بمناسبة الذكرى التاسعة لرحيله حسن المفتي (1935- 2008).. مبدع متعدد المواهب
جريدة الشمال – عبد الله بديع ( (حسن المفتي) )
الجمعة 10 نوفمبر 2017 – 16:54:54
لأجل مواكبة لهذه الذكرى، ارتأيتُ أن أحرر هذه المقالة التذكارية، التي أتوخى من خلالها تسليط الضوء على جانب من جوانب النتاج الفني والأدبي الذي قدّمته هذه الشخصية المتألقة في سماء الإبداع المغربي؛ في محاولة لاسترجاع ملامح إبداعية وإنسانية طبعت هذه الشخصية الأدبية.
**
كما سبقت الإشارة في السطور أعلاه، فإن المبدع الفنان الراحل حسن المفتي، رحمه الله، خلّف إنتاجا أدبيا وفنيا ثريا ومتنوعا: زجل، أفلام تلفزيونية وسينمائية، برامج إذاعية ومسلسلات تلفزيونية، مقالات نقدية، مذكرات، قصص قصيرة… ويسجل المهتم بالحركة الأدبية أن المفتي، على غرار غرار عدد من الأدباء والمبدعين المغاربة الرواد، لم ينشر قيد حياته ضمن كتاب مستقل، لاعتبارات لا يسعنا الحيز للحديث عنها هنا في هذا المقام، سوى ديوان زجلي وحيد هو: “التلت الخالي”، الذي صدر ضمن سلسلة إبداعات شراع بطنجة لصاحبها الإعلامي الراحل الأستاذ خالد مشبال؛ وهي مفارقة وضع الشاعر المغربي الكبير محمد الخمار الكنوني أصبعه على أحد أسبابها ذات مناسبة، إذ قال جوابا عن سؤال يرتبط بهذه المسألة وضعه عليه عبد الرحيم العلام في حوار أجراه معه (الشاعر لم يمت/ سلسلة شراع- طنجة، ص: 23): “… إنني غير مستعد للوقوف أمام تاجر – ناشر آخذ معه وأرد في النسبة، وفي العدد، وفي الطبع، وفي مثل هذه الأشياء..”.
وبُعيد فاجعة رحيل الزجال والمبدع حسن المفتي، قامت وزارة الثقافة بمبادرة حسنة تتمثل في نشر الإنتاج الأدبي لهذه الشخصية الأدبية متعددة المواهب ضمن سلسلة الأعمال الكاملة التي تصدرها الوزارة، في ثلاثة أجزاء؛ فصدر الجزء الأول بتقديم رائع للشاعر حسن نجمي والجزء الثاني بمقدمة ضافية للشاعر الزجال أحمد المسيح، وتضمّنا الجزآن المذكوران مجموع الأشعار الزجلية التي أبدعها المفتي طيلة مسيرته الأدبية الغنية: ديوان “التلت الخالي”، وديوان “مرسول الحب”، وديوان “أنا والغربة ومكتابي”. ثم صدر الجزء الثالث من الأعمال الكاملة للفنان والزجال المغربي المبدع الأستاذ حسن المفتي، لتكتمل حلقات الذاكرة الحية واستكملت صورتها التامة والكاملة.
ويضم هذا الجزء الثالث والأخير، الذي يقع في 236 من الحجم المتوسط، بين دفتيه “مجمل” الإنتاج السرديّ والنقدي الذي قدمه الفقيد؛ موزعا على أربع أبواب رئيسية: القصص القصيرة، ومذكرات العلم، وإضاءات، ومن الذاكرة؛ فضلا عن ثلاث أبواب يمكن أن نعتبرها ثانوية أو ملاحق ما دامت أنها لا تعد ضمن الإنتاج الصريف لصاحب الأعمال الكاملة، وهي: أهازيج نساء تطوان، وشهادات، وسيرة إنسان وفنان..
ولما كان من الصعب أن نقف، في هذه المقالة ذات الحيز المحدود، عند الأجزاء الثلاثة كلها؛ فإنني قررتُ أن أتناول الحديث عن الجزء الثالث والأخير من الأجزاء المشار إليها، محاولا أن ألقي نظرت وتأملات سريعة على مكوناتها، وتحديدا الأبواب الأربع التي تشكل المادة الرئيسية في الإنتاج الخاص بصاحب الأعمال الكاملة.
وقبل أن أنتقل إلى التعريف بمواد هذا الجزء، فإنه يجدر بي أن أسجل هنا والآن أنه إذا كانت شهرة حسن المفتي في الساحة الأدبية والثقافية والفنية داخل المغرب وخارجه قد ارتبطت أشد الارتباط بالكتابة الزجلية، وخاصة من خلال كلمات الأغاني التي خطها وأبدعها طيلة مساره الأدبي؛ فإن الإنتاج النثري (خاصة منه القصصي والنقدي) الذي قدّمه المفتي لا يقل أهمية وعمقا وثراء عن الإنتاج الزجلي، سواء من حيث المضامين الفكرية التي يطرقها الكاتب الأديب أم من حيث الأساليب الجمالية والفكرية التي توسل بها في الكتابة والإبداع.
وإنني لأعبر عن استغرابي كيف أن هذا الإنتاج (أقصد هنا الكتابات القصصية والنقدية وحتى البورتريهات والمذكرات أيضا) بقي بعيدا، نوعا ما، عن اهتمام الدارسين والمتتبعين للتجربة الإبداعية والأدبية للمفتي.
**
يقف القارئ في الباب الأول المخصص للقصص القصيرة على ست قصص قصيرة من القصص، وهي: ثم رآها تطفو، ليلة أخرة، عودة إلى نقطة الصفر، صاحب الصندوق الأسود، أصبح رجلا، عندما ترقص الأرض؛ وهي نصوص – كما يسجل القارئ- نشرها المفتي بين سنتي 1960 و1961، بكل من جريدة “العلم” (4 نصوص) ومجلة “الوطن العربي” القاهرية (نصان). وإنني لأتعجب كيف أننا لا نجد، باستثناء الوقفة التي خصصها الأستاذ الدكتور مصطفى يعلى في كتابه حول “السرد المغربي ـ بيبليوغرافية متخصصة” (المدارس للنشر والتوزيع، الدار البيضاء، 2001)، أية التفاتة أخرى نحو التجربة القصصية لحسن المفتي لدى الدارسين الذين تناولوا القصية القصيرة في المغرب من أمثال أحمد اليابوري وأحمد المديني ونجيب العوفي وغيرهم؛ بالرغم من أن هذا القاص المغربي بادر منذ مرحلة مبكرة من حياته الأدبية إلى نشر نصوصه القصصية على صفحات بعض المنابر الإعلامية والصحافية، سواء دخل المغرب أم في القاهرة التي هاجر إليها سنة 1957 من أجل متابعة التكوين والدراسة.
وفي السياق ذاته، أتساءل بكل شوق وتطلع: ألم يكتب ذ. المفتي، رحمه الله، غير هاته النصوص فقط؟ آمل أن يظفر المهتمون بإنتاج آخر في القصة القصيرة وغيرها من الفنون التي أسهم فيها الرجل.
إن القارئ لهذه النصوص يسجل أن الكاتب / القاص حسن المفتي التزم، بشدة، بقواعد البنية التقليدية في الكتابة القصصية؛ وذلك بالنظر إلى أن هذا النمط من الكتابة كان هو المهمين على المرحلة التاريخية (عقد الستينيات) التي كتبت فيها تلك النصوص.
يتجلى هذا الالتزام على مستوى المضمون؛ فالمتأمل في هاته القصص يلمس أن الهم الإنساني، بمختلف تجلياته ومظاهره، هو ما كان يشغل بال الأستاذ حسن المفتي الذي ظل في هاته القصص الست منجذبا إلى قضايا المجتمع وهمومه، حيث يلمس القارئ أن الهاجس الإصلاحي والتربوي هو ما يشغل بال الكاتب واهتمامه ويحركه.
إن من أبرز العلل والأمراض الاجتماعية التي تناولتها هذه القصص نذكر: غياب المسؤولية لدى بعض الآباء في تربية الأبناء (قصة “أصبح رجلا”)، واستغلال الأغنياء للفقراء وعدم اكتراثهم بالمحن التي يخبطون فيها (قصة “ليلة أخرى”)، واستعمال الوساطة والتدخلات من أجل الحصول على عمل بالرغم من انعدام الكفاءة وعدم الأهلية (قصة “عودة إلى نقطة الصفر”)… وغيرها من العلل التي كانت وما زالت تنخر كيان المجتمع المغربي.
إن عناية المفتي في هاته القصص كانت تشمل مختلف مكونات المجتمع وشرائحه، سواء الطفل أم المرأة أم العجوز أم الموظف أم الفلاح أم العاطل أم ماسح الأحذية.
هنا، أنبه إلى أن قصص المفتي تمثل وثيقة اجتماعية حية عن طبيعة المجتمع المغربي خلال مرحلة هامة ومفصلية من تاريخ المغرب. وإن القاسم المشترك الذي يجمع بين كل شخصيات أغلب هاته القصص هو الحزن أو المعاناة والألم.
