بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، وبعد، أتشرف بالمشاركة في هذه الندوة المباركة ضمن ثلة من الأساتذة الباحثين والعلماء الأفاضل، الذين أفرغوا الوسع في تتبع جهود علماء الشمال في خدمة القرآن الكريم. موجها شكري لرئيس المجلس العلمي المحلي لمدينة تطوان، ولكافة أعضاء المجلس، سائلا الله تعالى أن أكون عند حسن ظنهم. وأشير إلى أن اختياري للمحور الثالث كان بغرض التعرف على مناهج علماء الشمال في تفاسيرهم، متخذا من تفسير ابن عجيبة الإشاري لفاتحة الكتاب نموذجا.
فأقول وبالله التوفيق: درج الباحثون في علوم القرآن والتفسير على تقسيم أنواع التفسير إلى قسمين رئيسين: تفسير بالمأثور وتفسير بالرأي، وعنهما تفرعت أقسام أخرى ظهرت متأخرة عن القسمين الأولين؛ ومنها التفسير الإشاري أو التفسير الصوفي، وذلك بحسب اعتبار طريقة تفسير هؤلاء هل هي قائمة على مرجعية مأثور النبي –ص- وأصحابه والتابعين لهم في أقوالهم ومروياتهم، أم هو راجع إلى الرأي والاجتهاد. وقد اقترن علم تفسير القرآن الكريم في بلاد المغرب الإسلامي بالعلوم المتتابعة معه كعلوم قراءاته وتلاوته وضبطه ورسمه، لأن العلماء أدركوا أنه لا يصح التعامل مع كتاب الله العظيم إلا بطريق تجمع بين الرواية والدراية لتستقيم به الأفهام وتطمئن له العقول وتسكن به القلوب.
1- وفي إطار التعريف بأعلام التفسير بشمال المغرب وإبراز جهودهم في خدمة القرآن الكريم وعلومه، وقوفا على نماذج من مؤلفاتهم في ذلك، وتتبعا لمناهجهم في تفاسيرهم، تبرز مدينة تطوان كمعلمة علمية ومنارة فريدة في هذا الباب، تشهد لذلك مساجدها ومعاهدها التي لا تذكر إلا بذكر كراسي ومجالس التفسير بها، وقد تضمنت الورقة البحثية على ذكر أعلام أجيال متعددة من هؤلاء العلماء، أذكر منهم الآن:
كرسي سيدي أحمد بنتاويت الذي أقرأ التفسير في ثلاثة مجالس: بكلية أصول الدين وبدار الحديث الحسنية وبالجامع الكبير،
والقاضي سيدي محمد المرابط الترغي خطيب الجامع الكبير بتطوان وله تفسير للأحزاب الخمسة الأخيرة من القرآن الكريم الذي حرره وألقاه على أثير الإذاعة الوطنية بتكليف من وزارة الأوقاف المغربية،
ومحمد حدو امزيان عميد كلية أصول الدين سابقا والذي أقرأ هذا العلم في المعهد الديني العالي بتطوان ونشر بعضه في مجلات شتى..
هذا إلى جانب من كان قبلهم كسيدي أحمد الرشاي الذي كان يلقي دروسه بمسجد الربطة بتطوان،
وأحمد الرهوني الذي أقرأ التفسير بمسجد العيون،
وسيدي أحمد الورزيزي الذي كان إماما راتبا في مسجد لوقش بالمدينة العتيقة،
ثم كرسي الشيخ سيدي أحمد بنعجيبة الحسني – فخر المغاربة- وصاحب تفسير البحر المديد الذي لم يَنسج أحدٌ على منواله، وكان قد تلقى درس التفسير على أستاذه عبد الكريم بن قريش بمسجد العيون بتفسير الجلالين للسيوطي، فخلفه ابن عجيبة وألقى دروسه ببعض مساجد تطوان، منها: جامع القصبة وجامع الجعيدي ومسجد الساقية الفوقية وزاوية ابن ناصر وزاوية احنصل وزاوية ابن مرزوق وزاوية سيدي الصعيدي كما ذكر ذلك في فهرسته.
