المفهوم بالغ الخطورة في العلوم الإنسانية، أو هو سيف ذو حدّين. أخذ في النشاط المعرفي اجتراحات وأبعاداً ورؤى متقاطعة داخل هذا الحقل أو ذاك، لكن في المجال العربي لم يتحرّر بعد من السيولة الاصطلاحية غير المنتجة في غالب الأحوال، وأحياناً من “العماء” النقدي وتدويره كيفا اتفق. ولهذا، لا نستغرب من وفرة الدراسات التي تتناولها موضوع بحثها، رغم خطورته الظاهرة، دون ناظم مفهومي ومنهجي. وفي مقابل ذلك، نجد لدى باحثين معاصرين الرغبة الحثيثة والزاد المكين في ردّ الاعتبار للمفهوم بعد إعادة تشغيله نقديّاً وابتكار حوامله الجديدة التي تطلق أدواته الإجرائية بٱقتدار في سياق القراءة والتأويل، وتضيف إليه، دون الشعور بنقص مُخلّ أو مديونيّة موجبة نظير ما تعرفه النظرية المعاصرة من انقلاب دائم في الفكر وزوايا النظر.
الناظم السردي
يدرس الباحث المغربي نزار التجديتي في كتابه الجديد “الناظم السردي في السيرة وبناتها: دراسات فيما وراء العيان والخبر” (دار كنوز المعرفة، الأردن 2020)، واحداً من هذه المفاهيم الخطرة، ليس لارتباطه بحقول بحث متعدّدة، بل كذلك لانحداره من قديم الثقافة الإنسانية؛ وهو مفهوم الناظم السردي. فللمفهوم جذور تمتدّ في تاريخ الفكر، منذ أرسطو وهو يميّز بين التاريخ والشعر، بين ما كان وما سيكون، ما وقع وما يحتمل وقوعه أو تخييله. سيأخذ المفهوم تلاوين ومناخات متنوعة متأثّراً ببيئات الثقافة الإنسانية في حقبة الكتابة والتدوين، بما في ذلك الثقافة العربية- الإسلامية. ربّما تكون عبارة (أصدق الشعر أكذبه) هي الأشهر بين أخواتها ما يمجد فعل الغرابة والإدهاش والفضول، وربّما توازت معها عبارات أخرى رقابيّة تحدُّ من هذا الفعل، بل ستتحوّل إلى مبدأ بلاغي أخلاقي يُوجّه “احتمال الصدق والكذب”. وعبر تاريخ الكتابة بأنواعها وصنوفها القوليّة، كان ثمّة صراعٌ بين الفعل والمبدأ، أو – باصطلاحات الكاتب- بين “الخبر والعيان”.
يدرك الباحث مدى الميدان الشاسع والمتراحب الذي ينشط فيه مفهوم الناظم السردي، ومن ثمّة يتعامل معه باستقصاء حذر في سبيل استشكاله وتفعيل محتواه النقدي؛ فهو – في نظره- يعمل في كل الثقافات والآداب والفنون بأشكال وصور وألوان متنوعة لإنتاج معارف إنسانية مختلفة، وهذه المعارف إما تنتج عن طريق “الاحتكاك (أو الاصطدام) بالواقع الموضوعي المتغير دوماً”، أو بالرجوع إلى “قناعات الذات الثابتة والنكوص إلى مستحبّات الكون الأليف”، وبالتالي تتناسل من “الجدلية السيميائية” القائمة بين العيان والخبر، بقدر ما هي تتطوّر حسب الحاجيات الروحية والمادية التي يمليها تدافع الحضارات والأمم والشعوب وتنقلها أنواع من الخبرة والمحاكاة والنقل. من هنا، يتمّ معرفة الناظم السردي والتعرف عليه مفهوماً ومجالاً ووظائفَ، من خلال فنون التعبير وأشكال التواصل المختلفة من حيث أسنادها الإشارية واللغوية والفنية (أخبار، نقوش، طقوس، أحاديث، عظات وخطب…)، حيث يمكن إدراك آليّاته التوليدية وتتبُّع صيرورة معانيه وتكوّن دلالاته في قراءة النصوص التي تنتجها الجماعات البشرية.
