يعد السيد العياشي بن السيد محمد الوراكلي الشفشاوني الأصل التطاوني الدار والقرار، من ألمع رجالات الموسيقى الأندلسية في القرن العشرين بمدينة تطوان، ومن أكبر الحفاظ لأشعارها وأوزانها، لعب دورا مهما في نشرها وتعليمها والمحافظة عليها، في هذه المدينة التي عرفت بأصالتها وعراقتها في هذا المجال.
ولد العياشي الوراكلي بمدينة شفشاون في النصف الثاني من القرن العشرين وبالضبط سنة 1870. تعلم القرآن والعلوم كما هي عادة المغاربة في تلقين أبنائهم وتعليمهم، كما تلقى مبادئ الموسيقى بزاوية سيدي علي شقور بزنقة السويقة بمدينة شفشاون على غرار بعض الولوعين من أقرانه في تلك الفترة التي كانت الحركة الموسيقية بها في أوج نشاطها، وهناك صيغت موهبته الموسيقية بالإضافة إلى التهذيب الروحي الصوفي المحض، حيث كان الموسيقيون يجتمعون كل جمعة ليعزفوا الموسيقى الأندلسية والمديح والسماع من بردة وهمزية، فخالط رجالها من الحفاظ والعازفين ونهل من معارفهم.
وكانت أسرة العياشي الوراكلي قد اضطرت للرحيل إلى مدينة تطوان والاستقرار بها، حيث امتهن بها تجارة الجلاليب والصوف بمدخل حي الخرازين بتطوان، وهي آنذاك تجارة مرموقة بهذه المدينة، إلى جانب غيرها من أنواع التجارات بالمدينة العتيقة. يقول محمد داود عن أسرته: (عائلة (الوراكلي) أصلها من مدينة شفشاون، وقد انتقل منها إلى تطوان في الربع الأول من هذا القرن السيد العياشي الوراكلي، التاجر في الثياب الصوفية في الغرسة الكبيرة، وكان من أئمة الحفاظ للموسيقى الأندلسية، ويعزف في الحفلات على الرباب..).
ونظرا لولعه وحبه لموسيقى الآلة، ظل العياشي الوراكلي مرتبطا بالأجواء الموسيقية بالمدينة، وفي ظل الإصلاحات التي حققتها الحركة الوطنية في شتى المجالات في بداية الثلاثينات من القرن الماضي بإنشاء مجموعة من المؤسسات العلمية والثقافية كفتح المدرسة الأهلية في ديسمبر 1924 وإنشاء المطبعة المهدية كأول مطبعة بالمغرب سنة 1928 وتدشين المعهد الحر للتعليم سنة 1935، ارتأت لجنة محلية مكونة من السادة محمد بنونة ومحمد داود ومحمد بن اللبار وعبد السلام الصوردو وأحمد الوكيلي ومحمد العلوي وعبد السلام الحراق رفع ملتمس إلى الخليفة السلطاني تقترح فيه تأسيس فرع المعهد الحسني للموسيقى الأندلسية المغربية للتعليم والبحث فيها بموازاة مع المعهد الإسباني للموسيقى يأخذ على عاتقه مهمة تعليم هذا الفن للولوعين والحفاظ على أوزان موسيقى الآلة وصنائعها وأشعارها من الضياع.
وبالفعل تمكن هؤلاء من تحقيق مطلبهم وتأسيس الإطار القانوني لأنشطتهم الموسيقية، وهكذا صار المعهد حقيقة سنة 1940 في مقره الأول بزنقة القائد أحمد. ثم اتسع المعهد بإنشاء قسم الأبحاث الموسيقية بهدف الحفاظ على طبوع الآلة وجمع أشعارها وموسيقاها وتدوينها. وقد اختارت السلطة المحلية تعيين شخصية وازنة ومولعة بالموسيقى الأندلسية لرئاسة المعهد، فاستقر رأيها على السيد عبد السلام بن الامين؛ الرجل الصوفي الذي كان يشغل منصب باشا شفشاون قبل ذلك، وتعيين (المعلم العياشي الوراكلي) أستاذا للموسيقي، ومديرا لجوق الموسيقى الأندلسية الذي أحدث لأول مرة في المعهد الموسيقي بتطوان، باعتباره أكثر وأمهر الحافظين للموسيقى الأندلسية في تطوان وشفشاون في ذلك الوقت.