ونذكر كذلك كرسي سيدي محمد الحراق شيخ الطريقة الذي كان يدرسه بالجامع الكبير بين العشاءين،
وممن جاء بعدهم العالم المفسر عبد الوهاب لوقش الفقيه الصوفي والمفسر الكبير صاحب كتاب نصرة الإسلام،
ومحمد المرير أحد أعلام تطوان الكبار وشيخ العلوم بها، كانت له دروس في التفسير بالمعهد الديني بتطوان اعتمادا على أحكام القرآن لابن العربي، وكان له كذلك مجلس تفسيري ببيته مساء الجمع،
ثم كرسي محمد العربي الخطيب الذي كان يلقي دروسه بمساجد تطوان في شهر رمضان أو بمجالسه الأسبوعية الخاصة – على عادة بعض أهل العلم بحاضرة تطوان- وله في التفسير: فتح الرحمن الرحيم في فهم القرآن العظيم،
ومن المعاصرين ممن نحوا المنحى السلفي نذكر:
محمد تقي الدين الهلالي الذي أقرأ تفسير الدر المنثور للسيوطي في الجامع الكبير بتطوان،
وكرسي الشيخ محمد بوخبزة الذي أقرأ درس التفسير بمسجد العيون ومسجد ديور الحجر (حي الجامعة العربية) وبمعهد الإمام الشاطبي لتحفيظ القرآن وتدريس علومه،
وكرسي إسماعيل الخطيب الذي أقرأ كتاب الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، وله عليه ثلاث ختمات: في مسجد السوق الفوقي ومسجد الأمة ومسجد الحسن الثاني (كما بينته في كتابي عنه)،
وإن كان الغالب على هؤلاء الأخيرين طابع التفسير الدعوي حيث كانت دروسهم تضاهي دروس الوعظ والإرشاد الدعوي بالمشرق.. وغيرهم وغيرهم.
هذا وقد عرفت المدينة علمين اثنين فاقا بتأليفيهما في باب التفسير باقي المقدّمين آنفا؛ إنهما العالمين الجليلين سيدي أحمد بنعجيبة الحسني المتوفى سنة 1224هـ/1889م، والذي عرف بتفسيره البحر المديد، وسيدي عبد الوهاب لوقش المتوفى سنة 1314هـ/ 1922م، الذي ألف تفسير نصرة الإسلام..
وسأقتصر في هذه المداخلة على تتبع نبوغ العلم الأول سيدي أحمد بنعجيبة شيخ الطريقتين وعمدة الفريقين – كما يترجم له- وصاحب التفسير الكبير المسمى: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد، وذكر أهم ما اختص به تفسيره الإشاري، سواء من الجانب المصدري والأثري، أو من الجانب المنهجي والعناصر المرعية فيه؛ وجمعه بين العبارة والإشارة أو بين الظاهر والباطن أو بين الشريعة والحقيقة.
عُرف ابن عجيبة (1161-1224هـ) بكثرة تآليفه وتنوعها، فقد ألف في علم التفسير والقراءات وعلم الحديث والرجال والفقه والعقائد واللغة والسلوك، حظى بها بألقاب وأوصاف، تنم عن تقدير له، وعرفان بفضله، ومن مؤلفاته في التفسير والقراءات نذكر كتاب: “الدرر المتناثرة في توجيه القراءات المتواترة” وهو تأليف- كما قال- يشتمل على آداب القراءة، والتعريف بالشيوخ العشرة ورواتهم، وتوجيه قراءة كل واحد منهم، وكتاب: “الكشف والبيان في متشابه القرآن” كان الغرض منه جمع ما ورد في تفسيره البحر المديد من متشابهات القرآن، لكنه لم يكمله. ثم التفاسير الثلاث لسورة الفاتحة: الكبير والمتوسط والصغير.. وأخيرا موسوعته في التفسير: “البحر المديد في تفسير القرآن المجيد”؛ ويعتبر أضخم عمل ألفه ابن عجيبة، وبه عرف واشتهر بين أهل العلم وفضلائه.
