من المعلوم أن محاربة البدع والتأليف في ذلك قد جرى وقوعه على مر التاريخ الإسلامي، وقد وقف الأستاذ إسماعيل الخطيب على نماذج منه في بعض الكتابات، جرى التحذير فيها من الوقوع في محدثات البدع، ودعوة الناس إلى الالتزام بمنهج السلف الصالح، وكان سنده في ذلك ما ورد من مؤلفات كل من أحمد بن يحيى الونشريسي وأحمد بن خالد الناصري.
ففي “المعيار” نعثر على إشارات متعددة لكثير من البدع استنكرها المُفتون في الغرب الإسلامي تولى طائفة من المفتين- أمثال ابن رشد وابن زرب والشاطبي من (الأندلس)، والياصلوتي والقباب وابن مرزوق والمشدالي من (المغرب)، وسحنون والقابسي والمازري من (تونس)- نصوا فيها على كثير من البدع المستحدثة قصد التنبيه إلى محاربتها. وفي “تعظيم المنة” للناصري كذلك تنصيص على هذا النوع من البدع المستحدثة وضرورة محاربتها.
وقد ذكر إسماعيل الخطيب في تصدير مؤلفه قوله: «هذا بعون الله كلام يتعلق ببعض البدع المحدثة في الدين، جمعته من كتاب المدخل وكتاب المعيار وغيرهما، لينتفع به إن شاء الله عامة المسلمين وخاصتهم، ويفرقوا به بين الحق والباطل..».
وكان قد أشار في مقدمة الكتاب إلى مضمون ذلك والقصد من ورائه بقوله: «عمل طائفة من العلماء على امتداد عصور الانحطاط على مقاومة البدع بجميع الوسائل المتاحة لهم، فكتبوا المصنفات في التعريف بالبدع والتحذير منها، ولاقوا في سبيل نصرة السنة ومقاومة البدعة من مجتمعاتهم الكثير من العنت. واليوم ونحن نعيش في هذا العصر الذي طغت فيه البدع أيما طغيان وعز فيه الحاملون للواء السنة والذابون عنها، يجدر بنا بل يجب علينا أن ندعو الناس بكل وسيلة للعودة إلى كتاب الله وسنة رسوله وأن نبين لهم أنه ليس كل ما توارثه الناس واعتادوه هو من الدين».
وقد سبق للمؤلف أن تطرق في مقال له بمجلة دعوة الحق إلى دور كتب النوازل في المكتبة الإسلامية ودورها الفعال في مواكبة أعمال الناس وتقييم الصالح منها من غيره فقال: «تعتبر كتب النوازل من أهم المصادر في دراسة الاجتهادات الفقهية، ومعرفة مستوى الاجتهاد لدى الفقهاء، كما أن هذا النوع من المصنفات يزودنا بالكثير من المعلومات عن المستوى العلمي لمختلف العصور، ويمدنا بمعلومات عن الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية وغيرها». ومن بين المؤلفات التي اهتمت بهذا النوع من المواضيع نجد “نوازل عياض” و”نوازل القاضي عبد الله ابن دبوس” و”مسائل ابن زكون” كأقدم ما ألفه المغاربة، أو ما وصل إلينا من ذلك.
ومن جملة ما تضمنه هذا الكتاب من بدع العبادات والعادات الحديث عن بدع المساجد، وبدع شهر رمضان، وبدع الجنائز والمقابر، وبدع الذكر.. إلى غير ذلك من بدع العادات التي اعتاد الناس على التلبس بها دون وعي بمخاطرها، ثم أتى في الأخير على ذكر بدع الطرق الصوفية من الاجتماع والشطح والرقص وغيره.
