ماتت أمه وكان قد بلغ الخامسة والخمسين من عمره، فبكى بحرارة فبل الجنازة وبعد الدفن ، هو نفسه تعجب لبكائه ، وتعجَّب أيضًا جميع من كان حاضرًا، حتى إنه كان لا يكاد يميِّـز هؤلاء الذين ازدحموا على باب البيت، من وراء امواج الدمع الهتون التي أغرقته مثيرة شجا في نفوس المعزين، و ربما كان من بينهم من ظن أن الرجل يبكي ندمًا عما يكون قد بدر منه مع المرحومة، او لشعوره بتقصيره معها ذات يوم . و يتذكر أن موجًا طاغياً كان يصطخب في أعماقه، أثناء تشييع جنازتها ويملأ عليه مجامع نفسه. حتى كان وهو يغالب غزارة ما يتدفق على خَّديْه منه ، يحس وكأن ذلك يبعده عن الجموع الغفيرة التي تقاطرت على البيت والمقبرة.
أصوات المقرئين الذين ازدحمت بهم أكبر حجرات البيت لا تتوقف بين تلاوة آي ، واشعار وأدعية أصبحت في قوة المقدس، بل كانت يتنافس كل صوت منها أن يكون هو الأعلى والأقوى. مع مرور الوقت يزداد دمعه انهمارًا، فهل كان يبكي من جزع أمام الموت أم هل كان يشرف على الانهيار عن قلة نضج وقصور خبرة على مواجهة الصعاب. . فهو يتذكر أنه كان في أول صباه يجزم أنه لن يستطيع صبرًا أمام فقدان أحد والديه.
استعاد قول زوجته ذات مرة وهي تعلق في مناسبة جنازة امرأة :
ـ يقال إن الرجل يميل عادة إلى أمه اكثر…
فقال ساخرًا وبألم مبطن:
ـ أتغارين؟
***
وتذكر أنه و هو يحضر دفن جدته كان أكثر بكاءًا،، فقد صعبت عليه مشاهد مما كانت تعاني منه في أيامها الأخيرة من داء الزهايمر الذي لم يكن الناس يعرفون عنه أكثر من كونه فقدان ذاكرة ليس أكثر، جعلها تعتقد أن والدتي هي أمها ، ، وكان المحيطون بها من الذين لم يكونوا يعلمون شيئًا عن دائها يستغربون وهي تسأل الذين يعودونها:
ـ أين ذهبت أمي ؟
وحين كانت جدته تطلب من سيدة تجلس إلى جانبها :
ـ نادِي لي أمي
تكتفي الزائرة بأن ترثي لجدته وتأسَى، متيقنةً من دنُوِّ أجلِها، مُبسملة أو محَوْقلة ، معبرة في الحالتين عن استغراب هادئ محايد، إلى أن تنصرف وحدها أو صحبة أخريات كن يتعجلن الذهاب.
***
وفي مناسبة وفاة أبيه ، وكان قد تجاوز الثامنة والخمسين ، كانت حرارة بكائه أشدَّ، لا لإحساسه بمرارة فقدان كبير الأهل والعائلة، بل لأمر لم يفهمه، وإن أحس أنه وراء إرسال من تجاوز الخمسين دمعَه مدرارا لسرًّ غير مفهوم ، فقد أثارت غزارة ما أراقه من ماء عينيه تعجُّبَ كل من رآه، حتى زوجته التي تساءلت مستغربة :
ـ أيعني ذلك أنه كان أكثر ميلًا إلى أبيه.
فعلق في أناة الشيخ :
ـ تستغربين يا بهجة الروح بما يدل أنك لم تجربي بعد قساوة فقدان الروح ، أو ألَمَ وقع مُدْيَةٍ على جَسَدٍ حيٍّ.
علت صفرة الوجل وجه زوجته ، فلما رأى ذلك منها ، سارع إلى القول:
ـ بل ربما كان وراء بكائنا في مناسبة الموت، حذرُنا نحن إذ نبكي أنفسنا أمام لغز نهاية لا يُبعد وقوعَها حذَرٌ ولو كنا في حصون مشيَّدة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الشاعر القاص أحمد بنميمون