يقول محمد بوخبزة: «وكتابه البحر المديد هو رابع كتاب له في مجال التفسير الصوفي الإشاري، سبقته تفاسير ثلاثة للفاتحة ابتداء من الصغير إلى الأوسط إلى الكبير، ثم إلى البحر المديد الذي جمع في أحشائه مقاصد ما تقدمه من تفاسير الصوفية، ولعله أكبرها حجما، ومنهجه فيه مرتب مهذب؛ يبدأ أولا بتفسير أهل الظاهر معتمدا على مشاهير المفسرين كالقرطبي وابن عطية وابن جزي من الأندلسيين، والبيضاوي والثعلبي وغيرهم، ومن تفاسير الصوفية للقشيري والورتيجيبي والتستري..»(13).
2- أصل الآن إلى الشطر الثاني من هذه المداخلة والمتعلق بالحديث عن منهج ابن عجيبة الإشاري في تفاسيره، ومنه أدلف إلى بيان منهجه في تفسير سورة الفاتحة، فأقول: عرفنا سابقا أن أقسام التفسير التي درج عليها العلماء تقع في قسمين: تفسير بالمأثور وتفسير بالرأي، وعنهما تفرعت أقسام أخرى ظهرت متأخرة عن القسمين الأولين؛ ومنها التفسير الإشاري، وهو الذي عرفه الزرقاني بقوله: «تأويل القرآن بغير ظاهره لإشارة خفية تظهر لأرباب السلوك والتصوف، ويمكن الجمع بينها وبين الظاهر المراد أيضا»، وزادنا الحجوي توضيحا لهذا حين اعتبر أن التفسير الإشاري لا يقتصر فيه صاحبه على ما أفيض عليه من إشارات باطنة بل يقر أيضا بالمعاني الظاهرة للآيات القرآنية لأنها المرادة أولا قبل غيرها فقال: «إذ لا أحد من صوفية أهل السنة والجماعة يدَّعي أن المفهوم بطريق الإشارة هو المراد من اللفظ المنزل دون المدلول الأصلي اللغوي، وكل من ادعى ذلك ضال مضل..» وزاده عبد الله بن الصديق وضوحا فقال: « وذلك أنهم حين يتكلمون على آية من القرآن يُقرُّون تفسيرها اللفظي كما ذكره المفسرون، ويأخذون منها بعد ذلك معنى إشاريا يتصل بما يفيضون فيه من مقامات وأحوال ومعارف وأسرار.. وهو بالنسبة للتفسير اللفظي كنسبة المفهوم إلى المنطوق..».
هذه الخطوات التي تجمع بين التفسير بالظاهر والتفسير بالإشارة وجدت بشكل واضح في تفسير البحر المديد لمترجمنا ابن عجيبة الذي قال عنها: «إن علم تفسير القرآن من أجلّ العلوم وأفضل ما ينفق فيه نتائج الأفكار وقرائح الفهوم، ولكن لا يتقدم لهذا الخطر الكبير إلا العالم النحرير الذي رسخت أقدامه في العلوم الظاهرة عربية وتصريفا ولغة وبيانا وفقها وحديثا وتاريخا، يكون أخذ ذلك من أفواه الرجال ثم غاص في علوم التصوف ذوقا وحالا ومقالا، بصحبة أهل الأذواق من أهل الكمال..» وذكر كذلك الأسباب الداعية إلى تأليفه فقال: «وقد طلب مني شيخي العارف المحقّق البوزيدي الحسني، عن إذن شيخه العارف الرباني مولاي العربي الدرقاوي الحسني، أن أضع تفسيرا على فاتحة الكتاب، يكون جامعا بين تفسير أهل الظاهر، وتفسير أهل الإشارة، ومن أهل الباطن، يكون مستوعبا للكلام على حسب المقام..».