وعلى هذا الاعتبار المنهجي، يدرس الباحث مجمل الخطابات التي ينحصر هدفها في دائرة الإخبار بالمفهوم القديم والحديث، مثل الخطاب الأخباري، والخطاب التاريخي، والخطاب الترجمي، وخطاب السيرة الذاتية، والخطاب الرحلي، التي تسعى إلى إشباع الفضول الإنساني الطبيعي إلى التواصل والمعرفة منذ القديم. ومن خلال ذلك، يسعى إلى كشف آليات العلاقة وأشكال تجسيدها بين العيان والخبر كإشكال معرفي يقع في صميم البحث، وبالتالي يريد أن يمسك بالمبدأ المحرك الخفيّ الذي يقوم عليه كل خطاب لغوي لا ينتهي هدفه بتحقيق التواصل وإحداث الأثر النفسي والفكري في المتلقي وحسب، بل يستمرّ بعد ذلك في إنتاج آثار المعنى داخل النسيج النصّي عبر تواريخ تلقّيه وتأويله.
هكذا يتجاوز الناظم السردي الربط بين الجمل السردية، إلى الربط بين طرفي العملية الإدراكية والتفسيرية في الملفوظ السردي؛ فهو يٌحوّل العيان (المُشاهَد) إلى ملفوظ أو مجموعة من الملفوظات السردية (خبر)، كما يربط الخبر بمبدأ احتمال الصدق والكذب حين يضع ناقل الرواية بين خيارين: إمّا أن يتحقق ويتأكد من الخبر في “عالم التجربة”، وإمّا أن يردّد الخبر ويرويه كما سمعه وقيّده دون سند التجربة والمعاناة. وفي الحالتين معاً، يلجأ المتلفّظ بالكلام إلى الناظم السردي ويستخدم آليّاته التعبيرية بغاية الإقناع والإمتاع، بدل قول “الحقيقة”.
الميتا تاريخ أو القطع مع “حقيقة” التاريخ
لا يتتبّع الباحث مستويات الخطاب الإخباري وحسب، بل كذلك يعنى بوصف طرائق بنائه الداخلي، وذلك حين يتحوّل المفهوم – عنده- إلى ٱستراتيجية من خلال إفادته من بعض المراجعات الجذريّة التي تمّتْ في علم التاريخ خلال القرن العشرين؛ أي بٱنتقاله من علم الوثيقة الأرشيفية المكتوبة تحت تأثير العلم الوضعي أو الفلسفة الذرائعية الأمريكية، إلى كونه نصّاً لغويّاً مثل جميع النصوص الأدبية والثقافية المعهودة، ما دام يعتمد على وجوه أسلوبية وإنشائية وبلاغية للإخبار والإقناع والتواصل (الاستعارة، الحبكة، التخييل، الإقناع…)، ولاسيما أثناء صعود مناهج ومنظورات بحثية جديدة قطعت مع ميراث المركزية العرقية للحضارة الغربية (الماركسية الجديدة، التفكيكية، البنيوية التكوينية، السيميائيات، التحليل النفسي..). وفي هذا الإطار، يعود إلى ثلاثة مُفكّرين أحدثوا تلك القطيعة، كلّ واحدٍ من منظوره ووفقاً للتصوّر الذي انطلق منه:
- رولان بارت في قراءته لتاريخ “ميشليه” حيث يحاول أن يعيد إلى المؤرّخ “انسجامه” الخاص قبل أيّ اعتبار آخر، وفي “أثر الواقع” حيث لا وجود للواقع الموضوعي في الخطاب التاريخي بقدر ما توجد عناصر لغوية تموّه هذا الواقع.
- إميل بنفنيست في تمييزه بين الحكي (التاريخي) والخطاب (السيرذاتي) على اعتبار الزمن وضمائر التلفّظ؛ فما يميز هذا عن ذاك بصفة جوهرية إنّما السرد بضمير الغائب دون التعليق أو التأويل بضمير المتكلّم.
- هايدن وايت في تحليله الأنساق التاريخية الكبرى للقرن التاسع عشر من المنظور الشكلاني البحت، وتفكيك أسسها على ضوء صنعة التخييل، وتمييز أجناسها وأنواعها حسب بلاغة الوجوه الأسلوبية.
