نصِلُ في هذه الحلقة إلى تجميع ما ورد في الحلقتين السابقتين، بعد أن عرَّفنا فيهما بمظاهر احتفال المغاربة بذكرى المولد النبوي بصفة عامة، وبمدينة تطوان على وجه الخصوص، ثم وَقَفنا كذلك على إيراد موقف العلماء المغاربة حول استِحسان هذا الاحتفال أو نُكرانه.. وجديدُنا في هذه الحلقة ذكر ما وجدناه ضمن كتاب “النعيم المقيم” للفقيه التطاوني محمد المرير من تحرير المقال في مظاهر الاحتفال بالمولد النبوي..
ففي عنوانٍ فرعِيٍّ في الجزء الخامس من هذا الكتاب جاء قول المؤلف: “عيد المولد النبوي الشريف وتخالف الآراء في إحداثه”، يقول فيه المؤلف: (أما عيد مولِدِه عليه الصلاة والسلام فهو قد أُحدِث بعدَه وبعد القرون الأولى، ولهذا عدَّه بعض العلماء من البِدع التي لم يأت بها نصٌّ من صاحب الشريعة، ولا ندَبَ إليه أحدٌ من الصحابة ولا التابعين، ولا من يقْفُوهم من أئمة الأقطار الإسلامية، وما أُحدِث إلا بعد القرون الثلاثة. ولما أحدث اختَلَف فيه أهل العلم؛ فمنهم من استجازَه وعدَّه من القُربات إلى الحضرة النبوية، وجعلَه من البدع الحسنة التي فيها للأمة خير كثير. ومنهم من ذمَّ ذلك، وجعلَه مما لم يأذن به الله..).
ثم أشار المؤلِّف إلى ما دبَّجه قلمُه في هذا الأمر، من ذكر سبب تأليف هذا الكتيب وذكر اسمه بقوله: (وعلى كون هذا المبحث مهمّاً، وتخالَفت فيه الآراء.. أوجبت محبة سيدنا والرغبة في الانحياش إلى جناب حماية ملاذنا وشفيعنا يوم اشتداد الأمر علينا في حشرنا ونشرنا، النبي الفاتح الخاتم سيدنا ومولانا وعمادنا أبي القاسم؛ أن أكتب في هذا المولد الذي كان قرَّةً لعيون أهل الإسلام ومطلع شمس الهداية، الذي دعا إلى السبيل المستقيم، وأضاء السلوك إلى الوصول لدار السلام، وأن أجْمَع في هذا المقام العالي الذري، ما يكون فيه قرة لعين من في قلبه ما يليق من التعظيم والتوقير لهذا النبي الكريم.. أُسَمِّيه: “تجديدُ المسرَّات والأفراح بذِكْرِ مولِدِ شمس الموجودات وروح الأرواح”).
وسأورد في هذا المقال ما تضمَّنه الكتاب من مباحث وعناوين، فقد عقد المؤلِّف في البداية تمهيدا في التَّذكير برسالة نبي الرحمة سيدنا محمد – ص- إلى العالمين، وأتبَعه بفصل ذكَر فيه ما ألَمَّ العالم الإسلامي من شرور بمطلع القرن الرابع عشر الهجري؛ واصفا تعلَّاته وهناتِه، حيث “أُنكِر فيه المعروف وأُقرَّ المنكر، وصُدِّق الكاذب وكُذِّب الصادق، واستُبيحت المحرَّمات، واستُجهِل العالم العامل واحتُقِر، وفُقدت الأمانة، والتَبست على العالم المسائل واختلَط الحابل بالنابل، وأصبح الدِّين غريبا كما بدأ.. وضاق المجال وعمَّ الاختلال في سائر أقطار الإسلام”.
ثم انتقل المؤلِّف إلى الحديث عمن اختار العزلة ومن اختار المخالطة من السابقين، مع بيان طريقة العزلة في العصر الحاضر للاشتغال بالعبادة والعلم، وخاصة منهم أهل الطريق الصوفي الذين اختاروا أعالي الجبال للعبادة والتبتل..
