لا شك أن رحيل الفنان التشكيلي محمد المليحي يوم 28 أكتوبر الماضي (2020)، يشكل علامة فارقة على حجم الخسارة التي طالت حقل الممارسة التشكيلية ببلادنا، تنضاف إلى توالي سقوط رواد هذا المجال من أمثال محمد شبعة وفريد بلكاهية وميلود لبيض، ممن شكلوا جيل التحول والتأصيل داخل العطاء التشكيلي ببلادنا، وخاصة داخل ما عرف نقديا ب”مدرسة الدار البيضاء” خلال ستينيات القرن الماضي. رحل الفنان محمد المليحي ولم يترك إلا رصيده الجمالي الخصب والمؤسس، وذلك على مستوى أفقين متلازمين اثنين، ارتبط أولهما بريادة هذا الفنان على مستوى التأصيل لقيم الحداثة البصرية داخل تراكم الممارسة التشكيلية الوطنية لعقود النصف الثاني من القرن الماضي ومطلع القرن الحالي، في حين ارتبط ثانيهما بعلاقة حصيلة منجز المليحي التشكيلي بسبل تطويعه لمعالم الفعل الثقافي داخل بيئته المحلية بمدينة أصيلا. ولعل هذا التلازم بين البعدين بشكل وثيق، أعطى للمليحي صفة الريادة والجرأة في نحت الكثير من معالم التجديد الجمالي داخل ثقافتنا البصرية الوطنية الراهنة. دليل ذلك، أن الرجل أضحى مرجعا في مجاله، ولا يمكن – بأي حال من الأحوال – التوثيق لإبدالات عطاء الممارسة التشكيلية الوطنية المغربية بدون العودة للتأمل في رصيد منجز هذا الفنان الكبير، وبدون تفكيك عناصر النبوغ التي أضحت تؤثث الكثير من معالم الفضاء العام بالعديد من المدن المغربية، وخاصة بمدينة أصيلا، بل وتحولت إلى جزء من حميميات الفضاء المشترك المحتضن لمعالم الهوية البصرية لمغاربة الزمن الراهن.
انطلق محمد المليحي في بناء مساره من مدينة أصيلا، قبل أن يتنقل عبر العديد من معاهد الفنون الجميلة، وتحديدا بإشبيلية ومدريد وروما وباريس ومينيابوليس. وبالولايات المتحدة الأمريكية، انخرط الفنان في مغامرة التلقين والتدريس، بالانفتاح على البعد الأكاديمي الواسع الذي أتاحه الاحتكاك بأرقى مدارس الفن التشكيلي التي كانت تتبلور بالقارة الأمريكية خلال هذه المرحلة. وبعد العودة للمغرب، قرر الانخراط في مغامرة تكسير المفهوم التقليدي للتشكيل، عبر نقل الأعمال الفنية إلى الفضاءات المفتوحة، حتى تتعايش مع الناس وتلتحم بأنفاسهم وبرؤاهم لقيم الجمال والإبداع. وقد وازى ـفي ذلكـ بين هذا البعد الإستيتيقي الراقي، وبين انخراطه في مغامرة التجديد الثقافي التي حملت لواءها مجلة “أنفاس” خلال النصف الثاني من ستينيات القرن الماضي، حيث كان من رواد هذه التجربة ومن مؤسسيها الكبار إلى جانب عبد اللطيف اللعبي ومصطفى النيسابوري.
ورغم أن بصمات المليحي ظلت قوية داخل هذه التجربة المفعمة بنزوعات يسارية تعبوية واضحة، فإن آفاق الفعل –بالنسبة إليه– سرعان ما تجاوزت السقف العام الذي اشتغلت في إطاره مجلة “أنفاس”، حيث انتقل إلى تجربة أكثر رحابة، احتضنتها مدينة أصيلا، وارتبطت باسمه من خلال تجربة “موسم أصيلا الثقافي” التي انطلقت منذ سنة 1978، والتي يعود له الفضل في وضع ركائزها إلى جانب رفيقه محمد بن عيسى، منذ انطلاق التجربة مع تأسيس جمعية المحيط الثقافية التي أصبحت تعرف –لاحقا- باسم “منتدى أصيلة”، الإطار المحتضن والمنظم لمواسم أصيلا الثقافية الدولية. ولقد كان المليحي، العقل الفعال داخل هذه التجربة، فبصماته لازالت قائمة داخل منجز ظاهرة “الموسم” في كل التفاصيل وفي كل الجزئيات، من الملصق إلى الدليل، من المعارض إلى محترفات النحت والتشكيل، من ورشات الأطفال إلى الجداريات. لقد أعطى المليحي للتجربة عناصر هويتها المميزة التي لازالت تتنفس بها إلى اليوم على الرغم من ابتعاده خلال السنوات الأخيرة عن فضاءات “الموسم” وعن عوالمه التدبيرية. ولا يمكن –بأي حال من الأحوال– أن نؤرخ لتجربة “الموسم” بدون استحضار عناصر الخصب والعطاء التي قدمها المليحي في كل القيم الجمالية التي صنعت التجربة وأضفت عليها صفاتها المميزة. وبالنسبة للفضاء العام لمدينة أصيلا، يبدو أن اسم المليحي قد التحم بالشواهد المادية القائمة، مادامت –على سبيل المثال– عملية ترصيص أرضية المدينة العتيقة وجزء من المدينة الحديثة قد حمل/ويحمل توقيع المليحي من خلال النموذج الهندسي المعتمد في هذا الإطار.
