زرياب: بين التحدي والاستسلام
عندما أعجب الخليفة العباسي هارون الرشيد بعبقرية زرياب الفنية في الوصف والغناء خاطبه أستاذه إسحاق الموصلي قائلا: “إن الحسد أقدم الأدواء، والدنيا فتانة، والشراكة في الصناعة عداوة، ولا حيلة في حسمها وقد مكرت بي فيما انطويت عليه من إجادتك وعلو طبقتك، وقصدت منفعتك، فإذا أنا قد أتيت نفسي من مكمنها بإدنائك وعن قليل تسقط منزلتي، وترتقي أنت فوقي، وهذا ما لا أصاحبك عليه، ولو أنك ولدي، ولولا رعيي لذمة تربيتك لما قدمت شيئا على أن أذهب نفسك، وليكن في ذلك ما كان، فتخير من اثنين لابد لك منهما: إما أن تذهب عني في الأرض العريضة لا أسمع لك خبرا بعد أن تعطيني على ذلك الأيمان الموثقة، وانهضك لذلك بما أردت من مال وغيره، وإما أن تقيم على كرهي ورغمي مستهدفا لسهامي فإني لا أبقي عليك ولا أدع اغتيالك، باذلا في ذلك بدني ومالي فاقض قضائك”.
لقد كان زرياب ذكيا وطموحا عندما اختار الاختفاء من ساحة بغداد، ففضل ترك الصراع مع أستاذه وتحديه فغامر بحياته من أجل تحقيق طموحه في أرض بعيدة عن بغداد ليصل بعد رحلة طويلة وشاقة إلى الأندلس مرورا بتونس ثم المغرب ومنه إلى الجزيرة الخضراء فقرطبة التي احتضنته قصورها، فشذى وطرب وأطرب بين جدرانها وحدائقها الغناء، فحقق تحت سمائها مجدا وخلودا ما كان ليتحقق له في بغداد.
فقد استقبله الأمير عبد الرحمن بنفسه في قصره، وبادره قبل استقباله الرسمي بالعطاء الجزيل والجراية الكريمة والإقطاعات المغرية. وبعد ثلاثة أيام جالسه عبد الرحمن، واستمع إليه ينشده ألحانا شرقية أفاق معها حنينه وحبه إلى موطن أجداه (الشام) فقربه إليه، وزاد عنده محبة، وآثره على جميع المغنين، فعاش في كنفه معززا مكرما، وأصبح نجمه المفضل يواكله ويشاربه ويسامره وينادمه، كما كان يذاكره في أحوال الملوك وسير الخلفاء، ونوادر العلماء، فكان بحرا لا يدرك مداه، مما أعجب الخليفة فزاد في تكريمه، حتى فتح له بابا خاصا يستدعيه منه متى أراد.
وما أن استقر زرياب بقرطبة حتى شرع في إنجاز مشروعه الطموح والمتمثل في إحداث أول مدرسة موسيقية بها كان لها موقعا رياديا ليس بسبب الثراء الممتد للفكر الموسيقي فحسب، بل لقوة تأثيرها الواسع على أجزاء كثيرة من أروبا وهو ما كان لها بصمة واضحة في معالم الحياة الاجتماعية هناك.
فأسس أول معهد موسيقى، واستدعى المغنين من المدينة المنورة لنشر الأصول الموسيقية العربية المشرقية القديمة الأصيلة ولكن بالطريقة التي يحسها، وأضيف إلى لقبه القديم لقب إضافي جديد فأصبح (زرياب القرطبي) نسبة إلى موطنه الجديد، وخصص له الأمير راتبا شهريا قدره مائتا دينار بالإضافة إلى منح الأعياد والمناسبات والمخصصات الأخرى له ولعائلته. وكان أول طلاب معهد زرياب أبناؤه الثمانية (نجح منهم أربعة وهم: (عبد الله، وعبد الرحمن ومحمد وقاسم) وابنتاه (عليه وحمدونة) فمارسوا الغناء وزاولوه، بالإضافة إلى عدد آخر بعضهم من الغلمان والجواري أمثال (متعة) و(مصابيح) ووضع شروطا يجب توفرها في كل من يرغب الانتماء إلى معهده ومن هذه الشروط إخضاعه إلى امتحان يحدد استعداده الفطري، فإذا اجتاز هذا الامتحان بدرجة النجاح دخل المعهد وسجل في عداد طلابه وإلا صرف.