بعد ذلك وضَع المؤلِّف مقدمة لهذا التقييد في تحقيق المقال في اليوم الموافق لمولد النبي – ص- هل يُعدُّ من الأعياد الإسلامية التي تُخَصُّ بالاحتفال كسائر الأعياد كما هو المعتاد، أم هو الاحتفال الذي يقام اليوم؛ وفيه من البدع المستحدَثة التي لم تكن في العصور الأولى معهودةً عند الصحابة ولا عند التابعين ولا عند من يليهم من الأجيال.. وقد اختار الفقيه محمد المرير الوقوف على بعض إرهاصات النبوة قبل مولده عليه السلام وفق الترتيب التالي: نسبُه الرفيع المقدار المرتفع على سائر الأقدار، أُمَّهاته عليه السلام، زواج والِده، مولِده، شمائل المصطفى عليه السلام وآدابُه وحُسن أخلاقه.. ليصل إلى الحديث عن إحداث الاحتفال بعيد المولد النبوي وكلام العلماء في ذلك، وعلى رأسهم فتوى الإمام الحفار في إنكار إقامة المولد وغيره من الأقوال كقول ابن الحاج في كتابه “المدخل”، ثم أورد فتوى الونشريسي في “المعيار” التي خالف بها من سبقه، وكذا رأي ابن عباد من استحسان مظاهر هذا الاحتفال مما أوردنا تفاصيله في الحلقتين السابقتين من هذه السلسلة.
ثم انتقل المؤلِّف إلى وصف بعض مظاهر احتفال السابقين بهذه الذكرى الطيبة النشر وما أُلِّف فيها من مؤلَّفات، إلى أن وصل إلى أيام العزفين بسبتة فوضع لاحتفالهم عنوانا: “الرئيس العزفي السبتي أوَّلُ من أحدَث الاحتفال بالمولد النبوي بالمغرب”، ذاكرا سبب عزمه على إقامة هذا الاحتفال من منافسة النصارى في أعيادهم وثَنْي بعض المسلمين من اتباع سَنَنهم، حيث ذكر أن أبا العباس العزفي هو أوَّلُ من سنَّ عمل المولد النبوي بالمغرب، وذكر تأليفه في ذلك المسمى: “الدُّرُّ المُنَظَّم في مولد النَّبي المُعَظَّم”، فقال في ذلك: (ثم إن العزفي كان الباعثَ له على هذا الإحداث والتأليف في ذلك، هو ما كان يرى من ولوع أهل عصره بتعظيم مواسم الكفار وأعيادهم، فتبعَه الناس في ذلك ابتداءً من أيام السلطان الموحدي يوسف بن يعقوب)، وذكر اقتداء ملوك المغرب بما أحدَثه صاحب سبتة ووصَف احتفال سلطان تلمسان بالمولد وذكر غيره من السلاطين.
هذا إلى جانب خَوضه في مسألة ما فعلتْهُ الدولة الأموية من ترسيم الاحتفال ببعض المواسم الفارسية مع ذكر مسألة الاقتداء بالغالب وتقليد الأجانب، وذكر احتفال أحد سلاطين بابل بهذه الذكرى وما أقامه فيها من سنن وعادات، والمؤلِّف في كل ذلك جائلٌ في هذا التأليف الموجز بين مؤيد للاحتفال وبين منكر له.. غرضه من ذلك كما قال: (إيضاح المقالة لمن يتحرَّى الطريقة المُثلى وينتهج المنهج الأقوى أن إقامة المولد النبوي وإظهار كبير المسرات من تكثير الاجتماعات في المساجد العامة والزوايا المخصوصات وتحسين الهيئات بالحُلل الفاخرة التي يُتحلَّى بها في أكبر الحفلات وتكثير الأضواء في المساجد وإنارتها بتكثير المصابيح إشارة لتنوير القلوب المملوءة بحب النبي الكريم من كل راكع وساجد وإنشاد الأشعار والقصائد بمديح النبي المختار..)، مستشهدا لذلك بما ورد من التعظيم لمولده عند الإمام الغزالي في كتابه “الإحياء”.
