ناقش الطالب الباحث بلال الحساني اطروحته «ثنائية الأدب والسياسة في القرنين الحادي عشر والثاني الهجريين» يوم 3مارس 2022 بآداب تطوان . وكانت لجنة المناقشة مكونة من الأساتذة الدكاترة احمد هاشم الريسوني مشرفا، سعاد الناصر رئيسة، أسماء الريسوني ومحمد الفهري عضوين. وبعد المناقشة والمداولة منحت للطالب الباحث بلال الحساني شهادة الدكتوراة بميزة مشرف جدا ، وهذا موجز تقريرها :
بِسْمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ، اَلحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيهِ كما ينبغي لجلالِ وجهِهِ وعظيمِ سلطانِهِ، والصلاةُ والسلامُ على أشرفِ المرسلينَ، سَيّدِ الخلقِ أجمعينْ، وعلى آلهِ وصحبهِ، ومن تَبِعَهُمْ بإحسانٍ إلى يومِ الدِّينْ.
وَبعدْ، فَنُزولاً عندَ قولِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسلمْ: « مَنْ لَمْ يَشْكُرِ النَّاسَ، لَمْ يَشْكُرِ اللَّهَ.»
اسمحوا لي بدايةً أَنْ آخُذَ مِنْ وقتِكُمْ دَقَائِقَ مَعدُوداتٍ قَبلَ تَقديمِ عَرْضٍ مُوجَزٍ عَنْ الدّراسةِ البَحثيّةِ الَّتِي عَكِفْتُ على إنجازها خلالَ الأعوامِ الأخيرةِ، بَيْنَ سَنَتَيْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ وأَلْفَيْن ووثَمَانِيَةَ عَشَرَ وألفَيْن، أَنْ أَتقدّمَ بِأَسْمى عِباراتِ الشُّكرِ والامْتِنانِ لأُستاذي المُشرف فضيلة الدكتور الطيب الوزاني الشاهدي، الذي أكيلُ لهُ الثّناءَ العظيمَ، والعِرفانَ الجزيلَ، لحُسنِ إشرافِهِ، وسديدِ توجيهاتهِ، وجميلِ عِنايَتِهِ، وَأَولى النّاسِ بالشُّكْرِ ــ بَعدَهُ ــ وأجدَرُهُمْ بالتَّقديرِ، أُستاذي القدير فضيلة الدكتور أحمد هاشم الريسوني، الذي أكملَ معي رِحلةَ الإشرافِ، بعدما تعذّرَ ذَلِكَ على الأستاذ الطيب الوزاني، فَلَهُما مني جزيلَ الشُّكرِ والامتنانِ، وعظيمَ الثناءِ والعرفانِ، راجياً من المولى أن يُديمَ عليهِما لِباسَ العافيةِ ومَوْفورَ الصّحةِ، هَوَ وَلِيُّ ذَلِكَ وَالقَادِرُ عَليهِ.
كما أتقدّمُ بخالصِ شكري وتقديري إلى أصحابِ الفضيلةِ أعضاءِ اللّجنةِ العلميةِ المُوَقَّرَةِ، كُلٌّ باسْمهِ بَدْءاً برئيسةِ لجنةِ المناقشةِ فضيلةُ الأستاذة الدكتورة سعاد النّاصر، ثُمّ مَرّةً أُخرى فضيلةُ الأستاذِ الدكتور أحمد هاشم الريسوني مشرفاً، وفضيلةُ الأستاذةِ الدكتورة أسماء الريسوني عضواً، وفضيلةُ الأستاذِ الدكتور محمـد الفهري عضوا، الَّذينَ عَهِدتُهُمْ أَساتِذَةً متمرسينَ في العلمِ والمعرفةِ، والَّذينَ تفضَّلوا بقبولِ مناقشةِ وقراءةِ وتقويمِ هذهِ الأطروحةِ، وما تَجَشَّمُوهُ في ذلكَ مِنْ مَشَقَّةٍ وَجُهْدْ. كما لا يفوتني في هذهِ المناسبةِ ــ ونحنُ بفَضَاءِ قاعةٍ أُطْلِقَتْ عليها اسمُهُ ــ أَنْ نَتَرَحَّمَ على روحِ أستاذنا وشيخنا