وهكذا انكب مترجمنا بعزيمة على تعليم طلبته، وكان يلقنهم النوبات الموسيقية والعزف على بعض الآلات الوترية وخاصة آلة الرباب التي تخصص فيها، بالإضافة إلى إتقانه العزف على باقي أنواع الآلات الموسيقية الأخرى. وهكذا اختير العياشي الوراكلي أستاذا لمادة الرباب، وأحمد البردعي أستاذا لمادة الكمان، والعربي الغازي أستاذا لمادة الكمان أيضا، وأحمد الوكيلي أستاذا لمادة العود، وعبد السلام الإدريسي أستاذا لمادة الدف (الطار)، ومحمد المطيري أستاذا لمادة الدربوكة، ومحمد داود أستاذا لمادة الميزان.
من جهة أخرى أخذ عن مترجمنا مبادئ الموسيقى الأندلسية ومقاماتها وصنعاتها كثير من أبناء تطوان وشفشاون، وتتلمذ عليه عدد كبير من الآليين، ومن هؤلاء محمد بن أحمد المريني الذي تلقى عنه مستعملات المدرسة الشفشاونية القديمة. كما لم يفت الفنان الفاسي مولاي أحمد الوكيلي – بعد حلوله بتطوان عام 1942- أن يستفيد من خبرة المترجم في عزف الرباب، وأن يأخذ عنه بعض الصنايع الشاونية النادرة ومنها صنعة أحمد الهادي من بسيط نوبة رمل الماية، وذلك مقابل تلقينه صنعات أخرى من المدرسة الفاسية، بعد أن كان الوكيلي قد تعرّف على فرائد الشعر العربي في شتى أغراضه في صغره، وتلقى مبادئ فن موسيقى الآلة على يد أساطين عصره وخاصة على يد الأستاذين البريهي والمطيري اللذين منحاه إجازة مكتوبة، تشهد له بالنجابة وعلو كعبه في الميدان. وكان مولاي أحمد الوكيلي قد انتقل- قبل ذلك- إلى طنجة عام 1937م، ليشتغل بالتجارة، وهناك أسس بمعية العديد من ولوعي المدينة، جمعية إخوان الفن، وكان ينتقل في تلك الفترة إلى معهد تطوان بإيعاز من الخليفة مولاي الحسن بن المهدي، فالتقى مترجمنا (المرحوم العياشي الوراكلي) – وهو إذاك- أحد كبار معلمي مدرسة تطوان، فتبادلا العديد من الصنائع النادرة، انتقل إلى الرباط مطلع الخمسينيات، فأسندت إليه رئاسة جوق الإذاعة، الذي بقي على رأسه إلى حين وفاته يوم 25 نونبر 1988م. وجاء في بعض التراجم: أن الحسن بن المهدي الخليفة السلطاني بطنجة كان قد عينه أستاذا بالمعهد الموسيقي بتطوان، وبقي مقيما بعروسة الشمال ويتردد عليها كل أسبوع لإعطاء الدروس في الموسيقى الأندلسية، وكان آنذاك يشرف على قسم الموسيقى العربية الفنان العياشي الواركلي كما ذكرنا من قبل.
