تقديم :
عرف جبل الحبيب بسالة وبأسا ضد المحتل البرتغالي طيلة وجوده مما جعله باستمرار محل قلق للبرتغاليين إﺫ ضيق عليه الخناق وأقلق راحته وصده عن توغله بالداخل وأربك طموحاته وحساباته وأنهك قواته وقلل من فرسانه وأخاف سكانه ونغص حياتهم فصار مهاب الجانب فوجب ضرورة تعريضه للغارات المتكررة والهجومات المستمرة وإخضاعه لمعارك ضارية عل أن تشل حركته وتوقف بأسه وتزيل عقبته وتستنزف محاربيه فتخضعه أو يخضع للصالح البرتغالي كما خضعت بعض القبائل المجاورة لأزمور آنذاك فتجعله عونا لها على إخوانه، وهدا ما لم يكن ليقبله جبل كجبل الحبيب الذي لم يكتفي بعشرات المعارك ضده على أرضه فقط بل تعداها بجرأة وبسالة إلى ثغر أصيلا والى ضفاف الثغور المحتلة الاخرى بشمال المغرب بتنسيق مع القواد المجاورون للمدن المحتلة خاصة أصيلا، أو بجوار القواد الكبار للمدن الشمالية كقائد شفشاون المولى إبراهيم خاصة، بل تعدى دلك إلى معارك أخرى بجوار السلاطين الوطاسية كالملك محمد البرتغالي وأخيه والمولى الناصر بالثغور المغربية الأخرى وأصيلا بالأخص، وكانت معركة وادي المخازن الفاصلة خير شاهد على دلك، مما جعله بحق مركز مقاومة ضد الاحتلال البرتغالي بالشمال الغربي المغربي لفترة امتدت في الذاكرة التاريخية لمائة وثلاث وستين (163) سنة، مند الاستيلاء على سبتة الى معركة وادي المخازن الحاسمة (1415 – 1578م)، وهي مدة استغرقت العهد الوطاسي كله، وعقودا من الدولتين المرينية والسعدية، وعليه بما أن المقالات الثلاث السابقة من السلسلة أعلاه عرفت – عبر جريدة الشمال الغراء المشكورة – إضاءة على بعض ملامح وأعمال المقاومة والنضال – ضد المحتل البرتغالي – لفارس جبل الحبيب المغوار والقائد الداهية الشجاع علي الرواس، فسنعرج في ﻫﺬا المقال الرابع اليوم إلى ذكر معركة من المعارك التي دارت رحاها بجبل الحبيب فأبانت عن بسالة محاربيه الجريئة وتضحيات فرسانه المهمة وإسهامات قواده الكبيرة ومشاركة الأهالي الجبلحبيبة بجوارهم – خاصة قرى الخروب والريحانة والجبيلة – أمام الاحتلال البرتغالي في القرن السادس عشر الميلادي في العقد الثاني من القرن السادس عشر سنة ) 919 ه – 1514 م(، وإنها معركة المايدة حسب معاينة وشهادة ” برناردو رودرﻳﮝس “ فيما سطره في حوليات أصيلا.
- اجتماع قواد ميدان أصيلا بجبل الحبيب استعدادا للهجوم على إحدى المحتلتين طنجة أو أصيلا سنة ( 919 ه – 1514 م )
في الثاني والعشرين من فبراير من سنة ألف وخمسمائة وأربعة عشر أغار ” بيرو دو منيزش ” المسلم المتنصر عميل برتغالي أصيلا على قرية ” الغراف ” بالقرب من قبيلة بني زكار، فغنم وأسر أربعة من المسلمين، وقد أرسل على وجه السرعة من يبلغ قبطانه بأصيلا بما أخبره به أسراه من أن قريب قائد القصر الكبير سيدي زيان العروسي شيخ بني زكار « انتقل رفقة فرسيه وأقاربه وأصدقائه الى جبل حبيب »[1] على رأس ستين فارسا، وعلى حد إخبار الأسرى أنه « فر من قريته خوفا من بطش وقسوة المولى الناصر أخي ملك فاس[2]، بعد أن رفض تسليمه مهرين رباهما وأصبحا من أشهر وأجمل خيول البلاد كلها، وقد علل الشيخ تمسكه بفرسيه بضرورة استعمالهما في محاربة المسيحيين، وادعى أنه بصدد التحضير للهجوم عليهم »[3] من جبل الحبيب.