قيدومِ الأدبِ المغربي، فضيلةَ الدكتورِ العلامة عبدُ الله المرابط الترغي، الذي آنسَ معي تَيْهَ بِدايَةِ البحثِ بالتوجيهاتِ والنصائحِ، فعلى روحهِ الطاهرةِ المغفرةَ والرحمة. كما أَخُصُّ بالشُّكرِ والتقديرِ، الأستاذَ الفاضلَ، والشيخَ المربي، فضيلةَ الدكتورِ عبدُ اللَّطيفِ شهبون، الذي شَمِلَ عَطْفُهُ جَميعَ طَلَبَتِهِ دونِ استثناء، عَبرَ النُّصْحِ والتَّوجِيهِ، اللَّذَيْنِ كَانَا منْ نصيبِ هذا البحثِ، حيثُ شَكَّلَتْ تَوجيهاتُهُ في بِداياتِ البحثِ، شِراعاً متيناً جعلَ سفينةَ البحثِ تأخذُ مساراً، كانَ الأفضلَ والأيسرَ، جَعَلَ اللهُ عملهُ هذا في ميزانِ حسناتِهِ، سائلاً المولى لَهُ عمراً مديداً وعطاءً مِنْهُ غَيْرَ مَجْذوذٍ، وأن يُمَتِّعَهُ دائماً وأبداً بالصّحةِ والعافيةِ. كما أتوجهُ بأجلِّ آيَاتِ الشُّكْرِ والتَّقديرِ إلى جَميعِ الأساتذةِ الَّذينَ أَسْهَموا في تكويني منذُ لَحاقي بِكليةِ الآدابِ بتطوان سنة تسعَ وأَلْفَيْن، والَّذِينَ لَهُمْ في هذا البحثِ أثراً كبيراً لمْ ولنْ يُمحى أبداً. وختاما أشكرُ كُلَّ منْ ساهمَ من قريبٍ أو من بعيدٍ في إنجازِ هذهِ الرسالةِ، من أهلي وأساتذتي وزملائي وأصدقائي ومعارفي، فلكُمْ جَمِيعاً مِنّي كلَّ الشُّكرِ والتقديرِ والاحترامِ والعِرفان.
وَإليكمْ أيُّها السَّادَةُ الكِرام، مُوجزاً عن الأطروحةِ، فأقولُ وباللَّهِ التوفيق:
وبعدْ، فإنَّ الأطروحة الموسومة بـ : بِثنائيةِ الأدبِ والسياسةِ خلالَ القرنينِ الحادي عشرَ والثاني عشرَ الهجريين»، ينطلقُ من فرضيةٍ تقضي بوجودِ علاقةٍ جدليةٍ بينَ الأدبِ والسياسةِ، عبرَ احتكاكِ هذينِ المُكَوّنَيْنِ تأثيراً وتأثراً، عبرَ مناحي كثيرَةٍ وبصورٍ مختلفَةٍ. ويَقُودُنا استقراءُ فَتَرَاتِ التَّاريخِ المغربي، إلى مآلٍ يجعلنا نقفُ عندَ بَعضِهَا، لِمَا تَمَيّزَتْ بهِ مِنْ مظاهِرَ تَجْمَعُ بَينَ قًوَّةِ المجدِ والازدهارِ، وَفرادةِ الضّعفِ والاضطرابِ، ولعلَّ فترةَ القرنينِ الحادي عشرَ والثاني عشرَ الهِجْرِيَيْن، مِنْ أَبْرَزِهَا وَأَقْرَبِهَا تَمثيلاً لهذهِ الازدِوَاجِيَةِ، ذلكَ أَنَّ كُلَّ مَرحَلَةٍ مِنَ المَراحلِ التاريخيةِ التي عرفتها الفترَة، قد تميزتْ بخصوصيةٍ استِثْنائِيَةٍ كَانَتْ لها أَهميةً كبيرةً، في تَشَكُّلِ مَعَالِمَ هذهِ الفترةِ وملامِحِهَا التاريخيةِ. ويَبْرُزُ تَمَيُّزُ هذهِ الفترَةِ، في كَوْنِها قَدْ ضَمَّتْ تَاريخاً سياسياً وأدبياً، تَرَكَا بَصمَةً في عمومِ التاريخِ المغربي، فعلى مستوى التاريخِ السياسيِّ، نَجدُ أنَّ هذهِ الفترةَ قدْ عرفتْ تحوُّلاتٍ وتطوراتٍ، أَفْضَتْ إلى بُرُوزِ أَكثرِ العُصورِ التاريخيةِ قوةً وازدهاراً، كما أفرزتْ أكثرَ المراحلِ التاريخيةِ عُنفاً واضطراباً، أمّا على المستوى