يعد العنوان عتبة نصية موازية للنص الرئيسي وأداة لتحقيق الربط بين القارئ والنص. قد يوازي إلى حد بعيد النص الذي يسمه. إنه عنصر ضروري في مقاربة الأعمال الإبداعية، يمدنا بزاد ثمين لسبر أغوار النص ودراسته، لأنه يعيننا على ضبط انسجام النص وتأويل دلالته، إنه المحور الذي يقوم النص على تنميته وإعادة إنتاج نفسه، وهو كما يتصوره أحد الباحثين بمثابة الرأس للجسد و الأساس الذي تبنى عليه.
لقد وضع المبدعون عناوين لمؤلفاتهم، تدل على محتوياتها، وتعين مضامينها، وتكون نواة الكتاب بأكمله ورمزا لمحتواه، لذلك جعلوه على صفحة الغلاف يتربع وسطها ويتشكل في مساحتها، وأصبح جزءا لا يتجزأ من الكتاب إلى جانب المعطيات الأخرى كاسم المؤلف والناشر وتاريخ الطبع وغيرها من المعطيات المرتبطة بالمتن بشكل من الأشكال. فلكي نطأ النص من داخله، علينا أن نضع أقدامنا الثابتة على مداخل النصوص بما فيها العنوان[1]، باعتباره مدخلا يساعد المتلقي على الإمساك بالخيوط الأولية و الأساسية للأثر المعروض.
- فما دلالة العنوان؟ وما قيمته؟ ومتى عرف العنوان خطابا دلاليا يترجم النص ويؤوله؟
- وهل يقوم اختيار العنوان على اعتباره جزءا من العمل الفني ؟ أم باعتباره خطابا مستقلا في حد ذاته ؟
يدل العنوان من الناحية اللغوية ) بضم العين أو كسرها ( على الاستدلال بالشيء على غيره, وعلى التعيين و الاهتمام بالشيء والتعرض لمدلوله .
يقول صاحب القاموس المحيط » وعنوان الكتاب وعنيانه ) ويكسران ( سمي لأنه يعن له من ناحيته، وأصله عنان كرمان وكلما استدللت بشيء يظهرك على غيره فعنوان له. وَعَنَّ الكتاب وعَنَّنَه وعنونه وعناه كتب عنوانه واعتن ما عندهم أعلم بخبرهم[2]«.
ويدل عند ابن منظور على الاهتمام بالشيء و الانصراف له حين يقول : » عننت الكتاب وأعننته أي عرضته له وصرفته إليه , وعن الكتاب يعنه عنا و عننه: كعنونه, وعنونته وعلونته بمعني واحد, مشتق من المعنى… قال ابن بري: العنوان الأثر, قال سوار بن المضرب: (بسيط)
وَحَاجَةٌ دُونَ أُخْرى قَد سَمَحْتُ بها # جَعَلْتُهَا لِلَّتِي أَخْفَيْتُ عنوانا
ومن هنا يتضح أن العنوان هو المفتاح الذي نلج به العمل الأدبي, ونعرف به الكتاب ونعينه ونحدد موقعه ووظيفته المرموز لها بالعنوان, إنه عنصر من عناصر الدلالة والتأثير على ما وراءه، والتعريض لمدلول ما رمز إليه وتمثيله. إنه المكون الأساسي لمقاربة العمل الأدبي ونصوصه الداخلية ومكامن الدلالات التي يزخر بها. والمفتاح الإجرائي في التعامل مع النص في بعديه الدلالي و الرمزي[3].
إنه في الحقيقة مكون ضروري في بناء النص الأدبي، شأنه شأن مختلف مكونات النص الأخرى، وليس مجرد تكملة أو حلية بقدر ما هو نقطة انطلاق كل تأويل للنص, إذ امتلاكه يعتبر أول الحيل التكتيكية في مواجهة النص[4].
إن الحديث عن ظاهرة العنونة أمر يستدعي النبش في الماضي البعيد للبحث عن جذور قديمة لهذه الظاهرة، فقد كان الجاهليون يعنون بعنونة خطبهم و كتبهم.
