حتّى لا ننسى ؟؟؟ !!!
ملحمة (ادْهار أوباران) الأسطوريّة
*بدْءاً: وقفة للتأمّــــــــل؟!
يوم فاتح يونيو حلّت الذكرى الواحدةُ بعد المائة من ملحمة (ادْهار أوباران) الأسطوريّة. وككلّ عامٍ مرّت ذكراها في تجاهل رهيب، يثير كلّ من سؤال؟! وصمت مريب، أشبه بصمت أهل القبور، يثير أكثر من فضول؟! فلا ندوات علميّة، ولا مؤتمرات بحثيّة، ولا حتّى ذكر عابر بالمناسبة في النشرات الإخباريّة الرسميّة، كأنّ الأمر لا يعنينا في شيء. في المقابل نجد الاحتفاءَ بالتّفاهة ورموزها، والتصفيقَ لها حيثما ولّينا وجوهنا، يمنة ويسرة.
وممّا يحُزّ في النفس أكثر، ويمزّق نياطَ الفؤاد حسرةً وكمَداً، أن نُلْفيَ الطرف الآخر المنهزم في هذه الملحمة، التّي خطّها أبناءٌ خلصاء لهذا الوطن العزيز بمداد الفخر والاعتزاز، أبناء أصلاء عشقوا هذا الوطن الممتدّ، بثراه وثريّاه، بتِبره وترابه، حتّى الهيام، عشقاً أبديّاً خالصاً لا تشوبه شوائبُ المنافع السياسيّة بتجاذباتها ودسائسها، ولا المصالح الاقتصاديّة بصراعاتها وتيّاراتها. يقف أبناؤه وحفَدته كلّما حلّت الذكرى السنويّة لكارثة (أنوال) وقفةَ إجلال وخشوع، وتأمّل واعتبار، دون مركّب نقص ولا خجل، صوْناً للذاكرة التاريخيّة، بآلامها وأمالها، وانتصاراتها وانكساراتها…ويقومون بزيارة تفقّديّة إلى عين المكان، يسترجعون ذكرياتها الأليمة، ويصلّون على أرواح أجدادهم وآبائهم الذين سقطوا هناك.
في حين كان حريٌّ بنا؛ نحن حفدة وأبناء المنتصرين أن يحتفوا بهذه المناسبة ويحتفلوا، ويقفوا وقفة اعتزاز وافتخار وشموخ لهؤلاء العظماء الشوامخ. ولكن لا حياةَ لمن تنادي؟!
فكفانا جحوداً وتشكيكاً، وتبخيساً وتخويناً، ولنُعِد الاعتبارَ لتاريخنا ورموزه الصادقين، بدون تأويلات إيديولوجيّة، ولا خلفيات سياسيّة بالية تجاوزها الدهرُ، ولنعلم ألاّ مستقبلَ لأبنائنا، ولا حاضرَ لنا بدون استحضار واعٍ وبنّاءٍ لتاريخ أسلافنا. وواهمٌ من يعتقد أنّ نّ أنّالتاريخَ ليس إلاّ أحداثاً ماضويّةً مرّت وانقضت، بل هو سيرورةٌ نسَقيّةٌ لا تنفصم عراها، ولا تتجزّأ مكوّناتها، وامتدادٌ حيٌّ متداخلٌ متفاعلٌ في آصرة جدليّة بين الأمس، واليوم، والغد، فلا مستقبلَ بدون حاضر، ولا حاضر بدون ماضٍ.
*ملحمة (ادْهار أوباران) الأسطوريّة: السياقُ والمآل.