التاريخِ الأدبي، فنجدُ أَنَّ نِتاجَهُ خِلال هَذِه الفترَة قَد عرفَ طفرةً استثنائيةً في العددِ والنوعِ معاً، كما عرفتْ حركتُهُ نشاطاً لمْ يشهدْ التَّاريخُ المغربيُّ مثيلهُ. كما تنفردُ هذه الفترَةُ بميزةٍ أخرى، تتمثَّلُ فيما ضمّتْهُ منْ تَجْرِبَتَيْنِ سِيَاسِيَتَيْنِ، حَيْثُ عرفتْ في النصفِ الأولِ من القرنِ الحادي عشرَ حُكمَ السَّعْدِيِينَ، وما تبقى من نفوذِهِمْ على يَدِ أبناءِ المنصورِ وأحفادِهِ بعدَ وفاتهِ سنةَ اثْنَتَيْ عشرةَ وألفْ، كما عرفتْ فيما تبقى من تاريخِها، حُكمَ العَلَوّيِينَ على يدِ المولى إسماعيلَ والمولى مُـحمد بنُ عبدِ اللهِ، وَقَبْلِهِمَا المولى مُـحمد ثُمَّ المولى الرَّشيد، اللَّذانِ كَانَا أَوَّلَ مَنْ سَعَى لجمعِ شتاتِ البلادِ وتوحيدِها تحتِ رايتهِما، وتجدُرُ الإشارةُ هنا إلى أنَّ هذهِ الفترَة قَد تَخَلَّلَتْهَا مَرحَلَتَيْنِ تَاريخِيَتَيْنِ، عرفتَا ضعفاً وتراجعاً في استقرارِ البلادِ وأمْنِها، والتي نَجِدُهَا قدْ تَشَابَهَتْ في الأسبابِ واختلفتْ في النتائجِ، كَوْنَ أَنَّ أسبابَ كِلَيهِمَا كانتْ مُتمثلةً في وفاةِ السلطانِ، ثُمَّ صِرَاعِ أبنائِهِ عَلَى العَرْشِ، فَكَانَتْ بِدَايَةُ المَرْحَلَةِ الأُولَى عَقِبَ وَفَاةِ المولى أَحمد المنصور السعدي، أمَّا المرحلةُ الثانيَة فقدْ كانتْ بدايَتُهَا إِثرَ وفاةِ المولَى إسماعيلَ، ليتشابهَ الأمرُ بينهُمَا، حَيْثُ كَانَتْ الوَفَاةُ سَبَبَ صِراعِ الأُمَراءِ عَلَى الحُكمِ، بَيْنَمَا اخْتَلَفَتْ النَتَائِجُ، ذَلِكَ أَنَّ صِرَاعَ أَبْنَاءِ المَوْلى أحمد المنصور، أَدَّى إِلى تَفَكُّكِ الدولةِ السعديةِ وانحلالِهَا، في المقابلِ أَدَّى صِراعُ أبناءِ المولى إسماعيلَ، إلى انعدامِ استقرارِ الدولةِ وأَمْنِهَا دُونَ سُقوطِهَا. كما تَجدُرُ الإشارَةُ أَيْضاً، إلى أَنَّ هذهِ الفترَةَ قَدْ ضمَّتْ مرحلةَ العصرِ العلوي الأولِّ الَّذي ينتهي بوفاةِ المولى مُـحمد بنُ عبدِ اللهِ عندَ مَتمِّ القرنِ الثاني عشرَ، خلالَ سنةِ (ألفٍ ومِئَتَيْنِ وأَرْبَعَ) 1204 هـ بالتحديد، وقد اعتُبِرَ هذا العصرُ مِنْ بينِ أقوى عصورِ التاريخِ المغرِبِيّ، كَوْنُهُ عَرَفَ حُكمَ المولى إسماعيلَ الذي حَقَّقَتْ دَوْلَتُهُ مَرَاتِبَ عَاليةً مِنْ المجدِ والعظمةِ، كما عرفَ أيضا حكمَ المولى مُـحمد بنُ عبدِ اللهِ، الذي نَجِدُهُ بِدَورِهِ قَدْ أَحْيَا أمجادَ جدِّهِ المولى إسماعيلَ، ليُخلِّفَا من ورائِهِمَا تاريخاً سياسياً استثنائياً، وتراثاً أدبياً كانً بمثابةِ علامةٍ فارقةٍ في تاريخِ الأدبِ المغربي، لاعتبارِ أنَّ الأدبَ خِلالَ هذا العصرِ، قَدْ تَفَرَّدَ بخصوصيةٍ تمثلتْ أساساً، في كَونِهِ أَصْبَحَ يَمْتَاحُ ـــ إلى حدٍّ كبيرٍ ـــ مِنْ بيئةِ المجتمعِ وطبيعةِ العصرِ، بواعثِ الإبداعِ ومُنْطَلَقَاتِ الكِتَابَةَ، مُبتَعِداً عنْ أنماطِ التقليدِ والمُحاكاةِ التي كانتْ سائِدَةً بِقُوَّة في العُصورِ السابقةِ، والتي كانَ الأدبُ العَربيُّ ـــ عَبرَ تاريخِهِ ـــ أَهَمَّ رَوَافِدِهَا. وتكمنُ فرادةُ هذهِ الفترةِ وتَمَيُّزِهَا أيضا، أَنَّهَا إِضَافَةً لِكَوْنِهَا قَدْ عَرَفَتْ عدداً كبيراً من الزوايا «حتى كاد عدَدُها يفوقُ عددَ المساجدِ»، فقدْ عرفتْ أيضاً مُيولَ بعضِ زوايَا هذهِ الفترةِ إلى المشاركةِ في الحياةِ السياسيةِ عبرَ أشكالٍ مختلفةٍ، وهذا ما لمْ نَعْهَدْهُ فِي زوايا العصورِ الماضيةِ، غيرَ أنَّ الزاويةَ الدّلائيةَ كانتْ استثناءً، حيثُ نجِدُهَا قَدْ استَغَلَّتْ الفَرَاغَ السّياسيَّ الذي عرفتهُ البلادُ خلالَ النصفِ الأوّلِ مِنَ القرنِ الحادي عشرَ، لِتَتَخِذَ مِنْ منطقةِ الدّلاءِ ونواحيها مجالاً للحكمِ، باستخدامِ السلطةِ وتجنيدِ العبادِ وضمِّ مناطقَ كثيرةٍ إليها بالقُوَّةِ، حَتّى قَوِيَتْ شَوْكَتُهَا وَعَظُمَ مَجْدُهَا، لِيَنْطَفِئَ بَعْدَ ذلكَ على يدِ المولى رشيد، الذي وضعَ حدّاً لامتدادِ نُفوذِها، حينَ هزمَ جيشَهَا وأضعَفَ قُوَّتَهَا وَطَمَسَ معالِمَهَا، حَتَّى أصبَحَتْ ذِكرى فِي ظِلِّ حُكمِ العلويين. وإنّ الْازدهارَ والْاستقرارَ الذي عرفَتْهُ الفترَةُ، سواءٌ خلال أيامِ المولى أحمد المنصور في بداياتِ القرنِ الحادي عشرَ، أو خلال عصرِ العلويينَ، يجرّنَا إلى الحديثِ كذلك عن الازدهارِ والتميزِ اللَّذَيْنِ عرفَهُمَا الأدبُ في هذهِ المراحلِ مِنْ تاريخِ الفَتْرَةِ، حَيْثُ نَجِدُهُ قَدْ حقّقَ تفوقاً ونشاطاً، برزَا بِقُوَّةٍ فيما طرحَهُ مِنْ نِتاجٍ ضَخْمٍ وفريدٍ، حَيْثُ أصبحَ لِلشّعرِ حضورٌ أكبرُ، وبناءٌ أقوى، وتنويعٌ أكثرُ في الأغراضِ وموضوعاتِها. كما نجدُ النَّثْرَ قَدْ تَفَرَّدَ بِأُسْلُوبٍ مُغَايِرٍ، وشكلٍ مُنفردٍ، ومضمونٍ يختلفُ عمَّا كانَ عليهِ في العصورِ الماضيةِ، بلْ إنَّ النَّقدَ بِدَوْرِهِ أَصْبَحَ يَرْقَى إِلى مَصَافِ النَّقدِ العربيِّ القديمِ، على يدِ مُـحمد ابنُ الطَّيب العلمي ومُـحمد ابنُ زاكور وغيرهما من نُقَادِ وأُدَباءِ العصرِ. وإيماناً منَّا بأهميةِ كُلِّ مرحلةٍ مِنْ مراحلِ تاريخِ فترةِ القرنينِ الحادي عشرَ والثاني عشرَ، اختَرْنَا إيلاءَ أهميةٍ كبيرةٍ لفترةِ حكمِ المولى أحمد المنصور، سواءٌ في تحديدِ معالمِ التاريخِ السياسيّ، أو التاريخ الأدبي على حدٍّ سواءْ، ورغمَ كونِهَا تَشْمَلُ فقط اثْنَتَيْ عَشَرَ سنةً، إلّا أننَا اعتبرناهَا مكوناً أساسياً في تَشكُّل تاريخ الفترة كَكُلْ، الأَمْر الذِي دفعنَا لِتناوُلِهَا بنفسِ القدرِ الذي تناولنا بهِ المراحلَ الأُخرى، مِمَّا يَجْعَلُ إحاطتنا بتاريخِ الفترةِ، تكادُ تكونُ مُطلقةً.
