الموسيقى الأندلسية بالمغرب:
يرى المرحوم الأستاذ محمد المنوني، أن الموسيقى الأندلسية المغربية تمتد في مرحلتها الأولى إلى العصر المرابطي، حيث بدأت تتدفق على المغرب، بعد توحيده مع الأندلس، فازدهرت في بعض مدن المغرب، بسبب انتقال إمام التلاحين الأندلسي – وهو ابن باجة – إلى المغرب، واستقراره به عشرين سنة كوزير لمخدومه يحيى بن يوسف بن تاشفين، وقد توفي بمدينة فاس سنة 533هـ. ومن المعروف أن ابن باجة هو منظم الألحان المعتمدة بالأندلس وفي هذا يقول ابن سعيد: «وإليه تنسب الألحان المطربة بالأندلس التي عليها الاعتماد».
وابن باجة، شخصية فذة وعبقرية موسيقية متفتحة. ألف أكثر من عشرين كتابا تناول فيها مختلف معارف عصره من طب وفلسفة وعلوم طبيعية ورياضية، وواحد من الوشاحين المشهورين، جمع بين الموسيقى والغناء في موشحاته. وصفه ابن خلدون بأنه «صاحب التلاحين المعروفة» وابن سعيد بأنه «فيلسوف المغرب وإمامها في الألحان» ومن الحكايات المشهورة عنه أنه حضر يوما مجلس أمير سرقسطة أيام المرابطين، أبي بكر ابراهيم بن تيفلويت فأعطى مغنية كانت هناك موشحة من نظمه فغنتها وكان مطلعها:
جرر الذيل أيما جــــــر
وصل الشكر منك بالشكر
فلما طرق سمع الأمير قول الشاعر:
عقد الله راية النصر
لأمير العلا أبي بكـــــــر
طرب وصاح: واطرباه، وشق ثيابه وقال ما أحسن ما بدأت وما ختمت. وحلف بإيمان مغلظة أن لا يمشي ابن باجة إلى داره إلا على الذهب. فخاف الأمير سوء العاقبة فاحتال بأن جعل في نعله ذهبا ومشى عليه.
لقد كان ابن باجة بحق أول من أدخل التلاحين الأندلسية إلى المغرب، وقد مكنه طول استقراره به من نشرها وتعليمها في ظل الدولة الحاكمة ورؤسائها. ويرى الدكتور محمد بن شريفة: «أن أكبر اسم نجده في تاريخ الموسيقى الأندلسية المغربية بعد زرياب هو الفيلسوف ابن باجة».
وإذا كان فن الموسيقى الأندلسية قد تعرض لشيء من المقاومة أيام الموحدين، تأثرا بما قامت عليه الدولة من التدين ومقاومة المنكر، فإنه لم يشهد رواجا للموسيقى على رأي الفيلسوف ابن طفيل الذي قال قولته الشهيرة: «لو نفق عليهم علم الموسيقى لأنفقته عليهم».
ويرى الدكتور عباس الجراري: «وعلى الرغم من أن الموحدين كانوا أكثر رعاية للفنون والآداب ومجالس الشعر، فإننا نجد الشقندي وهو يتحدث عن آلات الطرب الأندلسية في رسالته التفاخرية يتعرض للمغرب بقوله: (وليس في بر العدوة من هذا شيء إلا ما جلب إليه من الأندلس، وحسبهم الدف وأكوال (أقوال) واليرا وأبو قرون ودبدبة السودان وحماقي في البربر).
إلا أنها قاومت وصمدت في وجه التيار المحافظ، لتفرض وجودها بعد ذلك أيام المرينيين (674-869هـ/1275-1464م) الذي عرف ازدهارا عظيما للموسيقى في حواضر المغرب الشهيرة كفاس ومراكش وسلا والرباط وتطوان وشفشاون وغيرها.
ويذكر المرحوم عبد الله الجراري: «أنهم كانوا يتوسلون بها في علاج المرضى، على حد ما كان يتم في مستشفى سيدي فرج بفاس حيث حبست عليه أحباس خاصة كانت تصرف لجوق الطرب الأندلسي الذي كان يحضر مرة كل أسبوع ليطرب نزلاء المستشفى من مرضى الأعصاب».
ومن بعدهم السعديين حيث ظهرت نهضة جديدة وبرز عدد من الفنانين ومن جملتهم (علال البطلة الفاسي) المتوفى سنة 961هـ الذي استطاع أن يلحن على مقام الذيل نوبة كاملة أطلق عليها اسم استهلال الذيل. وازدادت انتعاشا أكثر بعد الهجرة النهائية للأندلسيين سنة 1609م، حيث أصدر الملك الإسباني فيليبي الثالث قرارا بطردهم من اسبانيا، بعد أن يئست المحاولات المتعددة والمتعاقبة من تحويلهم عن دينهم، واعتناق المسيحية، ولكن دون جدوى، فاضطروا إلى مغادرة أراضيهم نحو شمال افريقيا وغيرها. فاستقر هؤلاء في أنحاء مختلفة من البرتغال والمغرب وتونس والجزائر ومصر، بل وصل بعضهم إلى القارة الأمريكية، حاملين معهم عاداتهم وتقاليدهم، واستفاد الأهالي من خبرتهم ومهارتهم في سائر مرافق الحياة اليومية فهاجر الفن بأجمعه إلى المغرب، واشتغل الناس به اشتغالا كبيرا، فاحتضن التراث الموسيقي وصيانته والحفاظ على النوبة تأليفا وصناعة كما يقول الدكتور الباحث عباس الجراري.
«فإن من حسن حظ هذا التراث أنه انتقل إلى المغرب العربي الذي حافظ على جوانب كثيرة منه مثلما حافظ على إرث ضخم من حضارة الأندلس وثقافتها، وكان مهيئا لهذه الرسالة، على الرغم من مواقف بعض المؤرخين والدارسين الذين ينسون أن الكيان الإسلامي في الأندلس قام منذ الفتح على كاهل المغاربة، وأن هؤلاء المغاربة ظلوا طوال العهود الأندلسية يشكلون هذا الكيان ويمدونه ويحمونه ويتبادلون وإياه التأثر والتأثير، وأنهم هم الذين احتضنوا ما تبقى من الأندلس الإسلامية سواء على الصعيد البشري أو في مجال الحضارة والثقافة».
وكان من الطبيعي أن تتمغرب الموسيقى الأندلسية مع مرور الزمن بما أدخل عليها المغاربة بعد هذه المرحلة من تعديلات مختلفة في ألحانها وأشعارها وترتيبها. ويرى الباحث المغربي عبدالعزيز بن عبد الجليل أن المغاربة «شاركوا منذ البداية في تكوين هذا التراث، واستقلوا به بعد هجرة المسلمين من غرناطة. فازدهرت المدرسة التطوانية التي استقر بها العديد من الغرناطيين، بالإضافة إلى مدرسة فاس التي انتقلت إليها المدرسة الغرناطية والبلنسية القديمة وامتزج الكل ليفرز هذا التصور للوضع الجديد من خلال الصورة الجديدة للموسيقى الأندلسية التي نعرفها الآن».
ففي المؤتمر الموسيقي الذي انعقد في القاهرة سنة 1932م قرر المؤتمرون أن الموسيقى في المغرب وحدها ظلت أصيلة، فتعهدتها منظمة اليونسكو بالرعاية كصرح حضاري هام وجب العناية به والحفاظ عليه.
محمد القاضي