عرضت ” يرما ” Yerma في المسرح الإسباني بمدريد بتاريخ 29 ديسنبر 1934، وعرضت ” دونيا روسيتا لسولتيرا ” ( العز باء ) Doña Rosita la soltera أو ” لغة الزهور ” في ” البرينسيبال بلاثي ” ببرشلونة بتاريخ 13 ديسنبر 1935 ، كما عرضت ” بيت برناردا ألبا ” La Casa de Bernarda Alba في مسرح أبنيدا ببوينوس أيرس Buenos Aires بتاريخ 8 مارس 1945 بعد وفاة صاحبها. وكانت الممثلة التي لعبت دور بطلاتها ممثلة مسرح فيديريكو غارسيا لوركا Federico García Lorca (1898-1936) مرغريت كسيرغو Margarita xirgu) ). ومنذ تلك التواريخ البعيدة ، صارت هذه الأعمال ، وأعمال أخرى غيرها للشاعر المغتال ، هدفاً لكثير من الترجمات والعروض المسرحية والدراسات النقدية في العالم بأسره سيطغى مجرد ذكرها على الحدود التي رسمناها لمقدمتنا التي ينبغي أن تكون قصيرة كما هي العادة في هذه السلسلة ( مقدمة لمسرحيات لوركا الثلاث سلسلة : “Novelas y cuentos , Editorial Magesterio espanol.S.A )
بدأ كالدوس(1843-1920) Galdos مع ” الحقيقة ” Realida ( 1892 ) ، ومع ” الجد ” abuelo EL( 1904 ) في مسارحنا أسلوباً في نقد الأخلاقية الجنسية السائدة في إسبانيا ، وهذا الأسلوب ذو الطابع الاجتماعي ـ السياسي يسهل علينا فهمه اليوم في إطار علمي السوسيولوجيا والسيكولوجيا الحديثين ، وقد بلغ هذا الأسلوب ذروته عند اثنين من كبار رجال المسرح الإسباني المعاصر هما بايي ـ انكلان Inclan ـ Valle (1866-1936) وغارسيا لوركا ، إلا أنه ظهر لدى الأول بشكل أكثر جلاءً في الميلودرامات ، بينما ظهر عند الثاني بنفس الصورة في التراجيديات حسب ما نستطيع أن نستنتج من هذه الأعمال الرائدة” يرما ” ـ ” دونيا روسيتا ” ـ بيت برناردا ألبا ” التي كان من الواجب أن نضيف إليها مسرحية أخرى رئيسية هي ” عرس الدم ” Bodas de sangre ( 1933 ) لنحصل على الصورة الكاملة للموضوع. هذه المسرحيات التراجيدية تتفق في كونها تفضح نظاماً اجتماعياً مستبداً، كما تفضح بالتالي قساوة وتناقض إحدى مؤسسات هذا النظام هي : الأسرة الأبوية التي تكون المرأة دائماً ضحيتها: ” أليس لامرأة مسكينة الحق في أن تتنفس بحرية ؟ ” تقول روسيتا في الفصل الثالث. هذا السؤال يلخص بشكل حاسم كل بطلات لوركا. ففي ” يرما ” ، وفي بيت برناردا ألبا ” ، يبين بكامل التفصيل الدور الذي يحدده المجتمع للمرأة : الزواج والأطفال. إن الزواج في كل من المسرحيتين يشكل منعطفاً في حياة الشخصيات ، كما أن العلاقات بين الرجل والمرأة تكون ذات طبيعة اجتماعية وليست شخصية. تقول يرما وهي تعني زوجها: ” لقد أتى به أبي. وأنا قبلته مسرورة. هذه هي الحقيقة الساطعة. إنني منذ أول يوم أصبحت فيه خطيبته وأنا منشغلة الفكر بالأطفال “. ثم تضيف بعد قليل بأنها لم تزف إليه إلا من أجل ذلك السبب لا ” من أجل التسلية مطلقاً ” ( الفصل الأول من المسرحية )
أما برناردا ألبا ، فإنها تنصح ابنتها “أنجوسطياس” هكذا، إذ تبين لها كيف يجب أن تعامل” بابي” ( زوجها ) : ” لا يحسن بك أن تسأليه. ولا سيما عندما تتزوجينه. تكلمي إذا تكلم ، وانظري إليه عندما ينظر إليك. وهكذا لا يكون في حياتك منغصات ” ( الفصل الثالث ). على أي حال ، إن الحياة العائلية ليست معاشرة بين زوج وزوجة ، بل هي وظيفة اجتماعية تختلف بل وتتناقض لدى كل منهما. تقول يرما : ” إن للرجال حياة أخرى : الماشية ، الأشجار، المحادثات. أما النساء ، فلا وظيفة لنا سوى تربية ورعاية الأطفال ” . فتطور تلك الوظيفة الاجتماعية لا يتم إلا عبر مجال واحد. يقول خوان : ” النعاج في الحظيرة والنساء في البيوت ” ( الفصل الثاني ) . وتزودنا مسرحية ” بيت برناردا ألبا ” في نهاية الأمر بخصوص العلاقات بين الآباء والأبناء بمثال نهائي عن نوع استبداد هذه العلاقات ، فعندما يموت الزوج ، تتولى برناردا مسؤولية الرجل. وفي إطار قناعات أخرى ترى برناردا ” أن البنت العاقة تتحول من ابنة إلى عدو ” ( الفصل الثلث ) ، لكن ماذا يحدث لو أن امرأة مثل يرما تكون عاقراً؟ ماذا يحدث لو أن امرأة تتمرد مؤكدة حريتها وجنسها كما في حالة ( عادلة ) Adela في ” بيت برناردا ألبا ” ؟
إن جواب النظام الاجتماعي سيكون بشكل أو بآخر زاجراً قاسياً : هناك الآخرون. هناك ما يقول ويتهامس به الآخرون. هناك الموقف المعارض الصادر عن الآخرين من الناس. فحضور الآخر الصارم الذي يسيء إلى جو الألفة ، كما يسيء بالتالي إلى حرية الإنسان، هو من الأهمية بمكان في هذه الأعمال ، بل في سائر مسرح لوركا بصفة عامة. لقد جاء هذا الحضور في ” يرما ” عبر مستويين متقابلين :
ـ مستوى ” جوقة الغسالات “، حيث نرى كيف يمارس الآخر عمليته القاسية.
ـ المستوى العائلي ، حيث نرى خوان مشغول الفكر بما يمكن أن يتهامس به الآخرون في عرضه وعرض يرما :
خوان : لا يروقني أن يشير الناس إلي بالبنان ، لذلك أحب أن أرى ذلك الباب مغلقاً ، وكل داخل داره.
يرما : ليس الحديث مع الناس خطيئة.
خوان : لكن يمكن أن يشبهها. عندما يأخذون في مجاذبتك الحديث ، كممي فاك ، وفكري أنك امرأة متزوجة.
يرما : متزوجة ! ( باستغراب )
خوان : وأن للعائلات شرفها ، وأن الشرف عبء على كاهل الجميع.
إن حال خوان هاته المتمثلة في اهتمامه بالناس أكثر من اهتمامه بزوجته ، دفعته إلى إحضار أختيه الاثنتين اللتين لا تتكلمان أبداً، ولكنهما تراقبان وترصدان يرما بأمانة كلاب الحراسة المدربة. هاتان الأختان ذاتهما تمثلان الآخرين ، ذلك لأنهما ما وجدا هنالك إلا لأداء وظيفتهم. إن عمل خوان هذا ، سيساهم من جهة أخرى في تقوية اللاتواصل بينه وبين زوجته التي سيتحول بيتها في نهاية الأمر إلى مقبرة.هذا نفسه نجده في ” دونيا روسيتا العزباء “. كان في إمكان روسيتا أن تحيا في عالم من الخيال ، خالقة واقعاً مثالياً ، لو أن الآخرين لم يكونوا أكثر قدرة منها ، بحيث نسفوا هذه الإمكانية الذاتية والأخيرة.ولنسمع اعترافها هذا : ” تعودت أن أحيا منذ سنوات خارج ذاتي ، مفكرة في أشياء بعيدة جداً ، والآن ، وهاهي ذي هذه الأشياء لا وجود لها ، أستمر أدور وأدور حول مكان بارد ، باحثة عن مخرج لن أجده أبداً. لقد علمت ذلك كله ، علمت أنه تزوج . لقد استعان برقة متناهية عندما أفضى إلي بالخبر. كنت أتوصل برسائله بأمل مغمور بالغصص التي مازلت أنا نفسي أستغربها. ” ( الفصل الثالث ). نفس الشيء نجده في نهاية الأمر في “بيت برناردا ألبا ” . تقول برناردا : ” أنا لا أتدخل في أمر القلوب ، لكن أحب مظهراً مرموقاً وتوافقاً عائلياً.” ( الفصل الثالث ) . عندما تقول وتفعل برناردا ألبا ، فإن استبدادها الصارم الذي تسلطه على بناتها لا يؤدي إلا إلى هذه النتيجة ، وهي الحصول على ( المظهر المرموق ) أمام الآخرين، وإن كان ذلك عن طريق الكذب والنفاق. ومن جهة أخرى ، نجد هذا المعنى في كلماتها المرتعشة الختامية والعديمة الجدوى بعد انتحار( عادلة ) : ” هي ابنة برناردا ألبا الصغرى .ماتت عذراء. هل تسمعونني ؟ الصمت. قلت الصمت ! ليس موت الابنة ما يقلقها، وإنما ما يبدو أنه يثير قلقها هو ما تشير به أصابع الآخرين إلى العائلة.