أهمية الموضوع وأهدافه
ويُمثلُ موضوعُ بحثنا، دراسةً تُؤسّسُ لعلاقةٍ متينةٍ تربطُ العنوانَ وما يطرحُهُ مِنْ دلالاتٍ، بالمضمونِ وما يُحَقّقُهُ من عمقٍ وتصورٍ، وذلكَ عبرَ ما يُحققانِهِ مِنْ تَلاؤُمٍ وتكاملٍ، يضعهما في خطٍّ واحدٍ، تتحدَّدُ منْ خلالِهِ معالِمُ مُعالَجَةِ الموضوعِ بشكلٍ عامٍّ، وَمِنْ هُنَا تَكْمُنُ الأهميةُ الَّتي يُحَقِّقُهَا موضوعُ البحثِ. كما تَبرُزُ أَهَمِّيَتُهُ أَيضاً، فيما تُحَدِّدُهُ هَذِهِ العلاقةُ، مِنْ خُطُوَاتٍ شَكَّلَتْ أَسَاسَ المَضْمُونِ، الذي اجتَهَدْنَا فِي صِيَاغَتِهِ، بِشَكْلٍ يَجْعَلُ عُنْوانَ البحثِ حاضراً في مُختلِفِ مَرَاحِلِهِ، وَمِنْ جُملةِ هذهِ الخُطواتِ، التي تَكْشِفُ سَعْيَ البَحثِ لاكْتِسَابِ فرادتِهِ وأهمّيَتِهِ: أولا: نَهجُ مقارنةٍ بينَ التاريخِ السّياسي والتاريخِ الأدبي في مراحلِ الازدهارِ أوِ الانحدارِ، بِشَكلٍ غيرِ مباشرٍ، عبرَ تناوُلِ كُلٍّ مِنهُمَا، فِي قِسمَينِ رَئيسِيَيْنِ مِنْ مَوضوعِ البحثِ، حيثُ سَيَكونانِ مُنفصلانِ شكلاً، ومُرتبطانِ ومُتكاملانِ مضموناً.
ثانيا: تَقَفِّي أَثَر الأدبِ في مرحلةٍ، سُمَيَّتْ عِنْدَ المُؤرخينَ والباحِثينَ بِمرحلةِ الفراغِ السياسي، والتي كانَ يصعبُ على مُعظمِهِمْ تَتَبُّعُ أَخبارِ الأَدَبِ فيها، لِقِلَّةِ المصادرِ أولاً، ولِصعوبَةِ البحثِ في تاريخِهَا ثانياً، وَقَدْ اعْتُبِرَتْ الفترةُ التي أعقبتْ وفاةَ المولى أحمد المنصور، اَلمَرحلةَ التاريخيَّةَ التي عَرفَتْ سُقُوطَ دَولةٍ وتأسيسَ أُخرى، والتي أَوْلَيْنَا لَهَا أَهَمّيةً في رصدِ الحركةِ الأدبيةِ التي شَهِدَتْهَا، بِشَكلٍ لا يَقِلُّ عَنْ الأَهَمِّيَةِ التي أَفْرَدناها للمراحلِ التاريخيةِ الأُخْرَى. ثالثا: إِبرازُ خُصوصيةِ الأدبِ والسياسةِ في كلِّ مرحلةٍ منْ مراحلِ الفَتْرةِ، سواءٌ التي عَرَفَتْ مظاهرَ القُوَّةِ والازدهارِ، أَوْ أَشكالِ الضُّعفِ والاضطرابِ، الأمرُ الذي قادنا إلى الإِشارةِ، لمراحلَ تُعدُّ مِنْ أَقْوَى فَتَرَاتِ التَّاريخِ المغربي، والَّتي مَثَّلَهَا المولى أحمد المنصور، والمولى إسماعيلَ بن الشريف، ومَعَهُمَا فترةُ حُكمِ المولى مُـحمد بنُ عبدِ اللهِ، التي لا تَقِلُّ عَنْهُمَا فِي القُوَّةِ والازدهارِ، وفي المقابلِ أشرْنَا إلى أشدِّ الفتراتِ اضطراباً وفتنةً في تاريخِ البلادِ، حيثُ كانتْ الأُولَى بعدَ وفاةِ المنصور، والثانيةُ هِيَ المرحلةُ التي أَعْقَبَتْ وَفَاةَ المولى إسماعيلَ.