وبما أن التفسير الصوفي الإشاري منه ما هو مقبول ومنه ما ليس بمقبول، فقد وضع العلماء الذين يؤيدون هذا النوع من التفسير شروطا يجب أن تتوفر فيه حتى يكون تفسيرا مقبولا، نجدها مبثوثة في جل كتب علوم القرآن والتفسير كالبرهان والإتقان والمناهل وغيرها، وجلها تأتي على الشكل التالي: -أن لا يكون التفسير الإشاري منافيا للظاهر من النظم القرآني -أن يكون له شاهد شرعي يؤيده -أن لا يكون له معارض شرعي أو عقلي -أن لا يكون تأويلا بعيدا سخيفا -أن لا يدَّعي أن التفسير الإشاري هو المراد وحده دون الظاهر، بل لابد أن نعترف بالمعنى الظاهر أولا..فإذا توفرت هذه الشروط في التفسير الإشاري كان مقبولا.
ويمكن إجمال طريقة ابن عجيبة في تفسيره حسب النقاط التالية:
1- يفسر المؤلف مجموعة من الآيات جملة واحدة (باعتبارها) مقطعا متكاملا أو وحدة تفسيرية تامة..
2- يقدم لتفسير السورة بحديث مختصر يبين فيه عدد آيات السورة وما ورد في فضلها وهل هي مكية أو مدنية وأسماءها.. ثم يقفي لوجه المناسبة بين السور..
3- يبدأ تفسيره للآي بذكر الجانب اللغوي والنحوي والإعرابي..ثم بعد ذلك ينتقل إلى تفصيل وتقرير المعنى الإجمالي للآيات..
4- يضمن المعنى الإجمالي سوق بعض القراءات القرآنية باختصار شديد والتنبيه إلى بعض اللطائف البلاغية..
5- الجنوح إلى الاختصار والتلخيص والإحالة على بعض الكتب..
6- وبعد انفضاضه من الفقرة الثانية ينتقل إلى الفقرة المتعلقة بباب الإشارة ويوليها اهتماما بالغا.. وكثيرا ما يخصصها للحديث عن مقام محدد من مقامات الصوفية تشير إليه الآية.. وتجميع بعض أقوال أرباب التصوف وعلم السلوك.. والنقل عن أبرز المفسرين الصوفية أمثال التستري والقشيري وغيرهما…
3- نموذج تفسير سورة الفاتحة لابن عجيبة: شرَع ابن عجيبة في تفسيره الكبير لسورة الفاتحة،- محور هذه المداخلة- فابتدأ بشرح معنى الاستعاذة، ثم انطلق في ذكر سورة الفاتحة، وأول ما ذكر ابن عجيبة في بدايتها إشارته إلى أنها مكية، وأن لها عشرة أسماء، الفاتحة والوافية والكافية والشافية، والسبع المثاني، وأم القرآن، وسورة الحمد والشكر، وسورة تعليم المسألة، وسورة الصلاة، وأساس القرآن..
ثم انتقل إلى البسملة ذاكرا خلاف الأئمة فيها؛ هل هي آية داخلة في السورة كما قال ابن عباس، أو غير داخلة فيها كما قال مالك أنها ليست آية لا من الفاتحة ولا من غيرها إلا من سورة النمل خاصة. كما تطرق لحكمها في الصلاة كذلك بين الحنفية والمالكية والشافعية.
