السبب الأساسي للنشاط الاقتصادي هو الترضية المباشرة للحاجة في الاقتصادات السابقة للنظام الرأسمالي، بحيث كان ذلك في أوربا قبل نمو هذا النظام، وقبل إقرار الاتصال التجاري مع أوربا في الأقطار الواقعة منها وراء البحار، فلم يكن التبادل يباشر في تلك الأقطار بالنظر إلى النفع والفائدة، بل كان يباشر بقصد الترضية المباشرة للحاجيات. لقد كانت إذن اقتصادات تدعو إليها الحاجة، خلافا للرأسمالية التي هي اقتصاد النفع بالذات.
أما أشكال الوفر في هذه الاقتصادات فهي تختلف في أصلها وجوهرها عن أشكال الوفر الخلاق عند الرأسمالية، إذ ليس فيها ما يجبر المنتجين على تحسين طرائقهم التقنية باستمرار وعلى توسيع حجم إنتاجهم باطراد. إن الاقتصادات السابقة للنظام الرأسمالي هي اقتصادات ( جامدة )، فإنتاج الأدوات على أشكال أكثر تطورا هو في نفس الوقت عمل من أعمال التوفير. ( لأن الزمن المخصص لهذا الصنع قد طال ) وعمل من أعمال الاستثمار أيضا. ولا يوجد عملان مختلفان في الزمن كأجراء التوفير وأجراء الاستثمار، وإنما هو عمل واحد فقط.
ثم إن مجموع المجتمع يوفر خلال السنوات المغلة سواء كان التوفير من المواد أو من النقود حتى يتمكن من البقاء عندما تقل المحاصيل فتحدث المجاعة. إلا أن كل هذا الوفر الاحتياطي ينضب إذا ما وضعناه في النطاق الشامل منجما على عدة سنوات، وذلك لأن وفر البعض يساوي اتفاق الآخرين، بينما وفر بعض السنوات يعادله اتفاق السنوات الأخرى، أما في أعلى الهرم الاجتماعي فتؤدي الحالة إلى اكتناز الذهب والحلي.
وأن البحث عن الترضية العاجلة للحاجيات ضمن الاقتصاد السابق للنظام الرأسمالي هو الذي يملي على المنتجين موقفهم، فدرجات رأس المال والتوفير الخلاق والاستثمار كلها أمور لا وجود لها، بحيث يصبح ظاهر المجتمع ظاهرا يتصف بالجمود الذي يتناقض مع نشاط المجتمعات الرأسمالية وحيويتها.
وليس التوفير هو الخاصية النوعية للرأسمالية، بل إن هذه الخاصية كامنة في إجراء المبادلات بقصد تحقيق منفعة نقدية، فالمقاول الذي يبحث عن الثروة والغنى يستثمر وفره الخالص الذي يستخرجه من الأرباح التي اكتسبها ويوظفه باستمرار. إنه بهذا الاستثمار عامل من عوامل التنمية.
والضرورة القصوى لهؤلاء المقاولين إلى تحسين طرائقهم التقنية من غير انقطاع بسبب المنافسة القائمة بينهم، تظهر أيضا في الضرورة الملحة التي يحسون بها إلى توفير قسط من دخلهم بالنظر إلى استثمار جديد. فالجمع المستمر لرأس المال ضرورة أساسية لسير الأعمال الرأسمالية.
ومن الضروري الواجب أن نميز بين الكيان الرأسمالي، والكيان السابق لهذا النظام، لأن ( الوفر الخلاق ) لا يظهر إلا في الكيان الرأسمالي وحده. لذلك يجب علينا أن ننظر بمنظار نشيط تراعى فيه أساس البنية والتكوين في نفس الوقت حتى ندرك الظروف النوعية لتكوين الوفر في الأقطار المتخلفة.
- الخواص النوعية لتكوين الوفر ضمن إطار تطور التحويل للاقتصادات السابقة للنظام الرأسمالي إلى اقتصادات متخلفة.