أمّا على مستوى الأَهدافِ، فَقَدْ حَدَّدْنَاهَا على أساسٍ، يجعلُ موضوعَ البحثِ مُتميزاً وَذَا أهميةٍ بَيْنَ الدِّراساتِ الأُخرى، لذلكَ سنجِدُهَا ـــ إلى حدٍّ كبيرٍ ـــ تتشابهُ معَ المُحدِّداتِ السالفةِ الذِّكرِ، وَمِنْ جُملتِها:
الإحاطةُ بالتاريخِ السياسي والأدبي لفترةِ القرنينِ الحادي عشرَ والثاني عشرَ. والإحاطةُ بتجلياتِ الأدبِ والسياسةِ في تاريخِ الفترةِ.
إبرازُ مكامنِ التأثيرِ والتأثرِ، في الثُّنَائِيَةِ الَّتِي يُشَكِّلُهَا الأَدَبُ والسّياسةُ عبرَ امتدادِ فترةِ القرنينْ.
المنهج والإشكال:
وقدْ تَمَخَضَ عَنْ موضوعِ بَحْثِنَا، مجموعةٌ مِنَ الإشكالاتِ التي ساعَدَتْنَا بشكلٍ كبيرٍ، فِي تأطيرِ خُطُوَاتِ الاشتغالِ، وتحديدِ طبيعةِ الأبوابِ والفصولِ، ولمقاربةِ هذهِ الإشكالاتِ تَطَلَبَ مِنَّا أَنْ نَتَسَلَّحَ ــ قَدْرَ الإمكانِ ــ بآلِياتٍ نقديةٍ واضحةٍ، للتَّحليلِ والقراءةِ والاستنتاجِ. والأَكيدْ أَنَّ المَادَّةَ التاريخيةَ، لا يَجِدُ الباحثُ لها مَنْهَجاً مناسباً غيرَ المنهجِ التاريخي، بحُكْمِ ما يُوفرهُ من معلوماتٍ وأخبارٍ تاريخيةٍ في فهمِ الظَّاهِرَةِ الأدبيةِ وحركَتِهَا مِنْ جِهَةٍ، وَتَحْدِيدِ القضايا المجتمعيةِ الَّتِي تُعَبِّرُ عَنْ الحَيَاةِ السياسيةِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، لِهَذَا وَجَدْنَا هذا المنهجَ بالنسبةِ لنا، الأنسبَ للولوجِ إلى تاريخِ هذهِ الفترةِ أولاً، ثُمَّ تعقُّبِ تَجَلياتِ عُنصُرَيْ الأدبِ والسياسةِ على امتدادِهَا ثانياً.
أبواب وفصول الأطروحة:
وقَدْ تَنَاوَلْنَا مَوضوعَ البحثِ، وَفْقَ خُطواتٍ وَصفيةٍ واستقرائيةٍ، تَنْقَسِمُ لَدَيْنَا لِبَابَيْنِ اثْنَيْنِ، يَضُمُّ كُلٌّ مِنْهَا ثلاثةَ فصولٍ، تتفرَّعُ عنها مباحث، أمّا المقدمةُ فقدْ تطرقتُ فيها إلى السياقِ العامِّ للأطروحةِ وإشكالِيَاتِهَا الكُبرى، فضلاً عنْ توضيحِ دواعي اختيارِ الموضوعِ، كما أَشَرْتُ إلى أهميَّتِهِ وأهدافهِ ثمَّ المنهجِ المُعْتَمَدِ. وقدْ حاولْتُ في البابِ الأولِ الإحاطةَ بمُكوِّنِ السياسةِ وأبعادِها في فترةِ القرنينِ الحادي عشرَ والثاني عشرَ، فيما خَصَّصَتُ البابَ الثاني للأدبِ وتَجَلِيَاتِهِ خِلالَ فترةِ القرنينِ. وقدْ ذَيَّلْتُ الأطروحة بخاتمةٍ نظريةٍ تدورُ حولَ أبرزِ النتائجِ والاستنتاجاتِ التي قَدَّمَتْهَا الأطروحةُ وَأَرْفَقْتُهَا بما تَيَسَّرَ الوصولَ إليهِ مِنْ مصادرَ ومراجعَ.