كما أن الالتزام بقواعد الكتابة التقليدية في قصص المفتي لا ينحصر في الجانب الفكري / الموضوعي، بل إن هذا الالتزام شمل أيضا الأداء الفني / الشكلي؛ فقد كانت المكونات السردية التالية: الوصف والحوار بنوعيه (الديالوج / المونولوج) والشخصيات والزمن القصصي والمكان القصصي والحلم والفلاش باك… كلها حاضرة في القصص الست.
وفي الباب الثاني من الأبواب الرئيسية التي يتضمنها الجزء الثالث من الأعمال الكاملة للأديب المبدع ومتعدد المواهب الأستاذ حسن المفتي، يطالع القارئ “مذكرات العلم”؛ وهي مذكرات / مقالات ذات نفس أتوبيوغرافي دأب الكاتب على نشرها أسبوعيا على صفحات جريدة “العلم” في سنوات الستينيات من القرن الماضي. ومن ثمّ، يمثل الباب الموسوم بـ”مذكرات العلم” تجميعا للحلقات الـ12 التي دأب صاحبها على نشرها على صفحات جريدة “العلم” طيلة سنوات. وحسب التواريخ المذيلة لكل حلقة من تلك الحلقات، فإن نشر أولى حلقات هذه المذكرات يعود إلى تاريخ 3 دجنبر 1967؛ أما نشر الحلقة الأخيرة، فهو مؤرخ بـ8 ماي 1969. وهي كالآتي: أم كلثوم.. والبحث عن تذكرة (7 مارس 1968)؛ الفن.. وازدواجية الأزمة (8 ماي 1968)؛ موليير يستغيث: “أنا بالله والشرع” (2 نونبر 1968)؛ ..
وانطفأت “الأنوار” (15 أبريل 1969)؛ استيقظوا أيها السينمائيون.. فقد غلبتم أهل الكهف.. (16 نونبر 1967)؛ حول الشعر الشعبي (17 دجنبر 1967)؛ خواطر مبعثرة (29 فبراير 1968)؛ كتّاب الأغاني.. غارقون في شبر ماء (22 أبريل 1969)؛ حسن عريبي.. والتراث الفلكلوري الليبي (8 ماي 1969)؛ حوار مفتوح مع متمردة (3 دجنبر 1967)؛ اكتتاب من أجل السينما (10 دجنبر 1967)؛ أكياس التبن (فاتح ماي 1968).
وإن الملاحظة العامة التي يسجلها القارئ لهذه الحلقات المنشورة في الكتاب وتلفت انتباهه هي أن الذين تولوا جمع مواده لم يراعوا التسلسل الزمني حين أعادوا نشر تلك الحلقات. وعلى كل حال، فإن هذه المسألة لن تضر بمضمون المذكرات ما دام أن كل حلقة من تلك الحلقات تنفرد بموضوع معين مستقل؛ غير أنه كان من الأولى والمستحسن أن يحافظ جامعو المواد على الترتيب التاريخي للحلقات، حتى يتسنى للقارئ أن يتبين الفرق في طريقة الكتابة وأسلوبها، لا سيما أن كتابة هذه المذكرات امتدت زهاء ثلاث سنوات (1967- 1968- 1969)..
وفي الباب الثالث من الجزء الثالث من الأعمال الكاملة للمفتي المعنون بـ”إضاءات”، ينتقل القارئ إلى نمط آخر من أنماط الكتابة السردية التي أسهم فيها الراحل بقلمه؛ وهو أدب أو فن المقالة النقدية. ويتضمن الباب 8 مقالات في موضوعات متنوعة شائكة وقضايا ومثيرة ما زالت تحتفظ براهنيتها إلى اليوم: السينما والأغنية والزجل والدراما الإذاعية. وإن القارئ المتأمل في تلك المقالات النقدية يجد أن صاحبها التزم بالصراحة والجرأة في كثير من المواقف التي عبر عنها، بلغة حجاجية وصادقة وقوية.
وفي الباب الرابع المعنون بـ”من الذاكرة”، لا يبتعد المؤلف حسن المفتي عن فن المذكرات الذي عالجه في الباب الثاني. ومن ثم، فإن هذا الباب يشكل تتمة وتكملة للباب السابق، لأن مدار الحديث في المقالات المدرجة فيه هو الذاكرة والمذكرات والذات، إذ يحكي فيه الكاتب عن جملة من الذكريات والأحداث التي عاشها خلال محطات من حياته الفنية الغنية.
ويظل الصدق والجرأة والوضوح والبساطة هي السمات التي تطبع هذه النصوص التسعة المدرجة في الباب الرابع من الجزء الثالث من الأعمال الكاملة؛ من قبيل: عامر نغم لن ينسى، أول يوم في البلاتوه، من ذكرياتي، أول مساعد مخرج مغربي في السنيما العربية، تعبت من الجري وراء السراب….
