أعيتني رواية دوستويفسكي “الجريمة والعقاب” المطنبة في استبطان الهواجس الذاتية وتقلباتها وفي الحفر في أعماق اللاشعور وغرائبه، فانتقلت إلى مكتبتي باحثا عن ملاذ آخر عله ينتشلني من عالم راسكولنيكوف وجريمته إلى عالم آخر مختلف فأخرجت من بين العناوين المارة أمام عيني ” يوميات نائب في الأرياف” لتوفيق الحكيم الذي لم أتذكر شيئا عنه، بل لا أتذكر هل قرأته من قبل أم لا؛ فانغمست في قراءة أحداث اليوم الأول للنائب المؤرخ ب 11 أكتوبر- وهو اليوم الذي أكتب فيه ما أكتبه الآن- من يوميات النائب التي جذبتني بروحها الخفيفة وبأجوائها القريبة من أجواء مراكزنا القرويةا الحبلى بأحداثها وصراعاتها الصغيرة التي لا تنتهي.
في “الجريمة والعقاب” تحس، وأنت تمضغ صفحاتها، بضغط شديد وبمزاج متوتر، أما و أنت تشرب من ماء “يوميات نائب في الأرياف”، فتشعر بانتعاش وخفة و بمزاج رائق رغم النار الثاوية تحت التبن.
السياسة التي تجذبني عوالمها مثل الرواية والمحكيات عموما، أشعر معها بالخفة أو الثقل حسب الحالات والمقامات، فقد تكون آلتها صدئة، والنقاش العمومي حول مجرياتها المتسارعة وأحداثها المؤثرة مغلف بلغة الخشب، وقد تكون على العكس من ذلك آلتها متحركة بسلاسة، والنقاش العمومي حول أحداثها المؤثرة ومجرياتها المتسارعة مطبوع بالوضوح و باختلاف المواقف و تنافس الرؤى و الصراع الممأسس بين تعبيرات قوى المجتمع.
بين حكي وحكي تنتقل من عوالم اجتماعية و نفسية وتاريخية وسياسية-متخيلة أو واقعية- إلى أخرى، ومن أحاسيس إلى أخرى… وبين عالم سياسي و آخر، في ظل انتشار وسائل التواصل الإلكترونية و سرعة تبادل المعلومات وانفتاح كل العوالم على بعضها، تنتقل من لغة ومفاهيم إلى أخرى، ومن مستوى إلى آخر في النقاش مما يجعلك تعقد مقارنات بين سياستنا وسياسة الآخرين، بين نخبنا السياسية و نخبهم، بين ديموقراطتنا وديموقراطيتهم، بين إعلامهم وإعلامنا، بين التأخر و التقدم، بين طموح أمم و تقاعس أخرى.
لا أريد من كلامي هذا تبخيسا أو تنقيصا أو جلدا للذات، وإنما هدفي، ونحن نعيش قدرنا غير المحتوم كأمم إن علت هممنا و ثبتت إرادتنا، أن نحتك بالآخرين كما احتكوا بنا، أن نتعلم منهم كما تعلموا منا بدون مركب نقص، وبدون ضوضاء فارغة، فكم من أمة كان لها شأن عظيم فهوت، وكم من أمة لم يكن لها مكان رفيع بين الأمم فارتفعت…
بين حكي وحكي متعة و فائدة، وبين سياسة وسياسة نظر و أفق، بين حكي وحكي تختلف الأحاسيس، وبين سياسة وسياسة يتقرر مصير الأمم…
عبد الحي مفتاح