إن إشكالية الاتصال والانفصال بين الفقه؛ بما هو علمٌ يهتم بالأحكام الشرعية التكليفية انطلاقا من أدلتها التفصيلية (علم الشريعة)، وبين التصوف؛ بما هو تجربة وجدانية جوَّانية (علم الحقيقة)، قديمٌ قِدم الفقه والتصوف نفسهما، وقد أسهم ظهور “شخصيات قلقة” في تاريخ الإسلام اختارت مصارا يعادي ظاهرُه كثيرا من أحكام الشريعة من حدة الإشكال المذكور، ذلك أنّ أهل “الحقيقة” ذهبوا إلى اعتبار التمسك ب”ظاهر” الشريعة إنما هو أخذ برسوم الدين وقشوره، بينما المطلوب من المسلم “العارف” بحقيقة أحكام الله المُطّلع على شيءٍ من علم الله الأزلي، المؤهَّل للدخول في الاستثناء الإلهي “ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء”، هو النفاذ إلى عمق الشريعة وعدم الاكتفاء بظاهرها أو الاحتفاظ ببعدها العمودي “العبادات” والأفقي “المعاملات” فقط[1].
وفي المقابل، فإن الفقيه يزن سلوك المكلفين بمعيار الشريعة المؤطّرة بنصوص من القرآن الكريم والسنة والنبوية والإجماع والقياس وسائر الأدلة الشريعة النقلية والعقلية المقررة في علم أصول الفقه، وكل سلوك صدر من المكلف مخالف لما هو مُقرر في المصادر المذكورة محكوم عليه بالبوار، وقد تجلى هذا القلق السلوكي الذي أصاب “العارفين” قبل القرن السابع الهجري في صورة أفراد معينين، يضيق هذا المقال دون الإتيان على أسمائهم جميعا، وهو أيضا ليس غرضنا في هذه السطور، من أمثال الحلاج وأبي يزيد البسطامي والسهروردي و وابن عربي وابن سبعين والشمس التبريزي وجلال الدين الرومي وغيرهم كثير.
أما بعد القرن المذكور فقد انتقل التصوفُ من التجلي الفردي إلى سلوك جماعي تتبناه “مؤسسة” دينية واجتماعية هي الزاوية، وإذا كان هذا القلق، كما يعبر الدكتور عبد الرحمن بدوي، عند أصحاب التجارب الفردية أتاهم من جهة خوضهم في قضايا فلسفية لها تعلُّقٌ بالأنطولوجيا، حتى قال بعضُهم بحلول الذات الإلهية في ذاته، كما هو الأمر عند الحلاج الذي كفّره الفقهاء، و كانت “شطحاته” سببا في مقتله.
هذا عن سؤال الانفصال بين علم الشريعة وعلم الحقيقة، أما عن سؤال الاتصال فإن الغاية من الشريعة إنما هي تحقيق صلاح الإنسان والمجتمع، والتصوف بما هو علم يهتم بالأخلاق التي قال عنها النبي -عليه السلام- “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”، فهو ينتمي إلى صميم علوم الدين، تماما مثل علم التفسير وعلم العقائد والفقه.
وقد ظهر في تاريخنا الإسلامي علماءُ كبار اشتغلوا بالتصوف وعُرفوا به بالحجم الذي اشتغلوا بالفقه وعُرفوا به أيضا، بل إن تذوقَهم لأسرار وحقائق التصوف إنما هو تذوقٌ لأسرار وحقائق الشرع، لأنَّ الشرعَ مصدره، فقد فهم هؤلاء الفقهاءُ المتصوفة أنه بقدر فقهك في الدين ينبغي أن يكون تذوقك، ولنا أن نمثل في هذا المقام بالشيخ أحمد الفاسي المعروف بالشيخ زروق، الذي قال في مقدمة كتابه النفيس “قواعد التصوف”، والذي جمع فيه بين الفقه والأصول والتصوف،: “فالقصد بهذا المختصر وفصوله، تمهيد قواعد التصوف وأصوله، على وجه يجمع بين الشريعة والحقيقة، ويصل الأصول والفقه بالطريقة“[2].
واضحة إذن رسالة الشيخ زروق القائمة على نفي القول بأي انفصال بين علمين نابعين من مهيع واحد، وهو الأمر الذي عبّر عنه أهل الشريعة وأهل الذوق بقاعدة نفيسة حفظها لنا التراث الإسلامي، وهي منسوبة إلى إمام المذهب سيدنا مالك، قوامها: من تصوف ولم يتفقه فقد تفسق، ومن تفقه ولم يتصوف فقد تزندق، ومن جمع بينهما فقد تحقَّق.
[1] _ يقول ابن عجيبة الحسني في الفتوحات الإلهية ” العالم (الفقيه) يدلك على محافظة الصلوات، والعارف يدلك على ذكر الله مع الأنفاس واللحظات”، انظر تحقيق عبد الرحمن حسن محمود، عالم الفكر ص 322.
[2] _ قواعد التصوف للشيخ زروق الفاسي، تحقيق عبد المجيد خيالي، طبعة : دار الكتب العلمية، 2005 ، ص 21 .
د. إبراهيم بوحولين