تذهب بي كلمة “جواز” إلى سنين بعدة، كانت فيها الكلمة تشبه في خطابنا ومعجمنا الدر المكنون، و كان “الجواز” إذا ارتبط ب”الأخضر” قل و عز حيث لا يظفر به من الباحثين عنه ب”الريق الناشف” إلا ذو حظ عظيم. كان متمنعا كالجميلات المصونات؛ تحوم حوله هالة يصعب التمييز فيها بين الأحلام والحقائق و الاستيهامات والوقائع.
الضفة الأخرى التي لا يفصلنا عنها إلا بحر متوسط كانت و لا تزال تجذب ملايين الشباب بسحرها ونمط حياتها الاستهلاكي المرفه. من قبل كان الجواز الأخضر يكفي للالتحاق بهذا العالم المشتهى، وحينما فتح الباب على مصراعيه للحصول على الجواز ، فرضت التأشيرة، فضاعت قيمة الأخضر، و أطلق عليه شعبيا جواز “حدو طنجة”، و فيما بعد لم يعل على جواز البحر بقوارب الموت جواز، بل إن أكثر المغامرين يرمون بجوازاتهم الرسمية حتى لا تعرف هويتهم بين الهويات التائهة.
في زمن كوفيد ظهر إلى جانب الجواز القديم الذي يخول عبور الحدود والتنقل بين الدول والقارات والذي يبقى عنوانا راسخا على الهوة التي تفصل بين العالمين المتقدم والمتأخر في العصر الحديث، جواز آخر إضافي يسمح بحرية التنقل داخليا و خارجيا مع الجواز القديم أو معه بالإضافة إلى التأشيرة.
“جواز كوفيد” سبقه فرض رخص التنقل لتقييد حركة البشر، وبالتالي حركة الفيروس الذي يسري بين الناس كالنار في الهشيم في حالات الذروة و لا يمكن الحد من سريانه إلا بتقييد حرية من ينقلونه.
هذا الجواز حمل في بعض الدول تسمية “الجواز الصحي” و في أخرى “جواز التلقيح”، ورغم اختلاف التسميتين فإن الدافع واحد هو حمل الناس على التلقيح من أجل بلوغ المناعة الجماعية التي رسمت كهدف من طرف السلطات الصحية للدول، ومع ظهور متحورة دلتا نأى الهدف، و مع نقص المناعة بسريان الزمن دخل شيطان الشك في اللقاح و فقد التلقيح معناه عند المشككين و أصحاب “نظرية المؤامرة” وتيارات فوضوية…
هذا الجواز لم يحصل عليه إجماع منذ البداية، وكلما مر الوقت و انفرجت الأحوال مؤقتا، اتسعت رقعة الرافضين للجواز، ولم تنحسر دائرة الرافضين للتلقيح بل امتدت حتى إلى من انسل إليهم هاجس الشك من الملقحين بالجرعتين لتذبذب شرح الأسباب التي تكمن وراء إضافة الجرعة الثالثة، ولغموض الآفاق بالنسبة لمسلسل الجرعات.
الحقيقة هو أن لا أحد يعرف لأن هذا الفيروس المستجد أبطل الحقائق، فحتى المتمكنين من العلماء حذرون والعالم يهيمن عليه الخوف والترقب لأن دهاء كوفيد و ما يخلقه من مفاجآت حير العالم وأدخله في دهليز التجريب المعتم.
فرض الدول للجواز، رغم تبرير الطوارئ الصحية و أسبقية الحق في الحياة والسلامة الصحية على غيرهما من الحقوق والحريات، أثار ردود فعل غاضبة اختلط في معمعانها إلى جانب الرافضين للتلقيح بداعي تفضيل المناعة الطبيعية أو نقد الترخيص للقاحات قبل الأوان، المدافعون عن الحريات و الناقمون على تجاوز الدولة لسلطتها، و خليط غير متجانس من الثائرين على الأوضاع.
كل يدعي أن له الحق. الدولة تقول إن حماية المجتمع من مسؤولياتها العظمى، و الجواز هو وسيلة من الوسائل لحماية المجتمع من وباء قاتل، متعب للمنظومات الصحية، معرقل للاقتصادات؛ وقد يعود لشل الحياة إذا تهاونا في صده، والرافضون للجواز يردون على الدولة أن التلقيح لا يحمي بالكامل ولا يمنع الفيروس من الانتقال و أن له أضرارا على صحة كثير ممن أخذوه، وأن ليس من حق الدولة أولا و أخيرا أن تفرضه على الناس بالإكراه، و أن حرية الاختيار هي الأساس.
في ظل هذا التصادم، ما الحل؟، من يقرب بين المعسكرين؟.
ما دام كلا الطرفين يسعى إلى الخير، فلا مندوحة من سلوك سبيل الإقناع، الصراحة، الوضوح، الشفافية، الإشراك، الاحترام المتبادل، وتغليب صوت الحكمة؛ فلا أحد له مصلحة في أن يكون الجواز عامل توتر وقلق زائد، في حين كل المجتمعات تنتظر، ويدها على قلبها، جواز هذا البلاء الكوفيدي بسلم وسلام، ودون أعراض جانبية إضافية، و بأقل الخسائر…
لقد تعبنا من أجل لحظة اندحار الوباء…
عبد الحي مفتاح