وبعد تفسير الآيات الثلاث الأولى من سورة الفاتحة تفسيرا ظاهرا، قال في باب الإشارة: «لما تجلى الحق سبحانه من عالم الجبروت إلى عالم الملكوت، أو تقول: من عالم الغيب إلى عالم الشهادة، حمد نفسه بنفسه، ومجد نفسه بنفسه، ووحد نفسه بنفسه.. فقال في توحيد نفسه بنفسه مترجما عن نفسه بنفسه: (الحمد لله رب العالمين) فكأنه يقول في عنوان كتابه وسر خطابه: أنا الحامد والمحمود، وأنا القائم بكل موجود، أنا رب الأرباب، وأنا مسبب الأسباب لمن فهم الخطاب، أنا قيوم السموات والأرضين، بل أنا المتوحد في وجودي والمتجلي لعبادي بكرمي وجودي، فالعوالم كلها ثابتة بإثباتي ممحوة بأحدية ذاتي».
وعند تفسير الآية من قوله تعالى: (إياك نعبد وإياك نستعين)، ابتدأ بذكر أوجه إعرابها فقال: (إياك) مفعول (نعبد)، وقدم التعظيم والاهتمام به، والدلالة على الحصر، ولتقديم ما هو مقدم في الوجود وهو الملك المعبود، وللتنبيه على أن العابد ينبغي أن يكون نظره إلى المعبود أولا وبالذات، ومنه إلى العبادة لا من حيث إنها عبادة صدرت عنه بل من حيث إنها نسبة شريفة إليه، ووصلة بينه وبين الحق..). وقدم العبادة على الاستعانة ليتوافق رؤوس الآي، وليعلم منه أن تقديم الوسيلة على طلب الحاجة أدعى إلى الإجابة..
والعبادة: أقصى غاية الخضوع والتذلل، ومنه طريق معبد؛ أي مذلل.
والاستعانة: طلب المعونة، والمراد طلب المعونة في المهمات كلها أو في أداء العبادات.
والإشارة في تفسير هذه الآية قوله: لما تجلى الحق جل جلاله من عالم الجبروت إلى عالم الملكوت، وحمد نفسه بنفسه، تجلى أيضا وتنزل من عالم الملكوت إلى عالم الملك بقدرته وحكمته لإظهار آثار أسمائه وصفاته، فأظهر العبودية وأخفى الربوبية، أظهر الحكمة وأبطن القدرة، فجعل عالم الحكمة يخاطب عالم القدرة ويخضع له ويتعبد ويستمد منه الإعانة والهداية، ويتحرز من طريق الضلالة والغواية. فعالم الحكمة محل التكليف، وعالم القدرة محل التصريف..
ثم بين ابن عجيبة مقصود الله تعالى الأعظم من قوله تعالى: «اهدنا الصراط المستقيم)، وما هو المطلوب الأهم؛ وهو طلب الهداية والتوفيق إلى عين التحقيق فقال قلت: الهداية في الأصل: الدلالة بلطف، ولذلك تستعمل في الخير.. والصراط لغة: الطريق، مشتق من سرط الطعام إذا ابتلعه، فكأنها تبتلع السابلة، أي المارة به، وفي قراءتها يقول: (وقلبت السين صادا لتطابق الطاء في الإطباق، وقد تشم زايا لقرب المخرج.. والمستقيم: الذي لا عوج فيه، والمراد به: طريق الحق الموصلة إلى الله تعالى..».
يقول ابن عجيبة معقبا: «يقول الحق جل جلاله: معلما لعباده كيف يطلبونه، وما ينبغي لهم أن يطلبوا، أي قولوا: اهدنا أي أرشدنا إلى الطريق المستقيم الموصلة إلى حضرة النعيم، والطريق المستقيم هو السير على الشريعة المحمدية في الظاهر، والتبري من الحول والقوة في الباطن، أو تقول: هو أن يكون ظاهرك شريعة وباطنك حقيقة، ظاهرك عبودية وباطنك حرية، الفرق على ظاهرك موجود والجمع في باطنك مشهود..».
