواية ط .1 ،دار التنوير للطباعة والنشر، بيروت ـ لبنان، ص : 100 .
[6] ـ محمد العافية ، الخطاب الروائي عند إميل حبيبي ، ط. 1 ، مطبعة النجاح الجديدة ، الدار البيضاء ، ص : 180 وما بعدها.
بقلم : عبدالجبار العلمي