بلاغة السخرية
ترجمة: محمد مشبال وعبد الواحد التهامي العلمي
النص العاشر- آلان Alain ، “أحاديث” بتاريخ 20 مارس 1910. Référence : Introduction à la rhétorique ; Olivier Reboul ; 1991 ; PUF ; P :206-214 .
النص:
أوافق تماما على هذا الاكتتاب الوطني لمساعدة أصحاب الأسهم في مناجم كوغييغ Courrière، الذين عانوا أشد المعاناة.
من الواضح أخلاقيا، إن لم يكن في القانون الملزم، أنه يتوجب على هؤلاء اعتمادا على ما جنوه من أرباح وما سيجنونه، أن يصلحوا ما يمكن إصلاحه من الكارثة، أي أن يتكفلوا، وابتداء من الآن، بالأرامل واليتامى. وهذا من الأخلاق الملزمة؛ بل إنه من صلب القانون إذا نظرنا إليه عن كثب؛ لأن الكارثة لا تتعلق هنا بقوة عليا، ولكنها من فعل الإنسان، وعدم إدراكه لعواقب الأمور، وعجلته، وإهماله.
إلا إن القانون الملزم والأخلاق الملزمة، يمتلكان هنا شيئا ينطوي على قدر من الفظاظة. ها هن فتيات رائعات تُقَدَّمْنَ بمهر مُزْجٍ؛ هل يجب تخفيض المهر؟ وهذه السيارة من آخر طراز بقوة “أربعين حصانا”، هل يجب التخلي عن الحصول عليها؟ وهذا الفندق الفاخر جدا الذي يخصصونه للإيجار، كيف تريدون أن يتخلصوا منه؟ إن كل المصاريف تؤخذ بعين الاعتبار، ولا ندري في الحقيقة من أين نبدأ. أما بالنسبة إلى هذه الرحلات البحرية، فهي ضرورية. أليس صحيحا أن الصحة قبل كل شيء؟
ولعمري، فأنا أشفق على هؤلاء الأغنياء المساكين. فلهم احتياجاتهم أيضا؛ وليست الاحتياجات العادية أقل إلحاحا من الأخرى. أنا أشفق على هذه الشقراء الجميلة التي تجلس بشكل أنيق في سيارتها الكهربائية؛ وهذا الشاب بمعطفه المقدود، كيف له أن يزجي وقته إذا لم يلعب القمار؟ إن النساء يختلسن النظر إليه، وأنا أخاف على فضيلته.
بالتأكيد، أنا أَكْتَتِبُ، ومن كل أعماق قلبي. هيَّا، أيها السادة وأيتها السيدات، تحركوا وقدموا شيئا. وخصوصا أنتم، أصحاب الكفاف الذين تعوَّدتم الحرمان. هيَّا، اتصفوا بالإنسانية. الصدقة من فضلكم لأصحاب الأسهم في مناجم كوغييغ.
التحليل:
إن كارثة كوغييغ بمنطقة با دو كالي Pas-de-Calais التي تسببت في وفاة ألف ومائتي عامل من عمال المنجم، أعقبتها إضرابات قام الجيش بردعها وقمعها. في هذا “الحديث” الصحفي المنشور في إحدى صحف اليسار:”لا ديبيش دو روين” La Dépêche de Rouen، يسلط آلان الضوء حول هذا الموضوع. يشكل الحديث جنسا: أي نصا موجزا يتسم بالدعابة والرأي معا، وبأسلوب بسيط يخاطب الجميع، وبالسخرية أو الأمثولة.
من السهل تحديد الغرض البلاغي لهذا النص. هل نستطيع أن نصدق حقا أَنَّ “آلان” يشفق على الأغنياء عندما يكتتب لهم ويطلب من الفقراء أن يسهموا في هذا الاكتتاب؟ بالطبع، إن هذا النص ساخر؛ يقول عكس ما يريد قوله للتعبير عن هذا المعنى بطريقة أفضل: أي أكثر إفحاما وإقناعا. ومع ذلك يجب أن نرصد السخرية في بعض العلامات. فما يلفت النظر أكثر هنا هو التضاد، “أنا أشفق على هؤلاء المساكين الأغنياء”. ولكن منذ الفقرة الثالثة هل يمكن أن نأخذ مأخذا حرفيا هذه التعابير المثيرة للشفقة الكاذبة والرأفة في حقيقة الأمر، مثل: “صحة المساهمين” عندما نعرف الكارثة التي أصابت عمالهم؟
باختصار، إننا نفهم من قول آلان:”أنا أَكْتَتِبُ”، بأنه لم يفعل شيئا، ونفهم من قوله:”أنا أشفق”، أنه يعبر عن الإدانة.
