صفحات عن الأعمال الحربية للفارس المقدم الجبلحبيبي الشهيد عبد الملك الخمليشي ضد الاحتلال البرتغالي بأصيلا وطنجة سنوات ) 1519 – 1525م ( 11/11
سنتناول اليوم – إن شاء الله عبر جريدة الشمال الرائدة المشكورة – المقال الأخير لسلسة الاسهامات الحربية وجهود المقاومة التحريرية لأشهر محاربي جبل الحبيب فارس فرسانه المقدم الشهيد عبد الملك الخمليشي[1] ضد الوجود الإيبري بأصيلا وطنجة عهد الدولة الوطاسية لمدى ست سنوات )1519 – 1525م( من القرن السادس عشر الميلادي، وﺫلك وفق التسلسل الزمني للأحداث حسب شهادة ” برناردو رودرﻳﮝس “ ومعاينته المسطرة في حولياته عن أصيلا.
- صفات عبد الملك وخصاله، وتذكير سريع ببعض مظاهر شجاعته الكبيرة وجرأته.
اهتم صاحب حوليات أصيلا ” برناردو رودرﻳﮝس “ بتنقلات خليفة المقدم الشهيد علي الرواس المدعو عبد الملك الخمليشي بين أصيلا وطنجة، مما جعلنا نحصل على صور متلاحقة من مقاومته على مدى ست سنوات )1519- 1525م(، وقد سبق له أن أسر في وقت سابق لظهور علي الرواس بميدان طنجة، ودلك فترة مقدمية هدا الأخير على جبل الحبيب سنوات (1514- 1519م(، فنقل الى البرتغال، ولكنه تمكن من الفرار والعودة الى قريته الخروب التي ينحدر منها، ومن ثم مواصلة مشوار الغارات على الثغور الشمالية المحتلة ومهاجمتها عبر الالتحاق مجددا بقائده علي الرواس الدي لم « يقل عنه نبلا وفروسية »[2] كما سبق وأن اطلعنا على أعماله الجهادية، وبعد أن نوهت بشخص عبد الملك وببعض جهوده العسكرية ودكرت ظروف مقتله، أعتقد أنه يتعين علي الآن أن أتحدث عن صفاته، وأن أشير – باختصار – الى شجاعته الكبرى وجرأته وكرمه وتعامله الخاص مع أسراه، فأقول : سلك عبد الملك في عمله الجهادي نهج أسلافه، نهج اولائك المقدمين والفرسان الشجعان، كعلي مكيك[3]، وتميم حريش[4]، وعزوز الوطاسي، المعروف بعزوز الصغير، وعلي حريش، وعزوز الكبير الدي مات في الاسر لدى دون منويل مشكرانياش قبطان أصيلا بالنيابة (1538- 1546م)، وقد قتل هؤلاء جميعا طعنا بالرماح في ميداني أصيلا وطنجة، وإن كنا نعاني ضآلة المعلومات عن المقدمين الأوائل فإن يقابلها وفرة الاخبار عن مجموعة أخرى عاصرها ورجال رافقهم في الغارات والهجومات، كالمقدمين علي بن يعيش، ومحمد يونس، وعلي سعدان، ومحمد سعدان، وخال المولى إبراهيم علي مارتينو قائد جبل الحبيب، وأبرزهم على الاطلاق رئيسه علي الرواس، وهؤلاء وأولائك يستحقون أن تخلد أسماؤهم لشجاعتهم الكبيرة ولفروسيتهم، لكن أكثر من تأثر عبد الملك بأسلوبه الحربي هو قائده علي الرواس، وبدلك استطاع أن يتفوق عليه حسب اعتراف صاحب الحوليات ومن خلال المطالعة النصية الشخثية للحوليات والوقوف على أحداث كل من المقدمين، حيث زاد عبد الملك على الرواس بتحركاته السريعة بين الميادين، فخلال ست سنوات حارب في ميادين الثغور الأربعة خاصة ميدان طنجة، حيث فقدت حريتها في حياته.