قال الجاحظ: » ومن خطب العرب العجوز, وهي خطبة لآل رقبة، ومتى تكلموا، فلابد لهم منها أو من بعضها، ومنها العذراء, وهي خطبة قيس بن خارجة في حرب داحس والغبراء سميت بذلك لأنه كان أبا عذرها«[5] وكذا فيما قاله الأخنس بن شهاب التغلبي:(طويل)
لابنة حطان بن عوف مـــــنازل # كما رقش العنوان في الرق كاتب[6]
وهذا دليل سبقهم إلى تسمية آثارهم قبل مجيء الإسلام، الذي عرف بدوره بخطبه الدينية المعنونة كخطبة الوداع لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
وهذا ما نلحظه في العصر الأموي, فلزياد بن أبيه الخطيب الأموي خطبة بعنوان ” البتراء ” بمعنى الخطبة التي لم يبتدئ صاحبها بالتحميد, ويستفتح كلامه بالتمجيد, وكذلك ألفت كتب كثيرة معنونة في هذا العصر وذلك راجع لما عرفته هذه الفترة من نمو سريع في الكتابة، سواء منها الدينية المتعلقة بمسائل الفقه والتشريع الإسلامي، أم التاريخية التي تتصل بمغازي الرسول صلى الله عليه وسلم , وكذا الرسائل السياسية والاجتماعية والدينية التي تحمل عناوين تؤشر على محتوياتها.
وإذا انتقلنا إلى العصر العباسي وتأملنا جل الكتب التي ألفت فيه لوجدناها معنونة عناوين مؤشرة على مضامينها أيضا.
وكان للمكان تأثير كبير في اختيار الأندلسيين لعناوينهم. والأثر المكاني في الأدب أمر كائن لا ينكر فنحن إذ نقلب في التراث الأندلسي، ونبحث عمن ألف منهم متأثرا بجمال الطبيعة وسحرها تصادفنا كتب عديدة ألفت لجمع خصائص الطبيعة, وما قيل فيها من أشعار، فمن يقرأ مثلا عنوان كتاب أبي الحسن علي بن سعيد الأندلسي يجده متأثرا بالطبيعة الأندلسية لاحتوائه جزءا منها وهو الغصن. وهذا النزوع نحو اختيار مصطلح الغصون اليانعة –جزءا من الطبيعة – أمر يؤكد أنه ما من سبيل إلى إنكار أثر البيئة الأندلسية في الأدب الأندلسي. إذ مثلت الطبيعة قوام حياة الأندلسيين ومادة وجودهم حين تغلغل جمالها في كيانهم.
في حين اختار بعضهم أسماء فنية شاعرية عناوينا لكتبهم كالمطرب في أدب الأندلس والمغرب، وعنوان المرقصات والمطربات، والسحر والشعر… هو إلحاح نابع مما تحمله هذه الألفاظ من دلالة نقدية، وليست وليدة المصادفة، لأنها تمثل جهازهم المفهومي وشبكتهم الاصطلاحية للجيد من الشعر في تصورهم، المرتبط بفاعلية الشعر ومدى إطرابه للمتلقي، وكأنهم بهذا النزوع قد راحوا يطلبون جديدا تحت وطأة السآمة من اجترار العناوين المألوفة وتواتر الأشكال المتشابهة، خاصة ما كان سائدا لدى المشارقة من تتبع بعضهم بعض في اختيار عناوين لمصنفاتهم.
وبخصوص توقيت اختيار العنوان نجد بعض الكتاب يفكرون في العنوان أكثر من التفكير في الموضوع، وهي ظاهرة غير جيدة إذ العنوان يأتي عبر الكتابة لا قبلها، صحيح أن العنوان يمثل الضوء الكاشف للدلالة والمعنى، وصحيح أن أعمال أدبية كثيرة لم يبق في ذاكرة القارئ منها إلا العنوان… لكن هذا – في تصورنا – لا يسمح للمبدع بتعمد اختيار عنوان قد يكون غريبا أو لمجرد جذب اهتمام القارئ، بل يجب أن ينتقي أحسن العناوين وأنسبها موظفا جملة من المهارات المتسمة ببلاغة مميزة.
[1] بالإضافة إلى العنوان، يعتبر التقديم، الحواشي، الفضاء النصي، المنهج.. مداخل النصوص الإبداعية.
[2] الفيروز ابادي : القاموس المحيط، ج4/251.
[3] طنكول عبد الرحمن : خطابة الكتابة وكتابة الخطاب في رواية مجنون الأمل، مجلة كلية الاداب والعلوم الانسانية، فاس، العدد 9، السنة 1987 ص : 35.
[4] الماكري محمد : الشكل والخطاب، مدخل لتحليل ظاهراتي، الطبعة 1، 1991، المركز الثقافي العربي – البيضاء، ص : 253.
[5] الجاحط : البيان والتبيين، ج1/348.
[6] الضبي المفضل : المفضليات، ص 204 .
دة. مريم أجدور