جاءت معركة (ادْهار أوباران) في سياق المحاولات الإسبانيّة لتحقيق مخطّطها الاستعماريّ للتوسّع نحو الداخل، والتغلغل في منطقة الريف الشرقيّ وصولاً إلى خليج الحسيمة بالريف الأوسط برّاً، وربطه بثغر مليلية المحتلّ منذ خمسة قرون، وبسْط نفوذها على كامل المنطقة الممتدّة بينهما. وفعلا بدأت في تنفيذ مخطّطها التوسّعيّ، والذي أطلقت عليه اسمَ (بقعة الزيت)[1]، وشرعت تزحف رويدا رويدا نحو هدفها المنشود. وزادتِ الظروفُ الطبيعيّةُ القاسيةُ؛ من قحط وجفاف ومجاعة، الطينَ بِلّةً، فأهلكتِ الزّرعَ والضّرعَ، وأنهكتِ البلادَ والعبادَ، ممّا عجّل، بدرجةٍ غير متوقّعةٍ، من وتيرة الاجتياح، وهذا ما يؤكّده المندوبُ السامي الإسبانيُّ الجنرال بيرينكر (Brenguer) نفسُه في رسالة بعث بها إلى حاكم مليلية الجنرال سِلْفِستري (Manuel Fernandez Silvestre) يقول فيها: “أتصوّر أنّ وضعَ القبائل التّي دخلتَها يسودُها الجوعُ والفقر، وهذا هو الأمرُ الذي مكّن قواتِنا من التقدّم”[2]. وقد تمكّنت القوات الإسبانيّة الغازية، فعلاً، من بسْط سيطرتها على كَبْدانة والناظور وسلْوان[3] …دون مقاومة أهليّة تُذكر، وكان هذا كالهدوء الحذِر الذي يسبق العاصفةَ الهوجاء. وواصلت تغلغلَها في عمق المنطقة، وهي في قمّة الانتشاء والزهُوّ، إلى أن وصلت إلى أنوال (أونْوار) التي تبتعد بحوالي مائة كيلو متر عن مليلية، يوم 15 يناير 1921، حيث تمركزت وأقامت معسكرَها، واتّخذت منه مركزاً رئيساً لعمليّاته العسكريّة. فأصبحت بذلك القواتُ الإسبانيّة على مشارف قبيلة (بني ورياغل)[4]، قلب الرّيف الأوسط، والتي عدّها المؤرّخ والأنثروبولوجيّ الأمريكيّ (دافيد مونتغمري هارت) (Montgomery Hart David) “الطبل الذي يرقص حوله كلّ الرّيف”[5]، وأصبح حلُمها المؤجّلُ قابَ قوسيْن أو أدنى من التحقّق. وهنا استشعر الورياغليّون بالخطر الداهم، وبادروا إلى التحرّك العاجل بحزم وصرامة قبل فوات الأوان، فسارع القائد (محمّد بن عبد الكريم الخطّابي) إلى اتّخاذ ما يلزم من الاستعدادات والترتيبات؛ من عقد المؤتمرات لدعوة القبائل إلى التعبئة العامّة، وشحْذ الهمم للدفاع عن الأرض والأعراض[6]، وتأسيس رباط للمجاهدين بــالقامة (ارْقامث)[7]، وحفر الخنادق…وسعى أوّلاً إلى فتْح قنوات التفاوض السلميّ قبل الاصطدام العسكريّ، وترْك باب الحوار مُوارباً، والأصابع على الزناد تحسّباً لكلّ الاحتمالات الممكنة، وفعلاً، فقد كانت بينه وبين الكولونيل (موراليس) (Morales) مراسلاتٌ كتابيّةٌ عديدةٌ، ومفاوضاتٌ سيّاسيّةٌ مباشرةٌ في هذا الشأن[8]. إلاّ أنّ كلَّ هذه المساعي السلميّة الحثيثة من أجل تفادي الأسوأ جوبهت بالتعالي والاستخفاف من طرف سلفستري (Silvestre)، الذي كان يتبجّح بأنّه قائدٌ لا يُشقّ له الغبارُ في سُوح الوغى، ولم يسبق له أن ذاق علْقَمَ الهزيمة قطّ في أيّ من معاركه التي خاضها سواء في كوبا أو في المغرب…لم يطمئن المندوبُ السامي الإسبانيّ الجنرال بيرينكر (Brenguer) قَطُّ لخطّته الاستعجاليّة المتهوّرة، ولا لتطميناته المـُغالية في التفاؤل الزائد، وأعطاه أوامرَ صارمةً بإلغاء مؤقّتٍ لجميع الخطط الخاصّة بالتقدّم في أراضي تمسمان في اتّجاه خليج الحسيمة، وتوحيد الجهود لـ “القضاء أوّلاً على المقاومة في الجهة الغربيّة، وإلقاء القبض على الريسوني، ثمّ التوجّه نحو الشرق، كلّ من جهته، للوصول في آنٍ واحدٍ نحو الحسيمة”[9]، إلاّ أنّ المندوبَ السامي كان في وادٍ، وحاكم مليلية كان في وادٍ آخرَ، فهذا الأخير كان يستغلّ قربه من الملك الإسبانيّ ألفونسو الثالث عشر (Alfonso XIII)، ويتلقّى منه الأوامر مباشرة لتنفيذ رغبته الجامحة في التوسّع لإعطاء إسبانيا مركزاً ممتازاً في الساحة الدوليّة[10].