كما اعتمد بدوره على مجموعة محاربي علي الرواس، بعد أن عينه أمير الامارة الراشيدية بشفشاون مولاي إبراهيم العلمي مقدما عليهم، والى جانب اغاراته الشخصية على الثغور كان له حضور بارز في الغزوات مع قائده الأعلى المولى إبراهيم تارة، وتارة أخرى مع قواد القصر الكبير وتطوان وإزاجن (بالقرب من وزان) والعرائش، وتارة ثالثة مع عملاء أقاليم الشمال الغربي المغربي، كعامل بني عروس وشيخ قبيلة بني زكار، ورابعة في الحركات السلطانية الوطاسية وحملاته على ثغري طنجة وأصيلة، والحق أن عبد الملك – بأسلوبه الحربي المتنوع – قد ملأ فراغ الست سنوات التي خاضها في المقاومة بالتناوب مرة على أصيلا ويوما آخر على طنجة، كما أنه تجول بين جميع طلائع ميدان أصيلة ومحارسها، لكنه ركز جهوده على مطلع عين القصب الملتقي بواد بوكنون، وقد نتج عن دلك أكثر من ثلاثين غارة مما سطرت بالحوليات، وهي تزيد عن دلك بأضعاف مضاعفة، نتج عن كل دلك أسر أكثر من مائة فارس من كبار رجال المدينتين المحتلتين وأعيانها، لأنه – حسب المؤلف – « لم يكن يعرف للراحة طريقا، ولم يتوان عن إزعاج وإقلاق راحة سكان الثغور الاربعة، أصيلا وطنجة والقصر الصغير وسبتة، باستهدافها بعدة غارات، واختطاف عدد من الحراس والمكلفين بالمراقبة فيها، وأسر كل من كان يخاطر بالابتعاد وحيدا عن المدن المذكورة، أو أولائك الدين كان يأتي ليلا الى باب البحر لانتظارهم إدا ما تعذر عليه أسرهم خلال النهار، وقد أسر عددا من المستخدمين الدين كانوا يعودون متأخرين، وغنم كثيرا من الثيران والمواشي التي كانت تبيت خارج المدينة، وكان رجلا داهية، شديد الحيطة والحذر، أفشل محاولات ” الكوند ” العديدة لإلقاء القبض عليه، ونجا من كل الشراك التي نصبها له، لقد كان في أغلب الأحيان يرى رجالنا وهم يتربصون به، ويكشف مخططاتهم، ويعرف الاماكن التي كانوا يتوقعون القبض عليه، (…)، لا ينطبق على محاربي جبل حبيب المثل الشائع بيننا القائل : ” بأن قبعة واحدة لا تسع رأسين “، فقد كان جل المشاركين في مجموعته من المقدمين العارفين معرفة جيدة ميداني طنجة وأصيلا، ومع دلك كانوا يتشاورون فيما بينهم، ولا يختلفون أبدا، ويوافقون على كل رأي سديد ويسارعون إلى تنفيذه، وقد اعتدنا كلما قتلنا أحدا منهم أو أسرناه أن نلقبه بالمقدم، وعلى الرغم من أن عليا بن يعيش ومحمد يونس وعلي حراش والأطرش كانوا جميعهم مقدمين من جبل حبيب معاصرين لعبد الملك، فإنهم كانوا جميعا يأتمرون بأوامره، ويعترفون بشجاعته وجرأته، على الرغم من قصر قامته، وجسمه النحيف »[5]، ويزيد : « يمكنني القول إنه لم يكن في زماننا داك محارب أكثر منه جرأة وسخاء، فقد عرض الثغور الأربعة – وخصوصا أصيلا وطنجة – لأكثر الهجمات وشاع بيننا أنه أسر خلال السنوات الست التي أمضاها في محاربتنا، أكثر من فائة فارس، فضلا عن المشاة، (…) ولم يتوان ” الكوند ” في البحث عن جميع الطرق والوسائل الحربية لاعتقاله، غير أنه لم يتمكن من دلك، وكان يفلت كل مرة من بين يديه (…) وما إن شرع عبد الملك في تنظيم غاراته حتى اشتهر وداع صيته لكثرة هجماته على أصيلا وطنجة، ومباغتته للمراقبين بعد خروجهم لاستكشاف البادية وفور استقرارهم في مواقعهم، فحتى خلال تنقل ” الكوند ” عبر البادية كان يجرؤ على مهاجمة الأشخاص المنعزلين ويأسرهم، مستفيدا من قرب جبل حبيب من أصيلا، ومن معلومات جواسيسه الكثيرين المراقبين لميداننا، وتعددت كمائنه وتنوعت، وازدادت فعاليته، وأصبحنا عرضة لأداه وأدى مرافقيه الدين لم يكن عددهم يتجاوز أبدا عشرين خيالا، والدين قليلا ما يمر أسبوع دون أن يدخلوا ميدان أصيلا أو ميدان طنجة » [6].
