تشهد طنجة حاليا عملية واسعة لترميم المدينة العتيقة، في إطار مخطط صمم لفترة 2024-2020، يهدف فيما يهدف إليه، إصلاح البنية العمرانية والمرافق العمومية وشبكة الطرق بعد انطلاق مخطط «طنجة الكبرى» في 26 سبتمبر 2013 والذي رصدت له اعتمادات مالية تقارب 8 مليارات درهم، وحددت مدة إنجازه بالكامل في خمس سنوات، 2013 – 2017.
برنامج إصلاح وترميم المدينة العتيقة، وليس «تأهيل» هذه المدينة التي هي مؤهلة منذ مئات السنين، للقيام بوظائفها كمدينة «كاملة الأوصاف» متعددة المرافق والاستعمالات، قابلة للنموّ والتطور، لتشكل فضاء متميزا لحياة الإنسان اجتماعياً وحضارياً واقتصادياً.
مطلـب أهلـي :
إصلاح المدينة العتيقة جاء تلبية لمطلب أهالي هذه المدينة، ومنذ عشرات السنين، نظرا لقدم المباني الأصيلة والمنشآت العمرانية والمآثر التاريخية بفعل التقادم والتداعي وقلة بل وانعدام الصيانة والتجديد، بل إن المدينة سواء العتيقة أو العصرية، تعيش منذ الاستقلال والوحدة على عمليات «ترقيع» تنجز بدون عناية أو إتقان، وفي إطار عمليات لا تخلو، غالبا، من «إن»… ! عملية الإصلاح الحالية، تبدو أكثر جدية ورصانة وشمولا من كل ما سبق، يتم إنجازها في إطار شراكة بين مجموعة من القطاعات الحكومية والجماعات المحلية وتهدف، كما أعلن عن ذلك من طرف الوكالة المكلفة بالمشروع، إلى إنجاز مجموعة من الأوراش التي من المؤمل أن تعيد للمدينة العتيقة وهجها التاريخي والثقافي والحضاري، وتحافظ على هويتها التاريخية والعمرانية التي تميزت بها عبر حقب التاريخ المتعاقبـة وتأثيــر حضــارات عالميــة، انصهرت فيهـــا وتفاعـــلت معهـــا، فينيقية، وقرطاجية ورومانية إلى الفتح العربي الإسلامي الذي مهد لفتح الأندلس بداية القرن الثامن الميلادي.
ونظرا لتاريخها وموقعهـــا وأهميتهـــا الاقتصادية والعسكرية فقد تهافتت عليها جل دول أوروبا الناشئة، وخططت لاحتلالها منذ نهاية القرن 19، ليتم استيلاء البرتغال عليها ثم الإسبان ثم الإنجليز الذين تم طردهم على يد السلطان مولاي اسماعيل، (1678).
طنجة نموذج حضاري فريد ورائع
هـــذا المزيــج من الشعـــوب والثقافــات والحضارات ترك بصماته على كل جوانب الحياة بطنجة، وشكل منها نموذجا فريدا ورائعا لطابعها المعماري، ونمط هيكلتها كمدينة كبيرة ببعد عالمي، وهيأها لتصبح عاصمة دبلوماسية للمغرب أواخر القرن التاسع عشر.
التذكير بهذه المراحل التي قطعتها مدينة طنجة، في تاريخها الممتد لآلاف السنين، إنما لتأكيد الأهمية التاريخية والحضارية لما تختزنه من مآثر وذخائر، العديد منها لم يكتشف بعدُ، بسبب الإهمال الذي يلحق بها وبغيرها من المدن التاريخية المغربية، لأن مجال صيانة المآثر التاريخية والمحافظة عليها لم يكن يشكل مجالا محددا من مجالات اهتمام حكامنا منذ الاستقلال.
مخطط ترميم وصيانة المدينة العتيقة، يشمل إصلاح وإبراز أســوار المدينــة، خاصة السور البرتغالي الذي شيد على نفس نمط السور المحيط بمدينة لشبونة البرتغالية، وسور مولاي إسماعيل، وإصلاح مجموعة من بنايات المدينة خاصة الآيلة للسقوط، بعد أن شهدت طنجة سقوط دور بدار البارود، على سبيل المثال وهــو من الأحياء القديمة جدا بطنجة، وصيانة واجهات المدينة، انطلاقا من ميناء طنجة، وإعادة ترصيف الأزقة والشوارع والساحات المتآكلة رغم العديد من عمليات الترقيع الفاشلة، وتوسيع وتقوية شبكة الإنارة العمومية، وإحداث ساحات خضراء ومرافق ترفيهية للمواطنين، ومراكز ثقافية للشباب والأطفال والفتيات وأندية نسوية، ومقرات إدارية جديدة، والكل يدخل في نطاق برنامج واسع للتهيئــة العمرانيــة وتجهيزات أخرى تندرج في إطار الحاجيات الأساسية للمواطنين وتستجيب لها..