إنّ ما يجمع بين هؤلاء المفكرين هو تشكيكهم في مصداقية الخطاب التاريخي العلمية، وقلّلوا من “حقيقة” ما يمكن أن يعكسه السرد التاريخي (التقليدي والحديث والمعاصر) عن الماضي البعيد أو القريب. فسرد الأحداث الماضية والجارية في صميم الخطاب التاريخي تمّتْ مراجعته أو تأويله من منظور لساني وشكلاني بحت وتفكيكي، ومن ثَمّ نُظِر إلى هذا “السرد الوقائعي” مثل نظيره السرد الخيالي الذي يمكن أن نجده في الملحمة والرواية والدراما: ما يوجد سوى “دلائل فارغة” يحشو بها السارد نصّه اللغوي أكثر من كونها وقائع خارجية صلبة يبني عليها سرده وتمثيله لتلك الأحداث، وهو ما نعته هايدن وايت بـ”الميتا تاريخ”. فالنصّ التاريخي ليس سوى صورة بلاغية أو ملفوظ تخييلي، وتكون الرواية/ الخبر عن الواقعة المشهودة، بعد ضروب التحرير والصياغة، بمثابة أسلبة؛ أي تكون أشكالاً وأنواعاً سردية وأساليب تعبيرية وتسجيلية متنوعة، ولذلك ليس غريباً بالمرّة أن ينتمي التاريخ (تدوين الرواية) إلى الأدب بمعناه الواسع الذي يدخل في عداده مجموع الآداب والثقافات الإنسانية الشفاهية والكتابية (الشعر، الخطابة، الملحمة، القصص، الأساطير، الخرافات، الأماثيل..).
لكن، رغم هذه “القرابة السردية” بين التاريخ/ الواقعة والأدب/ التخييل، ورغم “قيمة الخاصية السردية في تمثيل الواقع” على حدّ تعبير وايت، تبقى ثمّة حدود وفروق إدراكية ومعرفية تراعيها الهويّة النصية لكلٍّ منهما؛ فالعنصر العلمي يظلُّ شرط الكتابة التاريخية، وإلا أدخلنا في عدادها الأساطير والخرافات والعجائب وما شاكل ذلك، كما يظلُّ الأدب – في المقابل- “حصيلة التجارب الإنسانية”.
سرديّات الخطاب الترجمي
يستثمر الباحث مفهومه المركزي معرفيّاً عبر المداخل المنهجية والموضوعاتية المتنوّعة، من أجل فهم صناعة الخطاب التاريخي العربي بمختلف أجناسه وأشكاله السردية التراثية والحديثة والمعاصرة مشرقاً ومغرباً: من السيرة النبوية وبناتها إلى السيرة الذاتية وأخواتها؛ ومن الخطاب الإخباري في أصوله العربية الأولى (الحديث النبوي، الأخبار والأنساب، الإسرائيليات) وامتداداته الثقافية اللاحقة (المغازي والسير، كتب الفتوح والمعارك، طبقات الرجال والمشاهير..)، إلى الخطاب الإقناعي والحجاجي داخل الحقل السياسي المغربي بعد الاستقلال تحديداً. وعبر هذا الترحال الجيوسياسي، وما فيه من استحقاقات وأهوال ودسائس، يحرك/ يخترق الباحث “سلطنة البلاغية العربية” بَرّاً وبحراً، من مدارس البصرة والكوفة وبغداد ودمشق إلى جوامع القرويين وفاس ومراكش وقرطبة وغرناطة، على نحو يتشرّب فيه “الناظم السردي” روافد ثقافية وأدبية ودينية وحضارية، عربية وغير عربية، فيما هو ينقل موادّ التاريخ المعاين والشفاهي إلى خطاب بصري ولغوي وإنشائي تتقاطع فيه أشكالٌ من الأسلبة والتخييل والتشكيل الجمالي، بل – وهذا هو الأخطر- ينقذ مجموع الخطابات المدروسة من “عماء” التاريخ.
وإذا قصرنا اهتمامنا على الخطاب السيري أو الترجمي أو السيرذاتي داخل العلاقة المتوتّرة ين العيان والخبر، فإنّنا نلمس التطور الكبير الذي شهده الجنس الترجمي من السيرة الدينية إلى السيرة الدنيوية. وقد وضع الباحث الترجمة للغير ضمن الخطاب التاريخي، لأنّها تتعلق بآليّات التلفّظ نفسها للنص التحقيقي، وبالإشكالات الجوهرية التي تثيرها المعرفة التاريخية: موقع السارد من الحدث والشخصية المروية والمؤلِّف، صدق الرواية، حقيقة الواقعة المروية، العلاقة بين العيان والخبر، إلخ. لكن الأمر يختلف بالنسبة إلى السيرة الذاتية حيث يتحقّق التطابق الثلاثي (تطابق السارد مع الشخصية والمؤلف)، ويختلف أكثر بالنسبة إلى السيرة المعاصرة أو ما بعد الحداثية حيث يزداد معدل التخييل على حساب الواقع أو المرجع، وهو ما يؤزّم الإشكال المعرفي الذي تقوم عليه الكتابة التاريخية.