وهكذا لم يأخذ سلفستري لا بتحذيرات الخطّابي بعدم تجاوز أنوال وعدِّه خطّاً أحمرَ، ولا بنصيحة بعض الأهالي الخَوَنة المتعاونين معه بعدم المغامرة أكثر، والاستهانة بتهديدات الورياغليّين الصارمة، فهم رجالٌ لا يعرف الهزْلُ سبيلاً إلى شَغاف قلوبهم إذا جدَّ جِدُّهُم، وفي الليلة الليْلاء لا يُفْتَقدُ بَدْرُهم، ولا بأوامر رئيسه بيرينكر وتعليماته الحازمة بالتوقّف الفوريّ على محمل الجدّ، ضارباً كلّ هذا عرض الحائط، مُصيخاً إلى كلّ أصوات الحكمة والتعقّل، والتريّث والتبصّر بأُذْنٍ من طين، وأخرى من عجين.
وفجر يوم فاتح يونيو1921، والذي صادف 26 خلت من رمضان[11]، والمجاهدون صيامٌ[12]، وجّه سلفستري جيشاً مسلّحاً قوامه 6000 جندي، بقيادة الكولونيل فييار (Villar)، للاستيلاء على مركز (ادهار أوباران)، فتمّ له ذلك بكلّ يُسر، ودون إطلاق أيّة رصاصة من طرف المجاهدين، فبنى هناك “قشلة”، وسوّرها، وسيّجها بالأسلاك الشائكة حمايةً لها من أيّ رد فعل ريفيّ محتمل، وترك هناك حامية مكوّنة من 300 أو500 جندي، على اختلاف الروايات الإخباريّة والمصادر التاريخيّة، تحت قيادة قبطان سالا فرانكا ([13](Juan Salafranca Barrio. إلاّ أنّ هذه الفرحةَ العارمةَ لم تدم طويلاً، إذ سرعان ما نغّص عليهم المجاهدون الريفيّون نشوةَ الانتصار، فما كادت تمضي سويعاتٌ قلائل[14]حتّى نظّموا صفوفَهم، وتَعْدادُهم لا يتجاوز 300 نفَر، في “حرْكة” مضادّة استهدفت الموقع المحصّن، توّجت باقتحامه وتطهيره بعد اشتباكات بطوليّة مستميتة، كما يروي العديد من شهود عيان، فقُتل أغلب من كان بداخلها، ومن كُتبت له النجاةُ منهم، وهم قلّةٌ قليلةٌ، فرّ بجلده، وأطلق ساقيْه للريح نحو مركز أنوال، أو مرسى (سيدي ادْريس). ويؤكّد هذا شهادةُ شاهِد عيانٍ إسبانيٍّ، فحواها: “إنّه من بين ثلاثمائة رجل الذين كانوا بأبران لم يستطعِ الهروبَ إلاّ اثنان وسبعون، التجأ البعض منهم إلى مركز سيدي ادْريس، والبعض الآخر إلى أنوال، والكلّ في حالةٍ يُرثى لها”[15]، في حين ذكر (محمّد أزرقان) في مذكّراته، بأنّه: “مات جميعُ العساكر الإسبانيّة الذين حضروا هناك مع قبطانهم”[16]. بينما ارتقى من المجاهدين أربعةُ شهداء[17].
وأسفرت هذه المعركةُ الخاطفةُ عن تكبيد العدوّ خسائرَ فادحةٍ في الأرواح والعتاد؛ فغنموا أربعةَ مدافعَ خفيفةٍ من عيار 5، ومئاتٍ من القنابل والبنادق، فضلاً عن كمّيّات كبيرة من الطعام والدواء والخيام والنقود[18]. يقول (محمّد بن عبد الكريم الخطابي) في (مذكّرات لارينيون): ” فتسارع القومُ إليه (يقصد ادهار أوباران) صباحاً، وأخذوا المركز بما فيه، وحازوا ما وجدوه فيه من الذخيرة قرطوساً وسلاحاً؛ وفي جملتها بطريّة من المدافع الجبليّة “[19].