والحق أن القائد الشيخ زيان كان فعلا على موعد مع القواد المسلمين[4] بالجبل المدكور، مما يدل على أن الأسرى لم يتثبتوا جيدا من موضوع المهرين لتعمد الشيخ – في الغالب – عدم الإفصاح لمرافقيه بدلك خشية البوح لأهاليهم، واختلق القصة بالأساس من أجل تضليلهم عن حقيقة التحاقه، حتى لا يتسرب للبرتغاليين أمر وصوله لجبل الحبيب كونه استعداد على هجوم ما وإنما مجرد فرار من المولى ليس إلا لا يشكل أي تهديد عليهم، لعلم الشيخ بكثرة الخونة المسلمين والوشاة والمخبرين والفكاكين السعاة الدين كثيرا ما باحوا للعدو البرتغالي بأسرار بني جلدتهم الدين لم يشهد عهد مثلهم كعهد بني وطاس لعدة أسباب نفصل القول فيها لاحقا، خاصة الاسرى المسلمين، إما خوفا من تعديبهم أو قتلهم، وإما طمعا في ميزة من المحتل كبقية إخوانهم المتنصرين الملتحقين بإحدى ثغوره، وقد سببوا بدلك في إفشال الكثير من المشاريع الجهادية للمسلمين وأطال من وجودهم، ثم مما يثبت أسلوب التضليل للشيخ أنه كيف يتفق ما سماه الأسرى فرارا الى جبل الحبيب والتقاؤه هناك بالقواد المسلمين ؟ إلم يكن لغرض حربي كالتنسيق والاستعداد لهجوم ما ! ثم كيف يفسر « تدخل قائدا القصر الكبير وأزجن لدى الملك والمولى الناصر أن يعفيهما من مشاركتهما في الهجوم الدي سيشنه على المسلمين المتعاهدين بالشاوية ودكالة، فأعفياهما من المشاركة في الحملة التي كان هدا الأخير يعد لها »[5]، ثم أنهما « التحقا بالشيخ سيدي زيان لمهاجمة أصيلا وطنجة صحبته قبل إرجاعه الى موطنه ببني زكار»[6]، وفي إطار الاستعداد قد « قضوا الليلة بوادي الخروب المؤدي مباشرة الى طنجة التي كانوا يعتزمون مهاجمتها في اليوم التالي، وخلال تلك الليلة إنضافت إليهم أعداد كبيرة من المتطوعين من جبال بني احمايد وبني عروس، وفي الصباح تراوح عددهم ما بين تسعمائة والف فارس، فضلا عن الثمانين الدين جاؤوا من جبل حبيب والريحانة[7] وبني ومراس »[8]، أو ليس في كل هدا دلالة واضحة – إن سايرنا إفادة الاسرى – على أن الخلاف بين زيان والمولى الناصر قد سوي بينهما ؟ وإلا ستكون مشاركة قائدي القصر الكبير وأزجن للشيخ زيان الفار عصيان منهما للمولى وللملك، وتعبيرا عن عدم اهتمامهما بالأمر، بل مساندة له مما يعد تمردا في العرف العسكري، وهدا لن يقبله أي مولى وسيقيم إجراءات في حق الشيخ، وعلى ما يبدو أن المؤلف انطلت عليه حكاية المهرين هو الآخر وسطرها كحقيقة ثابتة.
- قرار قبطان أصيلا بمبادرة الهجوم على جبل الحبيب :
بمجرد توصل الكوند بالخبر الذي أفاد به الأسرى كان له نظر آخر للموضوع حيث توقع مهاجمة أصيلا من جبل الحبيب حتما، إد سبق في علمه أن سيدي زيان هاجم طنجة مرتين قبل توليته حكم أصيلا، فقرر مبادرة الهجوم، وتحرك ومرافقيه في اتجاه جبل حبيب، ولما وصل الى الصخرة المحادية ﻠ ” المايدة “[9] « أمر ” كونصالو فاش ” بمهاجمة ] قرية [ ” الريحانة “[10] إحدى قرى دلك الجبل صحبة ثمانية عشر فارسا، فانتقل هو إلى صخرة أخرى ﺑ ” وادي الرند “[11] حيث كمن، وحيث شاهد بأسفل ] قرية [ ” الجبيلة “[12] رجالا كثيرين مقبلين لمراقبة تحركاته ونصب كمين له، فخرج من مخبئه وتظاهر بالفرار ».