ومن الذين تلقوا هذا الفن عن المرحوم العياشي الوراكلي سواء بتطوان أو بشفشاون الفنان عبد القادر علوش، الذي يعد من الأساتذة الأوائل الذين درّسوا بالمعهد الموسيقي لحظة افتتاحه. وقد جاء الفنان عبد القادر إلى طرب الآلة بتأثير وإسهام كبيرين من والده الذي يعد من عشاق الموسيقى الأندلسية، إذ كان عازفا على آلة الإيقاع وحافظا للعديد من القصائد، وكان له الفضل عليه وعلى أخويه: محمد وعبد السلام، حيث كان يصحبهم إلى الزاوية “الشقورية” في منتصف الأربعينيات، التي كانت ملتقى للمادحين والمهتمين بتجليات الموسيقى الأندلسية؛ ومن بينهم المرحوم العياشي الوراكلي العازف على آلة الرباب الذي كان بعض موسيقيي مدينة فاس يستزيدون من معين معارفه الموسيقية، آخذين عنه بعض الصنائع الأندلسية التي كانت تتميز بها شفشاون. هذا فضلا عن المرحوم محمد بن الأمين العلمي، عازف آلة الكمان الذي أخذ عنه هو الآخر الأستاذ الفنان مولاي أحمد الوكيلي ميزان قائم ونصف الاستهلال. وكذا السيد المختار المفرج الذي ازداد بمدينة شفشاون سنة 1932 ونشأ فيها على يد أسرته العاشقة لفن المديح والسماع، ثم ارتحل مع أسرته إلى مدينة تطوان سنة 1937 أيضا، وكان من الأعضاء الأوائل للجوق الوطني (المحلي) إلى جانب عبد الصادق اشقارة ومصطفى الحمراني ومحمد العلوي ومحمد بن علال وغيرهم، كما التحق بالمعهد الموسيقي بتطوان مدرسا لمادة الصولفيج سنة 1956. وقد أذاع المفرج (العازف على العود) حلقات على أثير إذاعة طنجة – مكنني من الاستماع إليها أحد أصدقائي- تحدث فيها عن علاقته بالمعلم العياشي وأواصر الرابطة الفنية التي جمعتهما، ومن ذلك اختياره للذهاب معه في حفل مدينة غرناطة لما حل العاهل الأردني بها كما سنرى لاحقا.
الشخصية البارزة كذلك التي أخذت فن موسيقى الآلة عن مترجمنا العياشي الوراكلي، هو الفنان عبد الصادق اشقارة، والذي كانت بدايته الفنية من داخل بيته على يد والده، ثم بعد ذلك جاء دور الزاوية «الحراقية» التي أثرت بشكل كبير في مسيرته، حيث تلقى فيها تكوينا جيدا في أصول المديح والموسيقى الأندلسية والعزف على الكمان، وكانت شخصية عرفة الحراق- شيخ الزاوية- من أكثر الشخصيات التي اجتذبت فكره واهتمامه لدرجة أنه لما التقاه وتعرف عليه أصبح يعتبره بمثابة الأب الروحي له، وهو الذي أهداه أول عود تمكن اشقارة من العزف عليه دون علم والده- كما اطلعت عليه في سلسلة مقالات نشرت بإحدى الجرائد الالكترونية المحلية- وهكذا نلحظ تشابه طريقة تلقين موسيقى الآلة عند كل من الأستاذ وتلميذه من خلال تدرجهم في فن المديح برحاب الزاوية. ومن أهم المحطات في المسيرة الفنية للفنان عبد الصادق شقارة، التحاقه بالمعهد الموسيقي بتطوان عام 1947، ليتتلمذ على أيدي ثلة من أساتذة الموسيقى المعروفين في ذلك الوقت، وعلى رأسهم العياشي الوراكلي، ومحمد العربي التمسماني، والعربي الغازي، وأحمد الدريدب وأخيه عبد السلام أستاذه في الكمان، ومحمد بيصة، وأحمد بن عبد السلام البردعي، ومحمد بن عياد، وغيرهم. وكان المرحوم العياشي الوراكلي، لما لاحظ نباهة عبد الصادق اشقارة وقوة ذكائه وصفاء موهبته، وتفوقه على أقرانه وزملائه، يسند له قيادة جوق الآلة لطلبة المعهد في الحفلات والأمسيات الموسيقية التي كان ينظمها المعهد ونيابة التربية والثقافة بقاعة الحفلات والمحاضرات بالمعهد الرسمي (أو المعهد المغربي للدراسة الثانوية أو القاضي عياض حاليا). وهكذا وبعد وفاة الأستاذ، خلفه تلميذه وعين أستاذا كذلك، وعضوا أساسيا في جوق المعهد لطرب الآلة، وشارك في عدد كبير من الحفلات الموسيقية في سائر مدن بلده المغرب وحتى في خارجه باسم المغرب.