وكانت هذه المعركةُ أوّلَ مواجهة عسكريّة بين الخطابي ورجاله على سلفستري (Silvestre) المتعجرف، الذي “شعر لأولّ مرّة في حياته بالهزيمة”[20]. وانتهت بانتصار الريفيّين ودحْر الغزاة، وأوّلَ شرارة لحرب الريف التحريريّة الثالثة (1921-1926)، وقد رفع هذا النصر معنوياتِ المجاهدين، وزادهم حماسةً وثقةً بالنفس، واشتدّت سواعدُهم بانضمام كثير من القبائل الريفيّة المتردّدة إلى صفوفهم، بحيث صارت تتقاطر على معسكر المجاهدين، زرافاتٍ ووُحْداناً، في مواكبَ ضخمةٍ، وسيولٍ بشريّةٍ لا تكاد تنقطع، وسرعان ما أصبح عدد أفراد (الحرْكة) يقدّر بحوالي أربعة آلاف[21]. وبعثت القبائل البعيدة عن خطّ المواجهة برسائل التأييد والمساندة؛ جاء في إحداها: “كنّا فقدنا الأملَ في رؤية رجل يَرْدَعُ الإسبان، ورغم ذلك فهاهم أبطالُ الإسلام قد أبانوا عن أنفسهم”[22]. ونتيجةً لهذا فقد أنزل القائد ابن عبد الكريم (السّي مُوحْنْد) جنده من معسكر القامة (ارْقامث) إلى (أَمْزاوْرو) قرب خطّ التماس، على بعد خمسة كيلو مترات من المعسكر الحصين الرئيس أنوال (أونْوار)، وفي مواجهة ربوة (إغْرِيبْن)، التي كان بها موقع إسبانيّ متقدّم[23]، وعزّزه بالرجال الأشاوس المتهافتين على نيل إحدى الحُسْنَيَيْن؛ عشّاق الرّدى في سبيل حياة حرّة كريمة، الذين وصفهم الشاعرُ المغربيّ (محمّد الحلوي) في قصيدته (بطل الريف) فأجاد، بقوله[24]:
فالتفَّ حوْلَك منهــــــــم كـــــــــلُّ قَسْوَرةٍ يعانقُ المــــــــــــــــــوْتَ في شَــــــــــــــــوْقٍ وفي نهَـــــم
يسْري إليهـــــــــــــــم وفي ألْحاظِـــــــــــــه شَرَرٌ وفي يــــــــديْه منايـــــــــــــــــاهم بــــــــــــــــلا لَجَـــــــــــــــــــــم
كمْ سَطروا بالدم المصْبوب من مثَلٍ وكمْ محَـــــــــــوْا به من عــــــــــــــــــــــــــار ومــن غَمَم
إنّ الأباةَ أباةُ الريـــــــــــــــــــــــــفِ مفخـــــــــــرة على الزّمـــــــــــــــــــان الذي يشكو من العَقَم
أعْظِمْ بهم من مغاويرَ كتبــــــــــــت بهم في صفحة المجد ما استعصى على القلَم
فضلاً عن الأسلحة الجديدة التي غنمها إيذاناً ببدء ساعة الحسم التّي ستصنع التاريخ. وصافرةً لبداية البداياتِ لصيف قائظٍ ثقيلٍ، شديدِ القيْظ واللظى، لا كباقي الصُّيوف، مرّ على الأعداء كالقرون.
*لمّا قال الريفيّون الأحرارُ كلمتَهم، وأسمعوا العالمَ صوتَهم.
اليوم ،فاتح يونيو، تحلّ الذكرى الواحدةُ بعد المائة من ملحمة (ادهار أوباران)، باكورة الملاحم البطوليّة التي خاضها الريفيّون الأحرار بقيادة (محمّد بن عبد الكريم الخطّابي) ضد الغطرسة الإمبرياليّة، والعنجهية الأوروبيّة، وخلّدت ذكراهم في العالمين، والّتي مرّغت أنفَ سِلْفِستري (Silvestre) المتشامخ وشاربيْه الطويلين المعقوفين، وكل َّكبرياء التاج القشتاليّ في أوحال العار والهزيمة، وأطاحت بنياشين جنرالاته وقادته المتخمة، وأوسمتهم العسكريّة اللامعة على الثرى، فداستها جيادُ الشهامة والأنَفة بحوافرها الفولاذيّة التي لا تقهر.