- صور من مساعدة الجبلحبيبين لمحاربيهم ضد الغزاة.
لم تفد ” الكوند ” حيلته، فبمجرد أن « شاهدهم الجبليون وسكان قريتي الجبيلة والخروب شرعوا في الصياح، وبادروا الى اشعار الشيخ زيان الذي أقبل صحبة مرافقيه بكل ثقة وفي فوضى كبيرة، بعد أن شجعهم وجود القواد في “القليعة ” الموجودة بجانب وادي الخروب غير بعيد عنهم، وعلى الرغم من دلك استطاع رجالنا عبور الوادي والمرور الى الجهة الاخرى دون أن يضايقهم أحد، لكنهم ما كادوا يصلون الى السهل ويشرعون في الصعود نحو ” المايدة ” حتى اقترب المسلمون منهم كثيرا، مما حال دون تطبيق خطة ” كونصالو فاش ” الذي كان يرغب في السير ببطء لكي يجعلهم بين مكان وقوف ” الكوند ” وأصيلا »[13]، وقد تفطن الخيالة المسلمون لحيلته الخبيثة ﻓ « فرضوا عليه السير بسرعة أكبر، لأن سيدي زيان كان ممتطيا فرسه الدي تسبب في خلافه مع المولى الناصر، وكان يتقدم أكثر من ثمانين خيالا، وقد أكره الشيخ رجالنا على السير بسرعة، وأبعدهم عن بعضهم رغم التزامهم بالترتيب والنظام المتفق عليه »[14] إلى أن أوصلوهم إلى المايدة.
- معركة المايدة، مقدمة لمعركة أكبر
بعد أن طارد المحاربون المسلمون البرتغاليين وأوصلوهم « إلى ” المايدة ” اضطر ” الكوند ” الى التدخل لإنقاد أحد خدامه بعد أن تعب فرسه، وكاد المسلمون أن يأسروه، فلما عاد لمساعدة خديمه طعن الشيخ زيان وأسقطه عن فرسه وهو ينزف دما بعد أن اخترقت الحربة الزرد الذي كان يرتديه، فسارع رجالنا الاستيلاء على فرسه، كما استولوا على فرسه الثاني الذي كان بحوزة ابن أخيه الذي قتل بعد أن اخترقت جسده رماح كثيرة، وقد فقد المسلمون في المايدة ستة فرسان، وأسر اثنان منهم – كان الشيخ أحدهما -، وفور ﺫلك علم رجالنا بوجود القواد بجوار الوادي وبالقليعة »[15] « على مسافة قريبة جدا من مكان وجود ” الكوند “، بحيث لم يكن يفصله عنهم سوى ربع ” ليكوا “[16]، فلما علموا بوجوده على مقربة منهم اعتقدوا أن المسيحيين لن يفلتوا من قبضتهم »[17]، وآنذاك فر المحاربون المسلمون إليهم للاحتماء بجنودهم حسب المؤلف، بينما « توقف الكوند على مطاردة الفارين رغم أنه كان بإمكانه الحصول على أسرى آخرين »[18]، ورغم ﺫلك « لاحقهم خمسة من فرساننا كانوا في حالة سكر بين ولم ينتبهوا إلا بعد أن وجدوا أنفسهم وسط المسلمين فقتلوا منهم اثنين، واسروا اثنين آخرين »[19]، وفر الخامس فطارده المسلمون ﻓ « ألقى بنفسه من فوق فرسه لكي لا يطعنه أحدهم برمحه، وبينما هو راجل ورمحه في يده قال له أحدهم : ارم المزراك ¡ ، أي ألق برمحك، لم يبد أية مقاومة، وترجى من المسلم أن لا يقتله، فطمأنه، آنذاك ألقى الرجل الرمح في منحدر، فترجل المسلم ودنا منه وانتزع منه قبعته وسيفه ثم ترك فرسه بجانبه وراح يبحث عن الرمح، فركب المسيحي فرسه وفر »[20] محاولا الالتحاق بالمايدة حيث ” الكوند، ” الذي « تراجع صوب ” بيدريكال ” اختصارا للمسافة وإن لم يتمكن من الوصول إليها إلا بعد جهد جهيد »[21]، بينما واصل عدد كبير من محاربي المسلمين البحث عن ” الكوند ” »[22]، وقد نظر هدا الأخير أمره فرأى أن معركة ضارية في غير أرضه على وشك الوقوع تتطلب تعزيزات أصيلا كما قد تستغرق وقتا من شأنه أن يقلق سكانها، فأرسل فورا « فارسا رفقة رجلين من المشاة ومعهم أسير الى أصيلا ليطمئنوا السكان »[23]، ومن ثم استقدام فرسان حيث « عاد الفارس إلى جبل حبيب ومعه ثمانية أو عشرة من الخيالة كانوا في المدينة والتحقوا بالآخرين والمعركة حامية الوطيس »[24].