بالنسبة إلى قراء سنة 1906، كانت السخرية أكثر وضوحا بل وظهرت أيضا بشكل أضخم. لأن الاكتتاب في نهاية المطاف قد تمّ بالفعل، ليس لأصحاب الأسهم ، ولكن لعمَّال المنجم طبعا ! والحال أننا نجري هنا أحد الاستبدالات التي يرى فيها فرويد أحد العوامل الكبرى للفكاهة: آلان يفعل كما لو أن الاكتتاب لأجل الفقراء كان في الحقيقة لأجل الأغنياء، أرباب المناجم. ولكن أليس هذا ما يفكر فيه في العمق؟
إن ما يفكِّر فيه إذن، نراه في الفقرة الثانية التي قدمت في شكل استباق الاعتراض والتزام، مثل:”من الواضح أن…” و”فقط…”. باختصار: إن الأمور ليست كما فكرتم فيها. ولكن، بما أننا في خضم السخرية، فيجب الأخذ بعين الاعتبار الالتزام الظاهر للعيان بوصفه الحجة الواقعية لآلان: إن أرباب المناجم ملزمون بتعويض عمالهم؛ ليس بحكم الأخلاق فقط، ولكن أيضا بحكم القانون لأن الخسائر ناجمة عن إهمالهم. كان بإمكانهم تجنب الكارثة لو لم يضحوا بعمالهم من أجل الربح. باختصار، هنا حجاج بالعلاقة السببية: أي الذي كان سببا في الحادثة – ولو بالإهمال – هو المسؤول الأول. في تلك الفترة ، كانت الأمور أقل وضوحا مما هي عليه الآن. إذ يشترط قانون حوادث الشغل، أن تثبت مسؤولية رب المعمل حتى يعوض العمال عن خسائرهم ، مما شكل دائما أمرا صعبا خاصة عندما يتعلق الأمر بكارثة منجمية.
هكذا إذن، يرى آلان أنه إذا أطلقنا حملة اكتتاب وطني “لأجل الضحايا”، فإن أصحاب الأسهم هم الذين سيستفيدون، واستفادتهم ستكون بالتأكيد مضاعفة، لأن الاكتتاب سيعفيهم من أداء ما يجب عليهم أداؤه، ويجعل العمال مدينين لهم.
والتتمة حجة ساخرة يجب قراءتها معكوسة. وتمثل قُوَّةُ السخرية في أنها تمنح هذه الحجج نوعا من البروز الذي يستحوذ علينا. التورية في لفظ “ملزم” التي تنتقل من معنى ما هو ممكن إلى معنى ما هو فظ وعنيف. والمواضع المشتركة: des lieux communs المتمثلة في الإيجار الذي يجب احترامه، والرحلات البحرية، والصحة قبل كل شيء (الفقرة الثالثة)، والنساء اللواتي يختلسن النظر إلى العاطل المهمل، (الفقرة الرابعة): إن هذه الحجج فاضحة بكل تأكيد، ولكننا لا نلاحظ ذلك إلا بعد وقت من التفكير. ما يحاول آلان أن يوضحه، هو أن هذه الحجج هي الدواعي الصحيحة والوحيدة التي يمكن أن يدعيها الأغنياء ليتخلصوا من الأداء، إنها دواعٍ سخيفة جدا (أو شنيعة) يكتمونها.
كما سنلاحظ استخداما للكنايات. فلتعيين البذخ الفاضح، يتحدث عن الفتيات الشابات الرائعات – ولكنهنَّ معروضات !- وعن السيارة بقوة أربعين حصانا، وعن الرحلات البحرية. فالشباب الذهبي، هو هذه الحسناء الشقراء، وهذا الشاب بمعطفه المقدود، الخ… إن للكناية دورا حجاجيا مزدوجا: الحجاج بالشاهد، والحجاج بالرمز. فمن خلال بعض السمات، قلَّل آلان من قيمة الغنى.
والجدير بالذكر، أن السخرية تكاد تكثف دائما حجة التعارض من خلال الهزل. وعلى الرغم مما يبدو في الظاهر، فإن النص لا يعادي الأغنياء، إذ إن آلان بخلاف ما كان يفعله الاشتراكيون، لا يطالب بتجريدهم من ممتلكاتهم. إن هذا النص ضدَّ الصَّدقة التي تسلب الفقراء ثروتهم الوحيدة المتمثلة في كرامتهم. هذه هي الفضيحة التي يدينها حديثنا: نطلب من الشعب، ومن الأشخاص المعوزين الفقراء أن يمنحوا الضحايا، وهو الأمر الذي يعفي المسؤولين من تعويضهم وحرمانهم من الحصول على حقهم: إنها ضربة مضاعفة للأغنياء. من هنا، المبالغة الختامية التي تدفع حجة الاتجاه إلى أقصى حد: إذا سرنا على هذا المنوال، سنفرض الصدقة لصالح أصحاب الأسهم قريبا…
د. عبد الواحد التهامي العلمي