بناء عليه، يمكن أن نؤكد أن مقولة “الفنان المبدع شعلة تحترق لتنير طريق الآخرين” يصدق، إلى حد بعيد، إطلاقها على تجربة حسن المفتي، الأديب القاص والناقد الحصيف والزجال والسينمائي والإذاعي، متعدد المواهب؛ فهذا الرجل يلمس كل قارئ متأمل في تجربته أنه استطاع أن يعكس في كل الأعمال الفنية الغنية والمتنوعة التي أبدعها كل التحولات الاجتماعية والسياسية والإنسانية التي شهدها المغرب طيلة عقود عديدة.
وفي ختام هذه المقالة، يطيب لي أن أسجل أربع ملاحظات/ إشارات:
أولاها: أنبه إلى أنني وقفت بتوجيه من أستاذي الجليل رضوان احدادو على قصة منشورة للأديب حسن المفتي منشورة في مجلة “الحديقة” وغير مدرجة ضمن الباب الخاص بالقصص القصيرة؛ وهو ما يؤكد للقارئ المتخصص أن هذا العمل يظل ناقصا غير مستوف لكل أعمال المفتي الأدبية. ومن ثمّ، آمل أن ينكب أحد الدارسين المتخصصين في الأدب المغربي الحديث على جمع الإنتاج الأدبي الكامل، الذي أنتجه الرجل، خدمة للتراث الأدبي والفني لهذه الشخصية المتفردة في سماء الفن والأدب بالمغرب.
وفي الملاحظة الثانية، يطيب لي بمناسبة الذكرى التاسعة لرحيل هذه القامة الأدبية، التي بادرت بعض الهيئات الثقافية مشكورة مأجورة في مختلف ربوع بلادنا إلى الاحتفاء بها خلال أكثر من محطة بعد رحيلها مسلطة الضوء على تجربتها وإنتاجها المتنوع، أن أؤكد أن أحسن تكريم لاسمه هو الانكباب على قراءة أعماله وترويجها في أوساط الشباب والأجيال المقبلة؛ وهو عمل يفضل بكثير، بكل تأكيد ودون شك، إطلاق اسمه على زقاق في حيّ خلفي مثلما اعتاد الكثيرون..
ونأتي إلى الملاحظة أو بالأحرى الإشارة الثالثة، لأسجل أن الإعجاب بالإنتاج الأدبي السردي للأستاذ حسن المفتي رحمه دفعني إلى الانكباب، منذ ثلاث سنوات، بتوجيه من أستاذي الدكتور مصطفى يعلى حفظه الله، على إنجاز دراسة وافية عن هذا الإنتاج الغني والمتعدد الذي يشمل القصة القصيرة والمذكرات والبورتريه والنقد الأدبي، فكان من ثمرات هذه الجولة والصحبة الماتعة وأنا أتجول بين أفياء تلك الدرر اللوامع التي خطها يراع الرجل كتاب قائم الذات والصفات سيرى النور قريبا بحول الله تعالى بعنوان “حسن المفتي.. الوجه الآخر.. قراءات في التجربة السردية”..
أما الملاحظة الرابعة والأخيرة، فإنها تدعو إلى الاهتمام بالأعلام المغاربة، في شتى ميادين الأدب والمعرفة؛ بالنظر إلى الخطر الذي يتهدد هذه الأسماء. وما دعاني إلى تسطير هذه الملاحظة هو أنني وقفت في موقع متخصص في السينما على معلومة مفادها أن حسن المفتي هو مصري الجنسية. وقد انتابني الشك في ما أقرأ؛ غير أنني واصلت القراءة وأعادتها، فوجدت أن الكلام ينطبق إلى حد كبير الشخصية التي يدور عليها الحديث في هذا المقال، فهو “مولود سنة 1935، وتابع دراسة الفن المسرحي والسينمائي بالقاهرة بداية الخمسينات، واشتغل مخرجاً مساعداً إلى جانب كبار المخرجين المصريين كيوسف شاهين وصلاح أبو سيف وهنري بركات، والتحق بعد هذه الفترة بالإذاعة والتلفزيون بالمغرب حيث أنتج مجموعة من البرامج التلفزيونية، وكذلك فيلم “دموع الندم” للمرحوم محمد الحياني، ومجموعة كبيرة من الأغاني مع عدد من المطربين والمطربات”، وفق ما ورد في الموقع المصري المتخصص في السينما. وبخصوص هذه الشخصية، فإن الجهل لا يقتصر، في واقع الحال، على إخواننا المصريين وحدهم؛ بل إن كتابا صدر منذ سنوات معدودة يتضمّن تراجم ونبذا عن أعلام حاضرة تطاون أورد معلومات خاطئة حول هذه الشخصية، والله أعلى وأعلم، والسلام.