وقد ازداد وضوح هذا النزوع التجديدي للفنان المليحي الهادف إلى إدماج العطاء الفني الجمالي داخل الفضاء العام المشترك، من خلال البرامج التي استطاع بلورتها أو الإشراف عليها من موقعه كمسؤول عن مديرية الفنون داخل وزارة الثقافة، خلال الفترة التي كان فيها رفيقه محمد بن عيسى مسؤولا عن هذا القطاع. ففي الكثير من المدن المغربية، أمكن الوقوف على أعمال الفنان المليحي، خاصة بالنسبة لمنحوتاته ولمجسماته الحاملة لأيقونة “الموجة” التي هيمنت على روح الفنان وجعلتها منطلقا لخلق عوالم على عوالم، وكائنات على كائنات، ومتخيلا متشظيا على المطلق داخل الفضاء العام. وأستدل في هذا الإطار، على سبيل المثال لا الحصر، بالنصب الذي أنجزه محمد المليحي بالمنطقة المعروفة بكدية السلطان بمدينة أصيلا تكريما لروح المغفور له الملك محمد الخامس، أو بالنصب التذكاري الذي يوجد عند مدخل العاصمة الرباط، أو بمجموع الأعمال التشكيلية التي تؤثث فضاءات ودهاليز مقر البرلمان المغربي إلى يومنا هذا.
وعموما، فأعمال محمد المليحي لا تخطئها العين، و”موجته” أصبحت عابرة للحدود، بانسيابيتها وبقدرتها على تطويع الألوان والأشكال الهندسية، لارتياد الفضاء المجرد، وبتجاوز كل أشكال التمثيل التقليدي للوسط وللمحيط وللوجوه. لم يكن المليحي أبدا مخلصا للرؤى الانطباعية المباشرة، ولا للتمارين المدرسية التلقينية، ولا لضفاف اللوحة البسيطة، ولا لإغراءات النزوعات النيوكولونيالية وجاذبيتها الفائقة. لم يكن المليحي، في مجمل معارضه ورصيد منجزه، مخلصا إلا لما كان يؤسس لشروط تحديث ذهنيات العطاء التشكيلي، تكوينا وتفكيكا وتأملا وتشريحا وتركيبا. لذلك، جاءت عوالمه مختلفة في كل شيء، في أدواتها التقنية وفي تجديداتها وفي أنماط استثمارها لأرصدة الطفولة والصبا، من أجل خلق عالم يتماهى مع الذات ويتفاعل مع المحيط، ويعيد تأثيث مكونات هذا المحيط بقيم الجمال وبأصول الحداثة كما تبدعها الذات، وكما تتشرب بها المدارس المعاصرة، ومثلما تؤسس الذات –من خلالها– لشروط الاستقلال عن الانبهار العقيم بدروس الغرب وتلقيناته المتعالية والاستيلابية الضحلة.
لقد استطاعت “موجة” محمد المليحي أن تعيد تطويع الأشكال الهندسية داخل نظيمة الألوان النسقية، وفق قوالب “النمط الصناعي” الذي عاينه المبدع المليحي في نمط اشتغال مصانع السيارات بمدينة ديترويت الأمريكية، الأمر الذي انتبه له الناقد موريس أراما وسعى إلى تفكيكه بالكثير من عناصر الدقة والعمق في دراسة تقييمة صدرت سنة 2010 بالعدد الخامس من مجلة “ديبتيك”. وداخل هذا “النمط الصناعي”، تحضر طفولة الفنان المليحي، بضبابيتها وبنوسطالجياتها، لتدفع ب”الموجة” نحو الانفتاح على أفاق المخيال الرحب اللامتناهي، حيث التدثر الأبدي في معالم الأسود والألوان الغامقة، مما يعطي لنموذج “الموجة” تمططه في ذهن المتلقي، ويفتح آفاقا جديدة لقراءات متجددة لانسيابية اللون داخل “الموجة” وداخل الحدود الممتدة واللامتناهية للأسود الغامق.
هي صباغة، زيتية في الغالب، تعطي لتوالي محدبات “الموجة” ومقعراتها فرص تدمير الأنساق الهندسية الكلاسيكية، لتفتح المجال ممتدا أمام اشتغال بصري مشرع على كل الأسئلة وعلى كل القراءات وعلى كل الاستيهامات الإستيتيقية المخصوصة في تجربة الفنان محمد المليحي.