- تكوين الوفر في الأقطار المتخلفة
إن سير تكوين الوفر في الأقطار المتخلفة هو سير نوعي يختلف اختلافا عميقا عن ذلك السير الذي شهدته أوربا إبان مرحلتها الأولى من النمو الرأسمالي.
فالاقتصادات العتيقة السابقة للنظام الرأسمالي قد تكبدت أول الأمر تفككا وتفتتا عقب اتصالها التجاري مع الاقتصادات الرأسمالية، ذلك أن الاقتصادات السابقة للنظام الرأسمالي كانت في مرحلة سابقة لظهور التبادل النقدي ( كما هو حال اقتصادات افريقيا الاستوائية )، وسرعان ما كانت أيضا متقدمة جدا في مضمار تداول النقود، وقد كانت في معظم الأحوال ضمن مرحلة انتقالية يتعايش فيها التبادل النقدي بين الصناع والفلاحين على الخصوص، مع اقتصاد القرية المقفول كما هو الشأن في أقطار افريقيا الشمالية.
إن نمو التجارة الخارجية، واستيراد رؤوس الأموال الأجنبية يؤديان داخل تلك الاقتصادات إلى نشوء أو اتساع تلافيف نقدية، كما يؤديان إلى تسويق الفلاحة وظهور تلافيف رأسمالية، إلا أن انتشار هذه التلافيف الرأسمالية ستوقفه المنافسة الأجنبية.
ويؤدي توجيه الاستثمارات الأجنبية في مرحلة لاحقة إلى تعزيز الكيان الثنائي للاقتصادات المتخلفة وتقويته، فلقد غذت هذه الاستثمارات نمو قطاع التصدير، وبعض فروع الصناعة الخفيفة والدائرة غير منتجة من الاقتصاد.
إن إنشاء الكيان الاقتصادي ( الطرق والموانئ وسكك الحديد والسدود وغيرها ) التي تعظم أو تقل أهميتها بحسب الأقطار والتي تنجز في غالب الأحوال بفضل رؤوس أموال الدولة، قد ساعد على هذه الحركة.
ثم إن توجيه الاستثمارات الأجنبية لم يكن له تأثير لفائدة تكوين الوفر المحلي، وإنما كان توجيهها ضارا بهذا الوفر.
أ ) دور التجارة:
كان اشتراء أوربا لأول مرة لمحاصيل الفلاحين بافريقيا السوداء أولى درجات المداخيل النقدية الأولية التي نتجت عن التبادل الخارجي، فالنقود التي اكتسبها الفلاح الإفريقي، يجب أن ينفقها في الضرائب والوفر ومواد الاستيراد، أو في بعض المنتوجات الأهلية، ويؤدي هذا الشكل الأخير من الإنفاق إلى إحداث دخل نقدي ثانوي، ثم إن التبادل النقدي لا يفتأ يوسع دائرته بمجرد ما يبتدئ العمل به.
إلا أن سرعة انتشار تداول النقود ستقل، فقبل اندراج الاقتصادات الإفريقية في السوق الدولية للبضائع ورؤوس الأموال، كان مجموع الدخل تقريبا عند مختلف طبقات السكان دخلا غير نقدي، وإنما كان دخلا من المواد، ولذلك كان الطلب مقصورا بصورة اضطرارية على المنتوجات المحلية. أما بعد الاندراج فإن قسما هاما من المداخيل النقدية الأولية قد أصبح يشمل المستوردات أيضا.
ولم يدخل النقد في طريقة التبادل دخولا عميقا، فقد حدثت في أوربا ظاهرة عكسية حتى قبل نمو الرأسمالية بمدة غير يسيرة، ذلك أن المداخيل النقدية الأولى قد أدخلت في هذه الطريقة مبلغا من العملة لم يكن يخحرج منها أبدا. وقد كان مفعولها الهدام في الاقتصاد السابق للنظام الرأسمالي مفعولا كبيرا نظرا لهذا السبب.
يتبع..
د. إسماعيل شارية