أما ختام الآيات الكريمة في قوله تعالى: (صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين)، فقال في توجيه لغتها: (قلت: (صراط) بدل من الأول، وهو في حكم تكرير العامل من حيث إنه المقصود بالنسبة. وفائدته التوكيد والتنصيص على أن طريق المسلمين هو المشهود عليه بالاستقامة على آكد وجه وأبلغه، لأنه جعله كالتفسير والبيان له.. و(غير المغضوب عليهم) بدل من (الذين) على معنى أن المنعم عليهم هم الذين سلموا من الغضب والضلال، أو صفة له مبينة أو مقيدة على معنى أنهم جمعوا بين النعمة المطلقة وهي نعمة الإيمان وبين السلامة من الغضب والضلال، وذلك إنما يصلح بأحد تأويلين: إجراء الموصول مجرى النكرة.. أو يجعل (غير) معرفة لأنه أضيف إلى ماله ضد واحد وهو المنعم عليه.
ثم ختم ذلك بالإشارة فقال: «الطريق المستقيم التي أمرنا الحق بطلبها هي طريق الوصول إلى الحضرة التي هي العلم بالله على نعت الشهود والعيان، وهو مقام التوحيد الخاص الذي هو أعلى درجات أهل التوحيد، وليس فوقه إلا مقام توحيد الأنبياء والرسل».
وأخيلاا قال: «هذه السورة جمعت معاني القرآن كلها، فكأنها نسخة مختصرة منه، ولذلك سميت أم القرآن، فالإلهيات حاصلة من قوله: (الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم)، والدار الآخرة من قوله: (ملك يوم الدين)، والعبادات كلها من الاعتقادات والأحكام الظاهرة التي تقتضيها الأوامر والنواهي من قوله: (إياك نعبد وإياك نستعين)، والمقامات وأسرار المعاملات الباطنة – تخلية وتحلية- من قوله: (اهدنا الصراط المستقيم)، والأنبياء وغيرهم من قوله: (الذين أنعمت عليهم)، وذكر طوائف الكفار من قوله: (غير المغضوب عليهم ولا الضالين). وختم تفسيرها بشرح لفظ (آمين) وهو بالمد والقصر مخففا، وتشديد الميم لغة. قيل: هو اسم من أسماء الله تعالى.. وقيل معناه: اللهم استجب، أو كذلك فافعل، أو كذلك فليكن. وليس من القرآن اتفاقا، ولكن يسن ختم السورة به لقوله عليه الصلاة والسلام: (علمني جبريل عليه السلام آمين عند فراغي من قراءة الفاتحة)، وقال: إنه كالختم على الكتاب..».
قال رحمة الله عليه في ختام تفسيره: «هذا آخر شرح الفاتحة بحول الله وقوته، وهي قابلة لأكثر من هذا أضعافا مضاعفة، لكن معرفة الأصول تغني عن كثرة النقول، ومن منَّ الله عليه بعلم الأذواق استغنى عن علم الأوراق».
إن ما يمتاز به تفسير ابن عجيبة بصفة عامة، أنه ظل ملتزما بتقرير التفسير بالظاهر أولا، ثم الانتقال بعد ذلك إلى بيان ما قد تومئ إليه الآيات من إشارات وإيحاءات. فابن عجيبة يجمع بين الظاهر والباطن في فهم نصوص الكتاب العزيز، ويعتبر أن التفسير بالباطن مكمل ومساعد للتفسير بالظاهر، فلا هو اقتصار على التفسير بالمأثور، ولا هو انحياش للتفسير بالرأي، بل هو مجتهد في الجمع بينهما، مع التمكين للجانب الإشاري، الذي يقول عنه: «وتفسير أهل الباطن لا يذوقه إلا أهل الباطن؛ لا يفهمه غيرهم ولا يذوقه سواهم ولا يصح ذكره إلا بعد تقرير الظاهر»، والحمد لله رب العالمين.
منتصر الخطيب