ثم ختم الفقيه المرير كتابه هذا بإيراد الجواب عن ستة أسئلة هي محاور هذا الاختلاف بين المؤيدين والمعارضين لإقامة الاحتفال بالمولد النبوي، ذاكرا خلاف العلماء في كل مسألة من هذه المسائل، ومقرِّرا الجواب الذي ارتضاه في ذلك، وهو للإشارة ملخصٌ جامعٌ لهذه المسائل الخلافية، وقد أوردها كالتالي:
س1: ما السبب في عدم احتفال أصحاب رسول الله – ص- ولا مَن بَعدهم من التابعين بهذا المولد العظيم؟
س2: هل يوجد في الحديث ما يصحُّ أن يكون سندا لإحداث هذا العيد، أم لا؟
س3: ما السبب الدَّاعي للرئيس أبي العباس العزفي، أحد رؤساء سبتة وعلمائهم، في إحداث هذا الاحتفال، وتعضيدِه بمؤلَّف يعرب به عن هذا المقام؟
س4: في ذكر الخلاف في التَّفاضل بين ليلة القدر وليلة المولد.
س5: ليلة الإسراء وليلة القدر، وما قيل في التفاضل بينهما.
س6: ذكر الاختلاف في ضبط ليلة مولده عليه السلام وتحقيق القول في أنها ليلة اثنتي عشرة مضت من ربيع الأول.
وذيَّل الكتاب أخيرا بوصف ما كان عليه الاحتفال بهذا المولد الشريف بحضرة فاس، ووصف ليلته بمدينة تطوان، وفق ما سبق أن أوردناه في السابق، وهي على العموم مظاهر يتوافق عليها جميع المغاربة إحياء وتعبيرا لاحتفالهم بمولد النبي الكريم عليه أفضل الصلوات وأزكى التسليمات..
هذا، ويحضرني في ختام هذه الحلقة الثالثة من سلسلة حلقات حول مظاهر احتفال المغاربة بذكرى المولد النبوي الشريف، والمناسبة شرط – كما يقال- إسهاما منِّي في تنوير القارئ الكريم بما أفاض فيه المغاربة عموما من نقاش حول هذه المناسبة، أن أُورد شذَراتٍ من بعض أبيات شعرية للفقيه محمد المرير حول المولد النبوي مما وجدتُه في تقييده الخاص بذلك والمعنون بـ: “قصائد وأبيات وأنظام في مسائل مختلفة للعلامة محمد المرير”، ومن ذلك توشيح في معنى المولد والإسراء قال فيه:
هل دَرَتْ شمسُ الضُّحى إذ طلعَت وأذاعت نورَها في الأفق
أدَرَتْ من أيِّ نورٍ سطعَت نورِ أسمَى الخَلْق سامِي الخُلُق
دُرَّة الكون وسِرُّ الثَّقلين مُرشِد الخَلْق إلى مُثلَى الطَّريق
ناصِرُ الحَقِّ بتشديدٍ ولينٍ فهوَ في اللهِ بَرقٌ وبريقٌ
يعِدُ الطَّائعَ مأوى الجنَّتين يُوعِد الطَّاغي بعذابِ الحريق
نورُه الوَقَّاد في الكون سَرَى فمَحَا عنهم سوء الضَّلال المُحْدِق
وانْجَلى الشك لديهم وانْمَرَى إذ بدَا الدِّينُ كبَدْرٍ مُشْرِقٍ
إلى أن قال:
أُمَّةٌ مسبوقةٌ في الزَّمَن وهي في تفضيلها لَم تُسبق
كم لها من ربِّها من مِنَنٍ من نَبِيٍّ في العُلا لم يُلحق
أمة الإسلام قُوموا وانهَضوا واقْصدوا في سعيِكم نحو الأَمَام
ثم ختم ذلك بقوله:
لَوْ أقَمْنا الدِّينَ ما خِفْنَا العِدَا ولَكُنَّا في الرَّعيل الأسْبَق
وعلَتْ دولتُنا طول المَدى في رُبَى الغَرب وأَقْصى المَشرِق
إعداد الأستاذ: منتصر الخطيب/ تطوان