كما نلاحظ أن هذا المخطط يشمل أهم جوانب مشروع إصلاح وترميم المدينة العتيقة، التي تريد بعض الكتابات الصحافية أن تعطيه طابعا سياحيا، بأن تجعل من التنشيط السياحي غاية هذه العملية، والواقع أن هذا المخطط جـــاء لخدمــة المواطنيـــن بالدرجــة الأولى، ووضع منشآت المدينة التاريخية والعمرانية والتجهيزية في خدمتهم وخلق فضاء خارجي يستجيب لحاجياتهم. أما السياحة فهي وظيفة من وظائف المدينة، يتولى المواطنون رعايتها وصيانتها وتطويرها. هذا، بطبيعة الحال، في إطار مخططات سياحية عملية، وليست فقط «خطابية» من باب «المواثيـق» والشراكات التي توقع أمام الكاميرات وتؤثث بالتصريحات و«الوعودات» التي تنتهي مع نهاية نشرة الأخبار المسائية.
مطلوبٌ خبراء في ترميم الآثار
ويجب أن لا نغفل الإشارة إلى قلقنا من أن يتم إنجاز مشاريع الترميم بالنسبة للمآثر التاريخية، على أيدي «بنائين» مياومين، دون الاعتماد، من جهة، على باحثين محليين في تاريخ هذه المدينة، ومن أبرزهم الأستاذ رشيد العفاقي، ومن جهة أخرى، على خبراء في علم ترميم المآثر التاريخية، كما حصل في مدن أخرى عتيقة، الأمر الذي أثار غضب المتبصرين من سكان تلك المدن.
ولقد سرّنا كثيرا الشروع في ترميم سينما «الكزار» الشهير بطنجة، وكان ذلك مطلبا ملحا لسكان المدينة العتيقة نظرا لمكانته في ذاكرة ووجدان أهل طنجة، بعد أن تحول سينما «كابيطول» المقابل، إلى «قيسارية» وهي «قمة» ما يشكل اهتمام «الفوراسطيروس» الوافديــــن على طنجـــة «للاسترزاق» والبيع والشراء في كل ما هو تاريخي أصيل وجميل، ومن ذلك المباني التاريخية، والمناطق الخضراء، وبطبيعة الحال، الغابات، كما حصل ويحصل، والحراس غافلون !…
حـدائـق المنـدوبيـة والسـوق الداخــل والقصبة والأبراج والأسوار
ولا نشك أن «فضائــل» هذا المخطــط ستعم حدائق «المندوبيــــة» بعـــد تحويـــل المحكمة التجارية، إن شاء الله، إلى مجمع بنايات وزارة العدل، وأيضا القصبة، التي هي قمة المآثر التاريخية، بقصرها ورياضها و «بيت المال» الذي جعل بداخل ذاك القصر البديع، وسورها وأبوابها والمدخل الموصــل إليهــا سواء من «برج الشروق» أو من جنان قبطان ووادي أحرضان، كما نرجو أن تعم أيضا فضائل المخطط، أبراج المدينة وأسوارها الداخلية وساحة دار الدباغ بعد أن شهد السوق الداخل والمحيط، بداية أشغال الترميم وقد شكل هذا الفضاء ولعشرات السنين، قلب طنجة النابض وملتقى كبار زوار طنجة وعشاقها من سياسيين وأدباء وشعراء وكتاب مغاربة وأجانب. كما أن ساحة 9 أبريل، (المشوهة) تحتاج، في نظرنا، إلى تنظيم «مسابقة أفكار» وطنية ودولية، تخص وضع تصميم مبتكر لإصلاحها وجعلها مركز التجمعات الترفيهية للمواطنين والسياح والزائرين.
ولا يجب أن ننسى «السوق المركزية» (البلاصا) بساحة 9 أبريل، التي لم يتغير شكلها من بداية القرن الماضي، بل زادتها الأيام بشاعة وتشوها وانعـــدام شــروط النظافــة، والمؤســف أن جحافـل السيـاح «تلـــح» على زيارتها للتمتع برؤيـة «خيرات الله»، ولكـن سرعــان ما يضعـون منادلهـم على أنوفـهــم، والسبـب لا يخفى على لبيب. !
