النوبات الأندلسية بالمغرب:
ترى الباحثة (سمحة الخولي) أن «النوبة الأندلسية ويناظرها في الشرق (الوصلة) تمثل نظاما خاصا في تتابع المقطوعات الغنائية والموسيقية، أصبح تقليدا يتوارثه أبناء المغرب العربي باحترام عظيم. ونستطيع القول بأن النوبة أو الوصلة تناظر مفهوم المتتابعة أو (السويت ORDRE) في الموسيقى الغربية، وهي مثلها تتميز بوحدة المقام فتكون الوصلة مثلا في مقام الراست أو تكون النوبة في طبع السيكاه».
وكانت الموسيقى الأندلسية تعرف عند دخولها المغرب باسم (فن الآلة) تمييزا لها عن فني الملحون والسماع، إضافة إلى نوبات الموسيقى الأندلسية عندما وفدت إلى المغرب، كانت عبارة عن نوبات آلية، ولم تكن قد انتظمت بعد في منظوم الكلام سواء كان شعرا فصيحا أو مقطوعة زجلية أو موشحة.
تتكون الموشحات في أغلبها من خمسة أبيات كحد أدنى، ومنها ما يصل إلى السبعة أبيات، حرصا على اكتمال المعنى والتئام الصورة الشعرية، إلا أن هناك من الموشحات ما يتألف من أربعة أبيات وتختتم بأبيات توفرت فيها جميع خواص (الخرجة)، والخرجة هي من القواعد الفنية التي عرفها الموشح منذ عهد ازدهار اشبيليا وطليطلة، وهي استخدام عبارات باللغة العامية أو الأعجمية، وهو أمر مستحب بل ومفضل، وجدير بالذكر أن هذه الخرجة استهدفت التداخل بين الفصحى والعامية مع العلم أن أدب الموشح يستدعي اللغة الزجلة ذات الوقع الجميل بين الأذن والتعابير المستظرفة، باعتبار أن الموشح يؤدى غناء.
إن فن الموشحات ما يزال يحتفظ بجملة من القواعد والأصول ومن بينها استخدام الصور الشعرية الإيحائية، والمترادفات في شكل الجناس والخرجة. وفي جانب آخر فإن خروج الموشح عن النسج اللفظي التقليدي، وتطعيمه بالعنصر الشعبي المتمثل في الخرجة، قد شكل قفزة من القفزات أدت إلى الشعر الشعبي العامي المسمى (بالزجل).
قال بطرس البستاني في كتابه (أدباء العرب):
إن الموشح فن أندلسي خالص «استنبطه أهل الأندلس وسموه موشحا لما فيه من الصنعة والتزيين».
والجدير بالذكر أن النوبة الأندلسية تمثل نظاما خاصا في تتابع المقطوعات الغنائية والموسيقية. وهي كذلك الوحدة الأساس التي تشكل منها المجموعة الكبرى، التي هي (الموسيقى الأندلسية). وكان أحمد التيفاشي من القرن السابع الهجري قد قدم تعريفا جامعا لمصطلح النوبة في كتابه (فصل الخطاب من مدارك الحواس الخمس لأولي الألباب) قائلا: «النوبة الكاملة للغناء بالمغرب تقوم على نشيد واستهلال، وعمل، ومجرى، وموشحة، وزجل وجميعها يتصرف في كل بحر من بحور (أي الأدوار) الأغاني العربية»، فالنوبة ثمرة حضارية عريقة، ووليدة مجتمع متمدن نشأت في رحابه ونمت وتطورت بخطى ثابتة ومتواصلة حافظت على خصوصياتها ومميزاتها العامة كلون موحد ومميز مستمد من روح الحضارة العربية الإسلامية.