إن حضور الآخر الدائم يتضمن على الأقل دلالتين رئيسيتين : الأولى ذات طبيعة وجودية متطورة عن فكر ذي أصل ينتمي إلى أونمونو Unamuno (1864-1936) سبق إنتاج سارتر الذائع الصيت ( الجحيم هو الآخرون ) ـ الثانية ، ولها علاقة شديدة بالسابقة ذات طبيعة اجتماعية : رأي الآخر هو المظهر الخارجي لنوايا النظام الاجتماعي الظالم ، وموقفه العدائي الدائم الحراسة يشير إلى المجاري التي يجب أن يتلاءم معها كل وعي ، وكل حياة شخصية ليكرس في النهاية هذا النظام الاجتماعي القائم.
انطلاقاً من المنظور الذي أفهم من خلاله اليوم تراجيديات لوركا ، فإن المفهوم التراجيدي للقدر لا ينشأ عن الطبيعة العمياء ، وإنما عن عمى المجتمع. وإن كل دوافع الثورة ، انطلاقاً من أكثر النفوس رقة وإحساساً ( يرما ـ روسيتا ) إلى الأنوثة الأكثر صلابة ( عادلة Adela ) ، منبثقة من الطبيعة التي يدعو الإنسانَ نداؤها السحري العجيب إلى أن يحيا حياة حقيقية كاملة، رغم الأنظمة والمواضعات ، ورغم كل مقياس.
للتعبير عن كل هذا ، من بين الأمور الكثيرة الأخرى التي يعبر عنها مسرح غارسيا لوركا ، والتي لا مجال لدي هنا لتحليلها، فإن المسرحي يختار أوضاعاً محددة ، فيبدع في ” عرس الدم ” ، في ” يرما ” ، في ” بيت برناردا ألبا ” وطناً قروياً أسطورياً غير واضح المعالم ، لن نفهم أبداً دلالته الصحيحة إذا نحن عمدنا إلى قراءة طولية للنصوص ، قراءة سطحية، لأن لغة تلك النصوص ليست طبيعية ولا واقعية وإنما هي شعرية رمزية ، إذ يلجأ الكاتب فيها إلى تجميع عناصر معروفة بجلاء في الواقع . مثلا : الفلكلور الشعبي والاحتفال الديني في ” يرما ” ؛ حفلة الزفاف في ” عرس الدم ” ؛ مراسيم المأتم في ” برناردا ألبا” ، ويستغل هذه المعطيات عبر شعرية متناهية الرهافة ، باحثاً لا عن مظاهرها التقليدية ، بل عن أبعادها السرية والسحرية. ولهذا من غير المجدي أن يرغب المرءفي أن يرى في مسرح لوركا الواقع الإسباني كما لو أنه ينعكس في في مرآة مصقولة ( لاسيما إذا كانت هذه المرآة تنتمي إلى القرن 19 ) : إن الفلاحين لا ينطقون كما ينطق خوان ويرما..لا يوجد أحد في مثل قسوة برناردا .الخ ..مع ذلك فكيف يشك في واقعية وصدق هذه الأعمال ؟ منذ أعوام مرت ، وعلى وجه التحديد في فترة كانت الواقعية قد تحددت فكرتها في أدبنا ، رأى Lazaro Carreter هذه المشكلة بجلاء عندما كتب : ” هناك واقعية فوتوغرافية معروفة هي التي تتخذ استعمال الاسم دلالة على المذهب، هناك من جهة أخرى ، تلك الواقعية الإسبانية المليئة باللاواقعية. هذه اللاواقعية وتجاوز الحدود غير المعقولة التي أخذ النقد يكشفها عند واقعيين نابهين أمثال : Mateo Aleman (1547-env. 1615) وFrancisco de Quevedo
( 1580ـ 1645) وآخرين كثيرين ” ( “Apuntes sobre el teatro de Garcia Lorca “, Papeles de son Armadans , num. L2, julio 1960 pp.25 y 26. ) ، وعندما أوضح كذلك أن هناك بإزاء الواقعية الحرفية ” واقعية أخرى ما يكون فيها واقعياً هو العلاقات والبنيات. وهذه الواقعية تستمر وتؤثر عبر صدقها رغم أن عناصرها مشوهة : مزيفة مموهة “. إننا نقترب حقيقة إلى هذه العلاقات . إلى هذه البنيات المنعكسة في مسرح غارسيا لوركا ، عندما نفهم هذا المسرح : إحساسه الدرامي للحياة الإسبانية ، وعيه الواضح بالعديد من المشاكل التي عكرت صفو حياة الإسبان في هذه الفترة . هذا الوعي يستطيع أن ينير وعينا ، ويوجه جهودنا في سبيل المهمة الضرورية التي هي تغيير الجحيم الإسباني إلى حيز أكثر إنسانية وقابلية للحياة.
ريكاردو دومينيك
ترجمة : د. عبد الجبار العلمي