واستنادا إلى مقولة «المناسبة شرط»، آثرت أن أورد ما تضمنه هذا المؤلف من بدع شهر رمضان تنويرا لما يمكن أن يقع فيه المرء بقصد أو بغير قصد في بعض الأمور التي تتنافى وقصدية تشريع الصوم التي تجسده الآية الكريمة في قوله تعالى: « لعلكم تتقون »، يقول المؤلف:
«شهر رمضان شهر القرآن، فرض الله صيامه وسن الرسول عليه الصلاة والسلام قيامه، فهو شهر عبادة: ليله ونهاره. غير أن الشيطان سول للناس اختراع كثير من البدع ليحرمهم من ثواب هذا الشهر وليضيع عليهم تلك الفرصة والربح العظيم. وقد تحول – في العصور الأخيرة- معنى شهر رمضان رأسا على عقب، فصار شهلا السهر في اللعب واللهو، وزاد الطين بلة ظهور التلفزيون الذي صار يتفنن في إذاعة المسلسلات والأغاني إلى قرب الفجر. وبذلك فقد شهر رمضان عند أغلب الناس معناه، إلا فئة قليلة لا تزال محافظة متمسكة بدينها محافظة على سنة نبيها..».
ثم عطف الكلام لبيان مسؤولية العلماء للقيام بواجب النصح وتنبيه الناس من مخاطر الوقوع في مثل هذه الأفعال التي تنتفي وفضل هذا الشهر ومقصده العام فقال: «وإنه لمن الواجب على علماء الأمة أن يعملوا – جهد طاقتهم- على إعادة المفهوم الحقيقي لشهر رمضان إلى أذهان الناس، وذلك بتوعيتهم بآي الذكر الحكيم والأحاديث النبوية..».
وأول ما يذكره إسماعيل الخطيب من بدع شهر رمضان من كتاب المعار للونشريسي استعمال البوق والمزمار بالمآذن، يقول في ذلك: «ومنها ضرب بوق اليهود في مساجد الرحمن بطول ليالي شهر رمضان ليعلم الناس انقضاء الصلاة، وليتحينوا السحور، وهذا البوق صار علما في بلاد الأندلس في رمضان على غروب الشمس ودخول وقت الإفطار، ثم علما أيضا بالمغرب الأوسط والأقصى على وقت السحور ابتداء وانتهاء..».
أما الناصري فذكر كيف انتقل هذا البوق عند المغاربة فقال: «وقد انتقل الأمر في هذه الأزمان النكدة من البوق إلى ما هو أفظع وهو مزمار الشيطان المسمى في علاف المغاربة بالغيطة، يصعد به بعض سفلة الناس إلى أعلى كثير من منارات المغرب بعد العشاء ووقت السحور فيزمرون به مدة طويلة من الليل بطبوع مختلفة وألحان متنوعة، فيصيروا منار الدين ماخورا لأهل المجون ولا منكر ولا مغير..».
وثاني هذه البدع المستحدثة خلال شهر رمضان، بدع خاصة بليلة القدر المباركة، يقول في تعظيم المنة: «وقد جرى عمل الناس منذ أعصار بأنها ليلة سبع وعشرين من رمضان، والاستدلال على ذلك يطولن ولكنهم ابتدعوا فيها بدعا كثيرة، منها: الاحتفال لها بانتخاب المآكل والمشارب وتزيين الصبيان وضرب الأطبال والأبواق نهارا، فضلا عن الليل، واتخاذ الحلاوي في الأسواق، وتزيين المساجد وإحضار الأطعمة بها عقب صلاة المغرب وغير ذلك مما هو معلوم».
ثم ذكر المؤلف ما ورد في المعيار من ذلك بقوله: «ومن البدع الإسراف في الوقود في تلك الليالي – يعني ليالي رمضان- وخصوصا ليلة سبع وعشرين».
فهذه جملة من بدع العادات التي انتشرت بين المغاربة منذ العصور الأولى أيام الأندلس وبباقي أقاليم المغرب الأقصى والأدنى، مما نبه عليه القدامى والمحدثين ضمن مصنفاتهم في فقه النوازل والأحكام.
ذ. منتصر الخطيب