كل الأمم والشعوب تشرئب إلى المستقبل آملة أن تتغير أمورها و أن تتطور من حسن إلى أحسن، تلك سنة الحياة وإن كانت العديد من الأحداث المثبطة قد تقلب المفاهيم، وتشوش الرؤى، وتعكر الأمزجة.
و تاريخ كل أمة أو شعب في مساره التقدمي الحتمي المدفوع بتقليد الأمم والشعوب الأخرى أو الأخذ منها أو التنافس معها، يسجل تجارب نجاح و فشل، و قد تتراوح تجارب أخرى بين بين، ولكنها تبقى تجارب لا بد منها كمحك لاكتساب الخبرات و مراجعة الذات و تصحيح المسار.
المغرب كأمة أو شعب ليس استثناءا ضمن منظومة الشعوب والأمم، يعيش في تاريخه المعاصر مخاضا يحبل بتقلبات مثيرة تدعو إلى التساؤل، وموجات من التقدم والتراجع مستعصية، الشيء الذي لم يسمح له بالحسم في مفاهيم أساسية تؤطر نسيجه المجتمعي و السياسي: الليبرالية، الإسلام السياسي، الاشتراكية، والديموقراطية…
ما موقع الليبرالية والديموقراطية وما حدودهما؟. ماذا تبقى من الاشتراكية وما مصير الإسلام السياسي؟.
أسئلة تطرح علينا كثيرا جهرا و سرا، أفرادا وتنظيمات ومؤسسات بحث ؛ وهكذا نلاحظ أن قوى مجتمعية تهيمن على اقتصاد البلاد ومفاصله تميل في نمط الإنتاج والحياة إلى الغرب الذي جعلته مثلها الأعلى صرحت بذلك أم لم تصرح، بل تحسبها من شدة التعلق بهذا المثل أنها تعيش بالجسد هنا وبالروح هناك؛ إلا أن ترددها في ممارسة قيم الليبرالية في مختلف أبعادها يبدو واضحا ويجعلها في ارتباك دائم أمام معالجة العديد من المفارقات والتناقضات..
قوى مجتمعية أخرى اتخذت من الإسلام مرجعية سياسية أساسية وتمارس السياسة على أساس أن الهدف الاستراتيجي منها هو حماية الدين الإسلامي وصيانته؛ وأن هذا الدين هو، في نفس الوقت، أداة للتعبئة والاستقطاب لإضعاف القوى الأخرى ذات الخيارات المتناقضة لخيارها، والتي تصمها بكونها مستغربة وغريبة على تاريخنا ومجتمعنا، وبالتالي تتدافع معها من الداخل باستعمال نفس الآليات المؤسساتية التي تستعملها.
هذه القوى المجتمعية تخضع الآن لامتحان قوي لأنها لا تصارع محليا فقط -بما استطاعت من قوة وبقدر كبير من البرغماتية والدهاء- بل تواجه موضوعيا نظاما عالميا تهيمن عليه الخيارات الأخرى وبالأساس الخيار الرأسمالي الليبرالي ذو المرجعية الإيديولوجية والدينية القريبة من اليهودية/المسيحية ، مما يجعلها حائرة في اختياراتها المستقبلية من أجل حل معادلة التكيف مع موازين قوى العصر وشروطه دون فقدان الروح و التفريط في الغاية من الوجود.
القوى المجتمعية الثالثة جنحت إلى الاشتراكية كوسيلة للنضال وكحلم لحل المعضلات الاجتماعية و الفوارق الطبقية و سعيا إلى بناء نظام سياسي/اجتماعي قريب من الطوبا، إلا أنها في طريقها إلى ذلك تعرضت لابتلاءات ناتجة عن سوء تقدير أو خفة نظر أو قوة الخصم وحنكته، ثم إلى نكسات ناتجة بالأساس عن انهيار الحلم الاشتراكي في منبعه، وبالتالي ضمور بريقه وجاذبيته في مجتمعات حداثية فما بالك بالتقليدية، لكن زيغان الرأسمالية الليبرالية وتأزمها الدوري وتبعا لذلك توحشها العنيف يحيي أمال ما تبقى من الاشتراكيين بجميع أصنافهم في عودة الروح وانبثاق آمال جديدة في تعبئة واستمالة الفئات الشعبية والوسطى التي تطمح إلى إعادة النظر في التوازنات الاجتماعية والبيئية، وقبل ذلك وقف زحف الهجوم على المكتسبات التي حققتها هذه الفئات والشغيلة أساسا في القرن الماضي، و صد الرياح العاصفة التي تنذر بالصعود الملفت للتيارات الفاشية والعنصرية، و وبانبعاث دعوات الانغلاق، ثم النزعات الصدامية والحربية.
الديموقراطية هذه الكلمة السحرية أو نموذج الحكم(حكم الشعب لنفسه بنفسه أو عن طريق نوابه) الذي يعد أرقى ما وصلت إليه الإنسانية لإدارة الصراع في المجتمعات بشكل سلمي، قد تخضع كمفهوم للتأويل، حسب المرجعية والهدف وموقع القوة والمصلحة إلخ، لذلك فتنزيل المفهوم يتغير حسب المجتمعات والزمان و الظروف، وإن كانت أسسه معروفة ولا يمكن أن يتم البناء الديموقراطي إلا بها؛ وذلك حتى لا تصبح الديموقراطية مطية لممارسة الاستبداد والطغيان، والإقصاء وهضم حقوق الأقليات وكبح الحريات باسمها، فهي لذلك وسيلة للرقي والتجويد المستمر، وغاية للتوازن والتعايش و السلم الدائم.
الديموقراطية قد تجمع في عقدها التعدد والاختلاف وتوفر الشرط الضروري لمحاصرة النزوع إلى التطرف والهيمنة المنفلتة والتسلط، فالليبرالية الاجتماعية و الإسلام الوسطي والإشتراكية الديموقراطية توجهات تليق للديموقراطية، و تجد مكانها مواتيا داخلها، والديموقراطية لذلك من شأنها أن تزرع روح الاجتهاد والإبداع والتنافس الجميل في هذه التوجهات خدمة للمجتمع ورفاهه ورقيه، كما أن الديموقراطية التشاركية أو الديموقراطية المستمرة-كما يسمي البعض المشاركة المواطنة في الفترة الفاصلة بين استحقاقين انتخابيين- من شأنها تجديد الروح في الديموقراطية وإعادة الحياة والثقة في مؤسساتها التي طالها بعض العياء والفتور، وران عليها الكثير من الشحوب و الجمود.
عبدالحي مفتاح