- تعامل عبد الملك مع الأسرى وكرمه وشهادة أمير شفشاون المولى إبراهيم في حقه :
رغم ما كان يحصل عليه من هبات عينية ونقدية من الملك الوطاسي محمد البرتغالي ومن المولى إبراهيم مقابل كل واحد من أولائك الأسرى الدين كان يأتي بهم الى شفشاون، والدي كان يجزل عليه العطاء وعلى مرافقيه، مما كان يشجع الحركة الجهادية بجبل الحبيب، ومن وباقي القواد، ورغم نصيبه من الأسرى إلا أن عبد الملك كان ينفق كل شيء في المآدب وجلسات الخمر التي كان يستدعي إليها جميع الأسرى المسيحيين الحاضرين، لدلك بقي بيته متواضعا »[7]، ولم تجد زوجته بعد وفاته ما تفتدي به نفسها بعد أسرها إلى أن دفع عنها المولى ابراهيم مائة وخمسين كروزادو، ونقلها سنة اثنين وثلاثين لتقيم في موضع آخر لم يخبرنا يطلعنا عليه مؤلف الحوليات رغم وعده، وذات مرة بشفشاون « دعا عبد الملك رفاقه وجميع الأسرى الموجودين لديه، وشرع وإياهم في الشرب، ولم يتوقف إلا بعد أن نفد ما كان معه من خمر[8] ومال، ولما رغب في العودة الى جبل حبيب وجد نفسه دون مال ودون خمر، فبعث أحد أقاربه ليطلب من المولى إبراهيم مزيدا من المال، مدعيا أنه لا يتوفر على مصاريف السفر، وقد استغرب المولى إبراهيم الأمر وسأل المبعوث عما فعله عبد الملك بالأوقيات الكثيرة التي أعطاه إياها، فرد عليه بأنه صرفها عليه في شرب الخمر، ورد أحد أفراد عائلة ابن عزوز، وكان من وجهاء المدينة ومن أقارب المولى إبراهيم : ” إن عبد الملك قادر على شرب كل الخمر الموجود في الغرب، وتبذير كل الأموال الموجودة فيه “، ورد المولى إبراهيم بقوله : ” بل علينا أن نحمد الله على وجوده بيننا لسخائه الذي يجعلنا نعمل على تقليده “، وبعث المولى إبراهيم في طلب مبلغ من المال وأخذ منه حفنتين وسلمها لمبعوث عبد الملك الذي طلب منه ابن عزوز المذكور أن لا يسلمها له إلا بعد أن يكون قد ركب فرسه لكي لا يتأخر أكثر.
إن ما قاله المولى إبراهيم يعكس شهامته وكرمه، لأن التوسع في الحديث عن نبله يتطلب مجلدا كبيرا وهو ما لا يتلاءم وهدا المؤلف المختصر »[9].
استمر عبد الملك على العادة التي كان عليها مقدمه علي الرواس، من « تنظيم حفل كلما عاد بأسرى إلى جبل حبيب، كان يجتمع وإياهم ورفاقه في بيته فيه يعاقرون الخمر لمدة ثلاثة أو أربعة أيام قبل أن يحملوا الأسرى الى شفشاون، وكان يعطي أولائك الأسرى – وبعضهم يعتقلهم بنفسه – نصيبا مما يتسلمه من مال من الملك أو من المولى إبراهيم ومن القواد الآخرين، لدا كان الأسرى جميعا ينوهون به وبأعماله.
وبهدا نكون قد أنهينا الحديث عن حياة الشهيد عبد الملك وذكر ما سمح له البحث التاريخي من أعماله من خلال مذكرات جندي برتغالي معاصر له بأصيلا.
