ـ 1 ـ
خبرت التعليم وجربته أكثر من ثلاثين عاما بصنفيه الخصوصي والعمومي وبأطواره الإعدادية والثانوية والجامعية وبشعبه الأدبية والعلمية والتقنية فضلا عن التعليم العتيق.. ويمكنني أن أجزم بعد هذه التجربة الطويلة والمتنوعة والغنية أن التدريس مهنة شاقة ومهمة صعبة ومرهقة ومسؤولية عظمى.. تحتاج إلى التضحية ونكران الذات والكثير من الجهد والاجتهاد والابتكار.. لكنها مهنة ممتعة لمن عشقها وآمن برسالتها..
ـ 2 ـ
المدرس يجد ويجتهد ليحمل الفرح إلى الآخرين لينتشلهم من الجهل والتعاسة.. هؤلاء الآخرين كائنات في طور التكوين يحتاجون إلى من يحضنهم ويحبهم ويهديهم ويصافحهم بلطف وحنان.. فتوقفوا رحمكم الله عن النيل من كرامة الأستاذ وتعنيفه وسبه والحط من قيمته والتهجم عليه.. إنه يستحق منا كل الحفاوة والتكريم والعرفان بجميل عطائه وبدوره الحساس والفعال الذي يلعبه في إثراء الساحة التربوية والتعليمية والأخلاقية..
ـ 3 ـ
اللغة العربية لغة ثرية تعبر عن وجدان الإنسان أجمل تعبير مما يساعد الإنسان على تجاوز أزماته النفسية، والكلمة في اللغة العربية على الرغم من بساطتها تحمل في ثناياها ما يعبر عن مشاعر وأحاسيس متنوعة معقدة تساعد الإنسان على أن يعبر عن مشاكله ويتخطاها ويحولها إلى قوة دافعة عبر برزخ اللغة الجميل، واللغة العربية تعبر عن سائر أنواع العواطف والفضائل والسجايا والمعنويات والمدركات سواء باللفظ المباشر أو بالرمز أو بالكناية والاستعارة والمجاز..
ـ 4 ـ
ليست وظيفة التعليم مجرد حشو الذاكرة بالمعلومات .. بل هي إيجاد العقل الناقد.. فإذا لم تكن مدارسنا تعمل على إنتاج فرد حر ومستقل في آرائه واختياراته ومواقفه.. فإنه سيكرر إنتاج نفس الثقافة السائدة..
ـ 5 ـ
فاجأتني إحدى تلميذاتي ونحن ندرس قصيدة شعرية بقولها إنها تريد أن تكون شاعرة بدون أن تكتب الشعر لأنها بذلت مجهودا كبيرا ولكنها لم تستطع أن تكتب ولو بيتا شعريا واحدا.. ذكرتني بقولة للشاعر الفرنسي مالارميه يقول فيها: ” في كل مرة يبذل جهد لتحسين الأسلوب يكون هناك شعر”.. حاولت إقناعها بأن الشعر ليس هو الكتابة النصية فقط.. وأن الشعر سلوك وموقف جمالي من الحياة.. إنه إيتيكيت ورقي..وذوق..
ـ 6 ـ
واقع التعليم ببلادنا يعاني من اختلالات بنيوية شاملة هيكليا وبيداغوجيا، وهو ما يضمن مستقبلا أكثر اختلالا، وإذا استمر الأمر على هذه الشاكلة سيكون أكثر ظلامية وانسدادا عما هو عليه الآن .. إن المسألة التعليمية في كل مجتمع هي محور حركته التاريخية وفعاليته الحضارية ، فالتعليم مرآة أي مجتمع ، مرآة تعكس تصوراته عن نفسه ومرآة تعكس هويته وأصوله التاريخية وآفاقه المستقبلية..
ـ 7 ـ
من نتائج السياسة التعليمية الفاشلة والتي تركز على الكم بدل الكيف تفريخ أفواج من الخريجين ثقافتهم قائمة على التلقين ونهجهم هو الرجوع إلى سلطة عليا تملي عليهم ما يفعلون ، وأسلوبهم التسليم بالأوامر دون فحص أو تمحيص ، وسبيلهم الاعتقاد في الزعيم الأرعد والمرشد الأوعد والرأي الأوحد.. دون أن تكون لهم القدرة على النقد والاختيار، أو قوة التغيير أو إمكانية التفاهم وحل الخلافات بدون اللجوء إلى العنف وإقصاء الآخر..
ـ 8 ـ
الجامعة مؤسسة علمية وتربوية عليا منفتحة على الكون كله، يعتمد مستواها العلمي وسمعتها التربوية على مستوى أساتذتها وسمعتهم المعرفية .. فالأستاذ البارز علميا وبيداغوجيا يسدي لأمته خدمة لا تقدر بثمن، ولهذا من المفروض في الأستاذ الجامعي أن يكون على مستوى رفيع من الأدب والأخلاق الفاضلة، وأن يكون ملما بقواعد التربية وأصول التدريس وميكانزمات البحث العلمي والإنتاج الفكري..وأن يكون له إشعاع ثقافي وحضور معرفي.. وقبل هذا وذاك أن يحب طلبته ويرعاهم كما لو كانوا إخوته أو أبناءه..
ـ 9 ـ
لا يمكن أن تعمل التربية على إنتاج أفراد نسخ طبق الأصل لآبائهم لأن العقبات والتحديات التي تواجه جيل اليوم تختلف عن تلك التي واجهها الجيل السابق والتي سيواجهها الجيل اللاحق.. لذا لابد من وعي الآباء والمربين بهذه القضية ليتم إعداد النشء طبق منهجية تربوية تراعي مستجدات العصر وتحديات المستقبل، وصدق الإمام علي كرم الله وجهه عندما قال: “ربوا أبناءكم لزمن غير زمانكم”.
د. نجيب محمد الجباري.