سِلْفِستري (Silvestre) هذا، المزهوُّ بنفسه، والمستخفُّ بخصومه، أشار يوما، وهو بجزيرة النكور المحاذية لساحل بني ورياغل، بمعيّة المقيمِ العامّ الإسبانيّ الجنرال بيرينكر (Brenguer)، وبعضِ أعيان المنطقة المتعاونين معهم[25]، إلى بيت طينيٍّ متواضعٍ منتصبٍ بين الآكام، يعانق النجوم، يتراءى له من بعيد، فيبدو للناظرين كَوميض برقٍ خافت، سرعان ما ازداد سناهُ اشتداداً وامتداداً حتّى عمّ الآفاق سطوعاً وتوهّجاً فأعمى مُقَل الأعادي الدخلاء، وأنار سُبل الأحرار الأصلاء؛ إنّه بيت (ابن عبد الكريم الخطّابي) فقيه (الموروس) الساذج الحقير كما كان يحلو لسلفستري أن ينعته، ويصف رجاله بــ(جنود التنورة) إمعاناً في الاستخفاف والازدراء[26]. فأقسم بشرفه العسكريّ أن يحتسيَ، قريباً، كؤوس الشاي المنعنع في فِنائه، ويستظلّ تحت سقيفته فور وصوله إلى خليج الحسيمة مترجّلاً أو ممتطياً صهوة جواده، فيداعب بحذائه العسكريّ الخشن رمالَ شاطئ أجدير الذهبيّة. وأنّه سينتهك وداعةَ هذه الأرض الطيّبة وعذريتَها الطاهرة عنوة، مُلوّحاً بإيماءة بهلوانيّة استفزازيّة ذاتِ إيحاءات جنسيّة أخجلت الحاضرين، وأصابت كرامتهم -أو ما تبقّى منها على الأقلّ- في مقْتل…ويحقّق بذلك لإسبانيا حلماً مؤجّلاً أقضّ مضاجعهم سنين عديدة، ويرتقي بنفسه سلّم السؤدد الـمُمَجّد.
ويا لسخرية الأقدار ؟! فبعد أيّامٍ قلائلَ تحقّق له ما رامَه، كأنّ السماءَ أبت إلاّ أن تشاركه وجدانيّاً أمانيه، وألاّ تحنثه في يمينه، فسقته وجنودَه كؤوساً وقواريرَ حتّى الثُّمالة، ولكن هذه المرّة ليس شاياً منعنعاً في بيت (الفقيه الساذج) كما كان يمنّي النفس، بل جرّعته سمّاً زُعافاً وعلقما ًفي وِهاد ونِجاد ادْهار أوباران، وإغريبن، وأنوال (مثلّث الموت). وقديما قال حكيمُ الشعراء وشاعرُ الحكماء (المتنبّي) في رائعته النونيّة:
ما كلّ ما يتمنّى المرءُ يدركه تجري الرياحُ بما لا تشتهي السفنُ
والتّي مطلعها: بِمَ التعلُّلُ لا أهلُ ولا وطنُ ولا نديمُ ولا كــــــــــــــــــــــأسُ ولا سكَنُ.
وبالمناسبة، فهذا المطلعُ الاستهلاليُّ للمتنبي يذكّرنا ببيتين شعريٍّين لــ (محمّد الحلوي)، ضمّنهما قصيدتَه الميميّةَ المذكورةَ آنفاً، يتغنّى فيهما بـــ (يوم أنوال) الخالد، ويتماهَيان معه إلى حدٍّ كبيرٍ، وإنْ كان السياقُ غيرَ السياق، يقول فيهما[27]:
جرّعتهم أكْؤُساً بالموت مُتْرعةً بلا نديمٍ ولا ســـــــــــاقٍ ولا نغَم
غادرتهم يومَ أنْـــــــــــــــــــــــــــوال ممزّقةٌ أوْصالهم بين مصْروعٍ ومنهزم
فكأنّ الشاعرَ المتنبّي، في هذا المطلع، تنبّأ واستشعرَ، منذ أمدٍ عباسيٍّ بعيدٍ، أحوالَ سلفستري الشعوريّة والوجدانيّة، وظروفه النفسيّة وهو في نزْعه الأخير يندب حظوظه العاثرة، ويصارع أيادي الـمَنون الغادرة، ويلقى نهايته التراجيديّة في تلك الفلوات الماكرة.