ومن جهة أخرى، كان المعهد الموسيقي بتطوان بعد اكتسابه الصبغة القانونية قد أحيا عدة أنشطة رسمية سواء داخل المغرب أو خارجه من خلال التظاهرات الثقافية التي كانت تنظم بالمناسبة. فعلى الصعيد الخارجي وبمناسبة الاحتفالات الكبرى التي نظمتها مدينة قرطبة في أكتوبر سنة 1944 إحياء للشعر العربي، شارك جوق المعهد الموسيقي بتطوان برئاسة مدير المعهد السيد عبد السلام بن الامين ورئيس جوق المعهد السيد العياشي الوراكلي في هذه التظاهرة الكبرى. كما أحيا عدة سهرات من بينها سهرة بمدينة قاديس بإسبانيا سنة 1945، وشارك في معرض الفن المغربي الذي أقيم بمدينة قرطبة في يونيو سنة 1946، وفي الاحتفال الرسمي بزيارة الملك عبد الله ملك الأردن إلى إسبانيا بمدينة غرناطة سنة 1949، كما شارك في عدد من الحفلات بداخل المغرب؛ ومنها عزفه في حفل زفاف الخليفة السلطاني مولاي الحسن بن المهدي، وفي حفل التكريم الموسيقي لجوق الوداد الرباطي بمدينة مرتيل.
وقد ذكر عبد السلام الصباح – كما هو مذكور عند الحبيب الخراز في مرجعه عن موسيقى الآلة بتطوان- كلاما عن إحدى هذه الحفلات في المهرجان الدولي للموسيقى والرقص الذي أقامته إسبانيا سنة 1949 وما سرى فيها من حالة الاغتباط التي عاشها أفراد جوق المعهد التطواني لموسيقى الآلة فقال: وكان يرأس الجوق المرحوم الأستاذ السيد العياشي الوراكلي وبإشراف مدير المعهد حينذاك المرحوم السيد عبد السلام بن الأمين العلمي، وكانت مشاركة مشرفة من البداية إلى النهاية مدة المهرجان الذي استغرق أربعة أيام. وكنا نشعر بارتياح بالغ للعناية التي كنا نتلقاها والتقدير الذي مكننا من أن نكون في طليعة الوفود الموسيقية الدولية أثناء الاستعراض الذي مر بأطول شارع بالعاصمة الإسبانية مدريد..
وكان مترجمنا كذلك من بين من استعان بهم المستشرق الإسباني اركاديو دي لاريا في إنجاز المدونة الموسيقية لنوبة الاصبهان، وكذا في توثيق وضبط أشعار موازينها اعتمادا على أوراق خطية كان (المعلم الوراكلي) قد قيدها بخط يده كما سمعها من أفواه أساتذته القدماء العارفين بالفن.
وقد توفي المعلم العياشي الوراكلي بتطوان يوم 16ربيع الثاني 1375/2دجنبر 1955- كما ذكر ذلك محمد داود- عن زوجته السيدة عشوش السلاسي- ابنة المعلم السيد محمد السلاسي- وأولادهما، مخلفا تراثا فنيا عريقا، ولا زالت أسرته الكريمة تحتفظ بذكراه، فمعظم أفرادها لا زالوا على قيد الحياة منهم أبناؤه وبناته وأحفاده، ومنهم حفيده كاتب هذه السطور، فهو جدي لأمي رحمة الله عليهم جميعا.
وختاما لهذه الرحلة في سيرة الرجل، كان ملتقى تطاون للموسيقى الأندلسية المغربية قد اختار في دورته الثامنة أن يسميها: “دورة المرحوم محمد العياشي الوراكلي”، وقد أقام حفلا تأبينيا للفقيد بمسرح إسبانيول خلال تنظيمه لهذه التظاهرة الفنية أيام 7/8/9 ماي 2015، تميز بتقديم ورقات تعريفية بالمحتفى به وبوصلات أندلسية لجوق معهد الموسيقى الأندلسية بتطوان برئاسة الفنان محمد الامين الاكرامي وغيره من الأجواق المحلية والوطنية من طنجة وفاس ومكناس والرباط وغيرها. وقد أكد رئيس الجمعية المنظمة ذ.عبد القادر الزكاري أن المهرجان يتوخى بالأساس خدمة التراث الفني المغربي الأصيل والمحافظة عليه وتعريف الأجيال الصاعدة بهذا الفن الأصيل، وكذا إثراء الحركة الموسيقية محليا ووطنيا، ونشر إشعاع التربية الموسيقية وسط الجمهور الناشئ، وقد حضر هذا التكريم بعض أبناء المرحوم العياشي الوراكلي وأحفاده، والذين أبدوا رغبتهم في الإسهام في الحفاظ على تراث الآباء والأجداد.
منتصر الخطيب / تطوان