ويقال إن عدد النوبات الأندلسية كانت أربعا وعشرين نوبة، بعدد ساعات اليوم، غير أن الذي بقي منها الآن لا يتجاوز إحدى عشرة نوبة في المغرب، وفي تونس (يتوفرون على ثلاث عشرة نوبة). وقد جمعها محمد بن الحسين الحايك التطواني سنة 1800م، وكان تلميذا لأبي العباس أحمد بن محمد بن عبد القادر الفاسي، وعنه أخذ هذا الفن فكان أحد الرواد الكبار الذين لمع اسمهم في القرن الثالث عشر الهجري، والمشهور بكناشه (الكتاب) الجامع للنوبات الموسيقية الأندلسية، فحفظها من الضياع، وصارت عمدة الموسيقيين إلى أوائل القرن الرابع عشر الهجري، وقد طبعه أول الأمر الفنان المرحوم المكي مبيركو الرباطي سنة 1354هـ/ 1935م. كما ذكر المرحوم عبد الله الجراري. وكان موضوع دراسة جامعية للمستعرب الإسباني (فيرناندو بالديرما) حيث حصل على درجة الدكتورة من جامعة مدريد تحت عنوان:( الفقيه الحايك والموسيقى الأندلسية) طبع بتطوان سنة 1953م. والذي كان مكلفا بشؤون التربية والتعليم أيام الحماية الاسبانية على منطقة الشمال المغربي، وأنجز دراسات مهمة عن (زوايا مدينة تطوان) و (قصور الريف) و(قصر الخليفة بتطوان) و(مسجد سيدي السعيدي)، وكتاب ضخم في 1170 صفحة عن: (تاريخ الحركة الثقافية الاسبانية في المغرب 1956-1912م). وكان يتقن اللغة العربية ويكتب بها.
وقام الفنان الحاج ادريس بنجلون التويمي الذي كان رئيسا لجمعية هواة الموسيقى الأندلسية في المغرب، والسيد عبد اللطيف بلمنصور، كل على حده، بتحقيق هذا «الكناش» وإخراجه إلى حيز الوجود كاملا. الأول يحمل عنوانا (التراث العربي المغربي الأندلسي) وقد اهتم فيه بالجانب الفني في دراسة النصوص، وتنسيقها، وتصحيحها، مسجلا النوطة الموسيقية بالحروف بجانب الأبيات الشعرية التي تؤدى عليها. والثاني قام بإصداره بعنوان (مجموع أزجال وتواشيح وأشعار الموسيقى الأندلسية المغربية المعروفة بالحايك) وقد اعتنى في إعداده، وتنسيقه، وترتيبه، وتحقيق النصوص، ونسبتها إلى مبدعيها، كلما تيسر له ذلك، كما ذيله بالتعريف بأعلام الموسيقى الأندلسية المغربية.
ويرى الفنان محمد الطود رئيس الجوق الأندلسي للإذاعة الوطنية السابق أنه: «فيما يخص النصوص سواء الشعرية أو الزجلية المغربية الأندلسية، نجد المصدر الأساسي في كتاب (الحايك) الذي قام بمجهودات جبارة شملت جميع الأشعار والأزجال الأندلسية وما تغير منها عن طريق استبدال بنصوص مغربية».
ومن الكتب الجديدة الصادرة حديثا والتي لها علاقة بالموضوع ما ألفه الفنان المهدي عبد السلام الشعشوع رئيس جوق المعهد التطواني تحت عنوان : «ديوان الآلة – نصوص الموسيقى الأندلسية المغربية» وهو كتاب غني بالنصوص الموسيقية الأندلسية. بدل فيه الباحث جهدا كبيرا، فقد اطلع على ما كتبه السابقون في هذا المجال، كما استفاد من الفنانين المعاصرين. أما النوبات فهي: (العشاق- الحجاز المشرقي- الأصبهان- الرصد- رصد الذيل- غريبة الحسين- عراق العجم- الماية- رمل الماية- الاستهلال- الحجاز الكبير). وكل نوبة تؤدى على خمسة موازين وهي: (البسيط- القائم ونصف- البطايحي- القدام- الدرج) وكانت كل نوبة خاصة في الأصل بوقت تنشد فيه، ولا يجوز تعويضها بغيره، فنوبة (العشاق) مثلا تؤدى في الصباح. ونوبة (الماية) وقت غروب الشمس. ونوبتي (الحجاز الكبير والأصبهان) في العشاء. ونوبة (رصد الذيل) في منتصف الليل. أما نوبة (رمل الماية) فقد كانوا يبيحونها لكل وقت، نظرا لكثرة استعمالها في مدح الرسول (ص). ويعتبر عبد السلام بن علي ريسون دفين مدينة تطوان، والمتوفى سنة 1299هـ/1882م «أول من أدخل على الآلة الأندلسية الأمداح النبوية، فقد استعاض عن قصائد الغزل والخمريات في الشعر الأندلسي بقصائد وقطع في مدح الرسول (ص) في كثير من ميادين الآلة، ولا يزال ذلك متداولا في المغرب».
(يتبع)
محمد القاضي