“وبهر أهل الأندلس ببراعته في الغناء والموسيقى، وطار صيته في كل مكان، فأضحى قطب الفن الذي لا يجارى، وأخذ عنه أهل الأندلس فنونه وإبداعه”.
فكان أول من تجرأ على تطوير الموسيقى العربية فاعتنى بجمع الآلات الموسيقية التي كانت معروفة ببلاد المشرق، ثم تفنن في ابتكار عدد من الآلات الأندلسية التي لم يسبق أن عرف بعضها من قبل أن تنتشر بكثافة في البلاد الأندلسية.
وعن هذه الآلات ذكر أبو الوليد الشقندي في رسالته عن “فضل الأندلس” أسماء الآلات التي اقتنتها إشبيلية وحدها، فقال: “وقد سمعت ما في هذا البلد من أصناف أدوات الطرب، كالخيال والكريح والعود والروطة والرباب والقانون والمؤنس والكثيرة والضنارة والزلامي والشقرة والنورة (وهما مزماران الواحد غليظ الصوت والآخر رقيقه)، والبوق، وإن كان جميع هذا موجودا في غيرها من بلاد الأندلس، فإنه فيها أكثر وأوجد.” فضلا عن هذه الآلات، عرفت الأندلس آلات أخرى مثل الطبلة والنقارة والطسوت التي تقرع بالقضبان. وأضاف ابن خلدون في (مقدمة) بعض آلات الزمر مثل الشبابة، وهي قصبة جوفاء مزودة بفتحات معدودة في جوانبها، والوبوق النحاسي المجوف والبربط وهو على شكل من الكرة.
ولعل أهم اختراع اشتهر به زرياب في هذا المجال هو: “زيادة الوتر الخامس في العود، اختراعا منه… كذلك اخترع مضراب العود (الريشة) من قوادم النسر، وكانت لا تزال حتى وقته من الخشب، وهي فكرة بارعة من زرياب كان موفقا فيها إلى أبعد مدى، إذ تجمع إلى لطف خفتها على الأصابع طول سلامة الوتر بملازمة الضرب عليه… أما العبقرية الفذة التي جلت عنها موهبته فهي طريقته المبتكرة في تعليم الغناء، تلك الطريقة المستحدثة التي ظلت مثلا يحتذى في الشرق والغرب حتى العصور الحديثة”.
ويذهب المقري في كتابه (نفح الطيب) إلى القول بأنه هو الذي رتب إيقاعات النوبة، مؤسسا بذلك تقليدا موسيقيا اتبعه الأندلسيون من بعده، واقتفوا أثره فيه. “واستمر بالأندلس أن كل من افتتح الغناء فيبدأ بالنشيد أول شدوة بأي نقر كان، ويأتي إثره بالبسيط ويختم بالمحركات والأهزاج تبعا لمراسم زرياب”.
أما في ميدان التأليف والتكوين الموسيقي فقد ترك زرياب للأندلس والغرب الإسلامي ميراثا فنيا عظيما تمثل في مؤلفاته ومدوناته الموسيقية التي بلغت عشرة آلاف لحن، وبذلك عد هذا العبقري بمثابة معجزة جسدت الأصالة الموسيقية الأندلسية. وقد صدرت في إسبانيا سنة 1987م رواية تحمل اسم (زرياب) باللغة الاسبانية للموسيقي (خيسوس كريوس) كتبت بأسلوب شاعري جميل، واشتملت على مجموعة هائلة من المعلومات الفنية والاجتماعية والتاريخية عن الأندلس. كما أورد الكاتب بالتفصيل الكثير من العادات والتقاليد المتعارف عليها آنذاك، مبررا في كل مرة دور زرياب ومحاولته في تغيير وتجديد الكثير مما اعتمد الناس عليه وإبداله بما هو أفضل. ويرى أن أسس الموسيقى العربية الأندلسية التي كانت تعرف (بالنوبة) وتسمى عند الاسبانيين (الروندو RONDO) ثم نقلها فيما بعد على يد الموريسكيين إلى شمال افريقيا وخصوصا المغرب والتي تعرف اليوم باسم الموسيقى الأندلسية (تطوان- شفشاون- فاس- سلا- الرباط).
يقول أحد الباحثين: لولا محافظة بغداد على فنونها العباسية المتمثلة في مقاماتها العراقية ومحافظة المغرب على النوبات الأندلسية لفقدنا تراثنا الموسيقي العربي بصورة نهائية.
(يتبع)
ذ: محمد القاضي