وبَعدَ هذا التطوافِ حولَ التاريخِ الأدبي والسياسي خلالَ القرنينِ الحادي عشرَ والثاني عشرَ الهِجريينِ، يُمْكِنُ تَلْخِيصُ نَتَائِجَ البَحْثِ فِي مَجْمُوعَةٍ منَ الاستنتاجاتِ، أَدرَجْنَاهَا بالتَّفصِيلِ فِي خاتمةِ البحثِ، سَنَذْكُرُ أبرزَها وأهمَّها في النِقَطِ التاليةِ:
أولاً: ضَمَّتْ فترةُ القرنينِ الحادي عشرَ والثاني عشرَ، خمسَ حِقبٍ سياسيةٍ، أَفرزتْ حِقبةً أدبيةً تَجْمَعُ بينَ مظاهرَ الازدهارِ والتَّمَيُّزِ أحياناً، ومظاهرَ التَّراجُعِ والتَّأَثُّرِ أحياناً أُخْرَى، غَيْرَ أنَّ الأَدَبَ على امتدادِهَا، لَمْ يَعْرِفْ ذَلِكَ الانْحِطَاطَ والانقطاعَ الذي عرفَهُ الاستقرارُ السياسي، حينَ انعدمَ الأمنُ وكَثُرَتْ الفِتَنُ فِي الفَترَتَيْنِ اللَّتَينِ أَعْقَبَتَا وَفَاةَ كُلٍّ مِنَ السُّلْطَانَيْنِ أحمد المنصور، والمولى إسماعيل.
ثانيا: عرفتْ عصورُ الاستقرارِ والازدهارِ خلالَ تاريخِ الفترةِ، تشابهاً كبيراً على المستوى السياسي، حيثُ توفَّرَ في كلٍّ مِنها شروطُ المجدِ والعَظَمَةِ بِشَكْلٍ مُتَقَارِبٍ، الأمرُ الَّذِي جَعَلَ هذهِ الفَتْرَةَ تُوصَفُ بأكثرِ الحقبِ استثنائيةً فِي التاريخِ المغربي، ولعلَّ ذَلِكَ راجعٌ أيضاً إلى كونِهَا قَدْ عَرَفَتْ أيضاً أَشَدَّ الفَتَرَاتِ اضطراباً وَقَسْوَةً، والَّتِي تَتَشَابَهُ بِدَوْرِهَا فِي أُمُورٍ كَثِيرَةٍ؛ ذَلِكَ أَنَّ الأُولُى بدأتْ بعدَ وفاةِ المولى أحمد المنصور، والثانيةُ كَذَلِكَ كانت عَقِبَ وفاةِ المولى إسماعيلَ، وَكِلَاهُمَا كَانَتَا بِسَبَبِ صِراعِ أَبْنَاءِ السُّلْطَانِ عَلَى العرشِ.
ثالثا: شَكَّلَتْ بَعضُ الفُنُونِ النثريةِ عبرَ نصوصِهَا ـــ والمُتمثِّلَةِ في الرِّحلاتِ والرسائلِ ـــ سِجِلاً هامّاً ومُتَمَيِّزاً للتاريخِ السياسي الذي عرفتهُ الفترةُ، حيثُ قدَّمَتْ أخباراً عَنْ أَحْدَاثٍ وَوَقَائِعَ، نادِراً ما نَجِدُهَا في كُتُبِ التاريخِ.
رابعا: خَلَّفَتْ فترةُ القرنينِ الحادي عشرَ والثاني عشرَ، نهضةً أدبيةً امْتَدَّتْ لِمُخْتَلِفِ الأَغْرَاضِ الشِّعْرِيَةِ والفُنُونِ النَّثرِيَةِ، والَّتِي أَحْدَثَتْ هَزَّةً في كَيْنُونَةِ الأدبِ، مِنْ خلالِ التَّجديدِ الذي لَحِقَهُ، مِنْ أُدَباءِ الفترةِ الإِسماعِيلِيَةِ بِالخُصوص، وَقَدْ عَرَفَتْ هَذِهِ النَّهْضَةُ في البِدَايَةِ، بواعِثَ بَرَزَتْ بقُوَّةٍ في عصرِ المولى أحمد المنصور، حَقَّقَ بِفِعْلِهَا الأَدَبُ ازدهاراً وتقدماً عَكَسَهُ أساساً ازدهارُ الدولةِ واستقرارِهَا، كَمَا عَرَفتْ امتداداً شَهِدَهُ عَصْرُ المَوْلَى مُحمد بنُ عبدِ اللهِ، بعدَ خُمُودِ تَوَهُجِهَا لفترةٍ، بَعْدَ وفاةِ المولى إسماعيلْ.