هوامش :
[1] – الخمليشي او أخمليش أو خمليش، يقصد به شخص مبارك,، وهي أسرة ريفية موجودة في مناطق مختلفة من المغرب’ في جبال الريف، وفي الساحل الاطلسي جهة الشاوية و في جهة تادلة، وتنحدر ابا عن جد من اصول امازيغية صنهاجية، وبعضهم من اصول عربية شريفة، ولم أقف حقيقة على ما يشف الغليل بخصوص هدا الاسم العائلي من مصادر موثقة معتمدة لحد الساعة.
[2] – حوليات أصيلا، ( 1508 – 1535 ) مملكة فاس، من خلال شهادة برتغالي، تعريب الدكتور أحمد بوشرب، دار الثقافة، الطبعة الأولى 2007، ص 249
[3] – المقدم علي مكيك : أقدم من نعرف من أسماء مقدمي جبل الحبيب – من خلال الحوليات – هو المسمى علي مكيك (Ale Moqueque)، الذي لم نتحقق من النطق الصحيح باسم أبيه، إن كان الثاني دالا عليه، وكل ما نعلمه أن صاحب الحوليات لم يدركه، فاكتفى بإخبارنا بالمكان الذي تم استشهاده فيه، وهو معبر من معابر ظاهر أصيلا، الذي – لشهرة علي الكبيرة – لا يزال يحمل اسمه، واحتفظ له به ليدل على المرسى الواقع جنوب أصيلا، وعلى الواد الواصل إليه، ولا تسعفنا مثل هاته الإشارة على تقديم بنيات أكثر وضوحا.
[4] – تميم الحراش- Hurrax Hurraix Timão، والحق أنه حار أمري حول هاته الشخصية، فمن جهة الاسم يدونها مترجم الحوليات الاستاد احمد بوشرب تارة ﺑ (تمام) وأخرى ﺑ (تميم)، ومن حيث الاسم العائلي فتارة يسطره – هو نفسه – ﺑ (حريش) وتارة ﺑ (الحراش) وتالية ﺑ (الحريشي)، وربما كان هدا من بني حرشان القرية المندرجة ضمن قبيلة بني مصور في الحائط الأعلى، وبه سميت الجماعة الترابية الواقعة بأراضيها (جماعة بني حرشان) بجوار جبل الحبيب، ويبدو أنه تخلى عن مهمته كمقدم للمسمى عزوز الوطاسي (Ostacis Azus)، لكننا لا نعرف عنه شيئا، إلا ما كان من قضاء – بعد تخليه عن المقدمية – أيام شيخوخته في الاسر مند سنة 1539 أو 1540م.
[5] – حوليات أصيلا، 333
[6] – 254 – 255
[7] – 442
[8] – حتى وان كان موضوع معاقرة لمقاوم كبير كعبد الملك للخمر في بيئة اسلامية صعب التصديق فهناك ما قد يشفع للمؤلف وهو ما جاء في (مرآة المحاسن من أخبار الشيخ أبي المحاسن) أن عبد الله بن محمد الهبط الطنجي « وهو من اكابر اهل العلم والعرفان، ورفعة القدر الواضحة البرهان، كانت تلك الجبال التي كان بها – وهي جبال غمارة بما فيها جبل الحبيب – كثيرة الجهل وشرب الخمر وغير دلك من المناكير، فبدل الوسع في تعليم التوحيد، وتقرير العقائد، وتغيير المناكر، وخاطب في دلك ولاة البلاد وأشياخ القبائل، ومن له كلمة مسموعة فيهم، ووعظ وذكر، وبلغ الغاية في الاجتهاد، فنفع الله به نفعا عظيما، وهدى به عالما لا يحصى، وحسن حال البلاد وأهلها ». مرآة المحاسن من أخبار الشيخ ابي المحاسن، تأليف الامام أبي حامد محمد العربي بن يوسف الفاسي الفهري، دراسة وتحقيق : الشريف محمد حمزة بن علي الكتاني، مركز التراث الثقافي المغربي، دار ابن حزم، الطبعة الاولى 2008م، ص 117، كما ان الحسن الوزان أكد – في كتابه وصف إفريقيا – أن جبال الهبط بما فيها جبل حبيب زمانه – كانوا « يشربون الخمر »، وصف إفريقيا، الحسن الوزان، دار الغرب الاسلامي، الطبعة الثانية، 1983، 1/320.
[9] – حوليات أصيلا 444