“ يتبع 2/2 ”
هوامش :
[1]- حوليات أصيلا ( 1508 – 1535 م ) ( مملكة فاس من خلال شهادة برتغالي )، برناردو رودرﻳﮝس B. Rodrigues، تعريب الدكتور : أحمد بوشرب / دار الثقافة، الطبعة الأولى 2007 م، الفصل الثالث، ص 121
[2] – وفي تسطير آخر للمؤلف حسب الاسرى « أنه ربما قد يكون التجأ الى دلك الجبل خوفا من ملك فاس » محمد البرتغالي. نفسه، الفصل الثاني، ص 120
[3] – نفسه، الفصل الثالث، ص 121
[4] – كان من بينهم « سيدي احمد العروسي قائد القصر الكبير، والقائد الحارث قائد أزجن، والقائد أمين قائد العرائش »، نفسه، ص 126
[5] – نفسه، ص 123
[6] – نفسه، ص 123
[7] – يبدو وكأن المؤلف يفصل بين جبل حبيب والقليعة التي يطلق عليها اليوم بالقلعة من جماعة الخروبة في التقسيم الإداري المعاصر، وقد كانت أنداك قلعة لجبل الحبيب تنطلق منها الهجمات إضافة الى قلعة الخروب، ثم أن المؤلف – من جهة – يفصل بين جبل الحبيب وقريته الريحانة، وهو نفسه الذي ذكر مرارا وسطر في ذات الصفحة بالأولى ما يثبت نسبة قرية الريحانة إلى جبل حبيب كما سيأتي، والسبب في خلط المؤلف هو أنه لم يتمكن من تنقيح مسودته، ولم يراجعها حيث وافته المنية، فهناك أخطاء بسيطة كقبيل هده لم تصحح كانت ستظهر بمجرد مراجعتها.
[8] – حوليات أصيلا، الفصل الثالث، ص 123
[9] – المايدة almeida، يوجد اليوم على الضفة اليسرى لنهر الوادي الكبير مرتفع يسمى ” كدية المايدة ” بعلو 154 متر، انظر [ الخريطة الطبوغرافية، أربعاء عياشة، 1 / 50000 ، 460 / 539 ]، وعليه يكون هدا الموقع على الضفة اليسرى للوادي الكبير قرب جبل حبيب. احمد بوشرب، نفسه، ص 121
[10] – مدشر الريحانة أحد مداشر جماعة جبل الحبيب بالحيط الفوقي في الجنوب الشرقي للجبل.
[11] – وادي الرند : هو الواد المنحدر من سيدي حبيب صوب بومزود، ويمر بالقرب من مقبرة سيدي فضيل حيث يلتقي بالوادي الكبير.
[12] – الجبيلة aljebilaK، الخريطة الطوبوغرافية، أربعاء عياشة، 1 / 50000 ، 465 / 541، وقرية الجبيلة اليوم تقع على مرتفع بالشمال الشرقي من تراب الجماعة القروية جبل الحبيب بالحيط الفوقي، وهي من أقدم القرى بالجبل، وتسكنها أسر شريفة كأسرة أفيلال وأسرة العافية…
[13] – حوليات أصيلا، الفصل الثالث، ص 122
[14] – نفسه، ص 122
[15] – نفسه، 121 – 122
[16] – أي أقل من كيلومتر ونصف، ﻓ ” ليكوا ” واحدة تساوي 5.5 من الكيلومترات ، وهي قياس برتغالي.
[17] – نفسه، 123
[18] – نفسه، 122
[19] – نفسه، 122
[20] – نفسه، 122
[21] – نفسه، 122
[22] – نفسه، 122
[23] – نفسه، 122
[24] – نفسه، 123
محمد أخديم