أما منطقة البلايا، بمبانيها التي تسجل بداية تدخل المعمار الأوروبي الحديــث في طنجة، فإنها أيضا تتطلــب عنــاية خاصة حتى لا «تتبخر» تلك البنايات كما «تبخــر» رياض «محطة القطار» طنجة-فاس، وهو أول خط سكة حديد بالمغرب، هذا الرياض الذي كان آية في الجمال، يوم كان يوجد في هذه المدينة من يعشق «الماء والخضرة» الورد والجمال، وصهاريج الأسماك الذهبية التي كانت تتوسط الحديقة وتضفي عليها جمالا وبهاء.
دار النيـابـة
وتبقـى «دار النيابـة» غصـة في حلقنــا، جميعنا، في طنجـة، بسبب ما تشهـده، منذ سنــوات، من إهمال وترد متسارع، يهددها بالانهيار في أي لحظة، إذا لم تتداركها الألطاف الربانية، حيث تحولت اليوم إلى «خربــة» وقد كانت، ذات يوم، مركزا لأعلى سلطة سياسية وإدارية بمنطقــة طنجــة، وكانت، منذ 1860 تضطلع بالدور الذي يقـوم به اليوم «لو كي دورسي» الفرنسـي أو «ذو فورينغ أوفيس» البريطاني.
«Le Quai d’Orsay ou the Foreign Office».
بحيث إنها كانت واسطة بين سلطان المغرب ورجال السلك الدبلوماسي المعتمدين بالمغرب، المقيمين بطنجة، العاصمة الدبلوماسية للمغرب، كما كانت مقرا للعديد من المفاوضات التي أجراها المغرب مع السفراء في ما يخص علاقات المغرب بتلك الدول.
وقد سبق وأن اقترحتُ على السفيرالراحل الدكتور عبد الهادي التازي صاحب الموسوعة الشهيرة في تاريخ الدبلوماسية المغربية، وأيضا على وزير الخارجية المثقف والأديب والدبلوماسي الكبير الأستاذ محمد بن عيسى إصلاح بناية دار النيابة «السعيدة» كما كانت تسمى في البروتوكول المغربي، وتحويلها إلى متحف للدبلوماسية المغربية, وفعلا فقــد تم اتخاذ مبادرات في هذا الشأن، إلا أن هذا المشروع تنطبــق عليــه المقولــة الإسبانية الشهيرة:
Las cosas del palacio van despacio
ومعناها أن البيروقراطية تتسبب في بطء وتأخير الملفات الإدارية !!!…..
الأمـل معقودٌ على هــمـة الوالي مهيدية
يبقى، فقط، أن نضيف أمرا هاما، وهو أننا بهده المدينة، راكمنا العديد من خيبات الأمل، في وعود انطلقت، بداية الستينات، مع ميثاق الراحل محمد الخامس لطنجة، ( فضالة 1958) بخصوص الإلغاء التدريجي للنظام الاقتصادي والمالي لطنجــة، بعد إلغاء النظــام الدولي، ومشاريع إنعاش طنجة بداية 1973، وما تلا ذلك من قرارات ووعود، إلى أن تكرم جلالة الملك محمد السادس على طنجة وأهلها سنة 2013 بمخطط كبير لبناء «طنجة الكبرى» وفر لهذه المدينة مجموعة من آليات التنمية التي جعلت اليوم من طنجة قطبا اقتصاديا من الدرجة الأولى على المستـــوى الوطنــي والمتوسطي.
كما أن مخطط ترميم وإصلاح المدينة العتيقة الذي جاء أيضا في إطار العناية الملكية بالمدن العتيقة بالمغرب، سوف يضفي على طنجة حلة جديدة ووهجا براقا، وإشعاعا متجددا.
ولكن الأمل معقـــود على والي الجهــة، السيد محمد مهيدية، في تتبع تنفيذ مختلف مشاريع هذا المخطط، ونحن واثقون من أنه، بما عرف عنه من جدية ونزاهة وجرأة ووضوح، سوف يضمن نجاح هذه التجربة الجديدة في أحسن الظروف .
نحن، بالفعل، مطمئنون إلى قدرة السيد الوالــي على التدخـــل المناســب في الوقـت المناسب، لتصحيح الأوضاع، وتفادي الاختلالات، ومنع أي تصرف، إن عمدا أو سهوا، لا يليق بما يحمله أهالي طنجة من آمال على هذا المخطط، ونعلم أنه منذ شهر يونيه الماضي وهو يقوم بجولات تفقدية بالمدينة العتيقة ليتأكد من تقدم الأشغال وفق المخطط المرسوم. ولا نملك إلا أن ندعو له بالتوفيق.
عزيز كنوني