خامسا: حَقَّقَ شِعْرُ الفترةِ مكانةً مرموقةً وَمَرَاتِبَ عاليةً، تَجَلَّتْ مُنْذُ البدايةِ، فِي عَصْرِ المولَى أحمد المنصور، الذي كان بمثابةِ انطلاقةٍ، لحركةٍ شعريةٍ ذَاتِ خُصوصِيَةٍ مُمَيَّزَةٍ، تَبْعَثُ عَلَى أَصَالَةٍ مُتَجَذِّرَةٍ، وتجديدٍ يَلْمَسُ رُوحَ الإِبْداعِ، الأَمرُ الذي جَعَلَ هَذَا الشِّعْرَ، يَعْرِفُ نَهْضَةً وَصَلَتْ أَوْجَهَا في عصرِ المولى إسماعيلَ، وحقَّقَتْ نُضْجَهَا فِي عَصْرِ المولى مُحمد بنُ عبدِ اللهِ، مِمَّا جَعَلَ السِّجِلَّ الشِّعريَّ لتاريخِ الفترةِ، مليئاً بِكَمٍّ هائلٍ منَ النُّصوصِ الشعريةِ، التي يُعَبِّرُ أَغلَبُهَا عَنْ جَوْدَةٍ وَفَرَادَةٍ استثنائيةٍ، تَمَيَّزَتْ بِهَا على امتدادِ الفترَة.
سادسا: تَميَّزَ نثرُ الفترةِ بطبيعةٍ مختلفةٍ، ارتَكَزَتْ عَلَى مجموعةٍ مِنَ المُتَغَيِّرَاتِ، عَرَفَهَا نَشَاطُهُ عَبْرَ مَرَاحِلَ، اتُّصِفَ فِيهَا بصِبْغَةٍ دينيةٍ يُمَثِّلُها اتّجاهٌ محافظٌ تارةً، وصبغةٍ وَطَنِيَّةٍ تُؤَسِّسُ لِتَوَجُّهٍ عَامٍّ تارةَ أُخرى، حيثُ كانَ هذا النثرُ ـــ إلى جانِبِ الشعرِ ـــ بمثابةِ مِرْآةٍ تَعكِسُ بِيئَةَ المجتمعِ وطبيعةَ العصرِ، كَمَا نجدهُ قدْ عرفَ على امتدادِ الفترةِ، غنىً استثنائياً أحدثَ تَنَوُّعاً فِي فُنُونِهِ وَتَمَيُّزاً فِي نُصُوصِهِ، عبرَ مَا خَلَّفَهُ مِنْ إِنْتَاجٍ ضَخْمٍ مَثَّلَ طَفْرَةً في تَارِيخِ النَثْرِ المغربِي عُمُوماً.
وختاماً؛ يُمْكِنُ القَوْلُ أَنَّ هَذه الأطروحة، كانَ بمثابةِ قِراءةٍ وصفيةٍ ونقديةٍ، سَعَتْ لِمُناقَشَةِ عُنصُرَيْ الأدبِ والسياسةِ في تاريخِ فترةِ القرنينِ الحادي عشرَ والثاني عشرَ، بنوعٍ منَ الشُّموليةِ التي حاولنا منْ خلالها، رَصْدَ مُعظَمِ المَلَامحِ والمظاهرِ التي تُعَبِّرُ عَنْ حَرَكَتِهِمَا وَنَشَاطِهِمَا خلالَ هَذِهِ الحقبةِ منَ التّاريخِ المغربي، كَمَا رَكَّزْنَا علَى الإِحاطَةِ بِمُخْتَلِفِ المُكَوِّنَاتِ والمُؤَثِّرَاتِ، الَّتِي سَاهَمَتْ إِلى حَدٍّ كَبِيرٍ فِي رَسْمِ مَعَالِمَ الحَيَاةِ الأَدَبِيَّةِ والسِّيَاسِيَةِ، الأَمْرُ الَّذِي جَعَلَنَا نَخْلُصُ لِمَجْمُوعَةٍ مِنَ الخُطُوَاتِ شَكَّلَتْ مَرَاحِلَ البَحْثِ، قطعناها منْ أجلِ تحقيقِ نتائجَ واستنتاجاتٍ، أدرجناها في إشاراتٍ وتعليقاتٍ، تعكسُ ثنائيةً جمعتْ الأدبَ والسياسةَ، عبرَ علاقةِ التأثيرِ والتأثُّرِ، بشكلٍ مباشرٍ تارةً، وغَيْرِ مباشرٍ تارةً أخرى. ونحنُ بذلكَ نَرْجُو أنْ تَكُونَ هذهِ الأطروحةُ مساهمةً فعَّالةً في البحثِ التاريخي والأدبي، كما نَرْجُوا منَ المولى أنْ يُعينَنَا مُسْتَقْبَلاً على استِكْمَالِهَا والتَّوَسُّعِ فيهَا بحثاً ودراسةً.