فمن جهة أولى، لا نتعرّف على سيرة الشخصية المترجَم لها والعالم الخاص بها، بل كذلك على المرحلة التاريخية التي عاشتها، وعلى “تاريخ العقليات والمخاييل الاجتماعية” في هذه المرحلة كما تعرضها اختيارات الجمهور المتلقّي من خلال كتب التراجم. كما هو الشأن بالنسبة إلى شخصية مشهورة في التراث الأدبي العربي مثل ابن قتيبة الدينوري (ت 267ه)، التي ينقل عنها المترجمون العرب صورة متضاربة بين التمجيد والتسفيه في عصر الجدل الديني والمواجهات الفكرية والأدبية.
ومن جهة أخرى، فإنّ السيرة الذاتية (أو الترجمة الشخصية) العربية تنتسب إلى المرجعيّات الأدبية الغربية الحديثة، وتطوّرت في النصف الثاني للقرن العشرين على مستوى أسلوب السرد والشكل اللغوي والفنّي، إلى حدّ أن كُتّاب السيرة الذاتية المعاصرين ثاروا على تقاليد الموروث الأدبي والجمالي، وانفتحوا على وسائل وتقنيات تعبيرية جديدة؛ كما هو الحال بالنسبة إلى عمل عبد الله العروي “إستبانة” (2016) باعتباره نموذجاً غير تقليدي، بل هو – في نظر الباحث- “أغرب محاولة لكتابة سيرة ذاتية في الأدب المغربي المعاصر”؛ فهو قد خرق أفق انتظار القارئ، لأنّه لم يلتزم بالميثاق الائتماني (المرجعي) إلا في الثلث الأول منه، قبل أن يستطرد في أمور عامة هي أدخل في اختصاص المؤرخ. يُرْجع الباحث هذا العمل إلى نوع آخر من جنس الكتابة في تاريخ المغرب الحديث والمعاصر، يُسمّيه بـ”الشهادة بالواسطة”. كما أنّه مرتبط بالتحولات الشكلية التي تمّتْ في سرديّات الذات المعاصرة، سواء على مستوى التجريب السردي، أو الشكّ في مصداقية السيرة الذاتية نفسها. ولهذا، تبنّى الكاتب الأسئلة المباشرة “شكلا سرديا جديدا” لإملاء جزء من هذه السيرة حتى يتفادى وهم التطابق، وحتى يستدعي ما يريد الحديث عنه، بل إنّ هذه الأسئلة – كما يرى التجديتي- تلعب “دورا تحفيزيّا أساسيا في تخطيب وتزمين الأحداث الفردية، وفي إدخال الشخوص إلى خشبة المسرح السرذاتي”. وفي هذا السياق، يحلل الباحث مجموع المرايا السردية في “استبانة” عبد الله العروي، ويفكك صور الذات والآخر التي تنعكس فيها، وتتبادل الأدوار في بناء الهويّات إما بالتعرية أو التغطية.
وإذ يتجوّلُ بنا الباحث بين عصور حضارية من تاريخ الإسلام، بين ذهبية وأخرى عرفت تراجعاً وانحطاطاً، تتنوع سرديّات هذه العصور زماناً ومكاناً، على نحو يكشف حيوية الأدب العربي بمفهومه الجامع الرحب الذي يضمُّ معارف وأجناساً وكتابات عالمة وشعبية. وأمام هذا التنوّع السردي، ومن أجل توسيع الرؤية إلى الموضوع في أبعاده المعرفية والأنثروبولوجية المتباينة، عمد نزار التجديتي، الباحث الأكاديمي المتخصص في السيميائيات والأدب المقارن، إلى استثمار طرائق منهجية في الرصد والوصف والتحليل والمقارنة، يستفيدها – مع تعدّد المداخل القرائية وطلباً للمرونة- من جماع معارف وتخصّصات متقاطعة تشمل الحوليّات، وحفريات المعرفة، والسيميائيات، والشعريات، والسرديات، وبلاغة الحجاج، لكن بمنأى عن أيّ “خلط تكاملي” مزعوم بينها. وبالتالي، سعت الدراسة باقتدار إلى معالجة قضايا معرفية وأدبية لا تتصل بإشكالية العيان والخبر وحسب، بل تتجاوزها إلى قضايا أعقد تهمُّ العلاقة الإشكالية بين الفكر واللغة، وبين الرؤية والتجربة، وبين القول والفعل.
عبد اللطيف الوراري