وقد تباينتِ المصادرُ التاريخيّةُ في شأن هذه النهاية الـمُخزية؛ بين من قالت بانتحاره، وبين من تبنّت فرضية موته متأثّراً بجروح بليغة أصيب بها خلال الاشتباكات، ويؤكّد هذا الكاتب الإسبانيّ (بارطوس) بقوله: “لا يمكن لأحد أن يؤكّد بأن سلفستري مات برصاصة العدوّ، أو إنّه انتحر بطلقة ناريّة من مسدّسه”[28]، ويصرّح زعيم المقاومة الريفيّة (محمّد بن عبد الكريم الخطّابي) في مذكّراته (مذكّرات ماثيو): “أمّا مقتل الجنرال سلفستري في هذه المعركة فلا أدري كيف وقع ذلك تماماً…”[29]. في حين يؤكّد في (مذكّرات لارينيون) بأنّه لم يعثر على جثّته، ووجد فقط جثّة الكورونيل موراليس (Morales) فسلّمها لعائلته التي طلبتها[30].
*ملحمة ٌكانت بدايةَ البداياتِ لصيف قائظ ثقيل، شديدِ القيْظ واللظى مرّ على الأعداء كالقرون، وفاتحةَ الفتوحاتِ لسلسلة ممتدّة من الانتصارات المتلاحقة في (سيدي ادْريس)، و(سيدي ابْراهيم)، و(إغْريبْن)، و(ادْهار بومْجّان)؛ التّي تغافلت عنها الكتاباتُ التاريخيّة المحليّة، ما عدا شذراتٍ متناثرة هنا وهناك، لا تُرْوي الغليلَ، ولا تُشْفي العليلَ، ممّا أثار استغراب المؤرّخ المدقّق المرحوم: (محمّد ابن عزّوز حكيم)[31]، وملحمة (أونْوار)، أو معركة أنوال الكبرى، كما تسمّيها الباحثةُ الإسبانيّة (ماريا روسا ذي مادارياكا) (Maria Rosa De Madariaga) ، أو كارثة أنوال (El desastre de Annual) حسب كثير من الكتابات الإسبانيّة نظرا لتداعياتها الخطيرة، والتّي بعثرت كلّ الأوراق، وقلبت كلّ الموازين، وخلخلت كلّ المقاييس. يقول المؤرّخان (لويس برتراند) (Louis Bertrand) والسير (تشارلز بتري) (Petrie Charhes) في كتابهما (تاريخ إسبانيا) (1934): “هكذا كانت كارثةُ أنوال التي قيّض لها أن تؤثّرَ في تاريخ إسبانيا تأثيراً بالغَ العمق، ولو أنّ هذه الكارثةَ لم تقع، لما قامت الدكتاتوريةُ، ولو أنّ الدكتاتوريةَ لم تقم، لما قامتِ الجمهوريةُ الثانية، وبالتالي ما وقعت الحربُ الأهليّة…”[32]. ووصفها (دافيد م. هارت) (David M. Hart) في موسوعته الاثنوغرافيّة والتاريخيّة (أيث ورياغر) بقوله: “…أسوأُ كارثة شهدتها قوّةٌ استعماريّةٌ ما في أيّ بقعة من المعمور في مواجهتها لحرب عصابات”[33]، وكان أوّلُ من أطلق هذا الوصفَ عليها المقيم العامّ الإسبانيّ بتطوان الجنرال (برينكر) (Brenguer) في تصريحٍ له عقب وصوله إلى مليلية يوم 23 يوليوز1921، بقوله: بأنّ “هذه هي أعظمُ كارثة عسكريّة عرفتها إسبانيا في تاريخها”[34].
وقد تركت هذه المعركةُ/الكارثةُ، فعلاً، جروحاً غائرةً في الذاكرة الجمعيّة الإسبانيّة لن تندملَ أبداً، وستبقى على مرّ العصور وصمةَ عارٍ على جبين إسبانيا الاستعماريّة، ومعرّةً في صفحات تاريخهم الحديث…وفي نفس الآن مفخرةً خالدةً لن تمحوها السنون خُطّت بحبر من ذهب على أديم هذه الأرض الطيّبة المستعصية دوْما على الأغْراب الدخلاء.
ولم يكن لهذه الهزيمة تأثيرٌ على إسبانيا فحسب، بل إنّها زلزلت عروشَ الدول الإمبريّاليّة الكبرى الأخرى كألمانيا وإنجلترا وفرنسا، وتَلْتَلَتْ هيئاتِها الحكوميّة، وأجهزةَ أركانها الحربيّة، وقد بدا ذلك جليّاً في صحافتها الوطنيّة وتقاريرها الرسميّة، إذ إنّها تخوّفت من امتداد هذا المشروع التحريريّ التحرريّ إلى باقي المستعمرات العربيّة الإسلاميّة، ورأت فيه خطراً محدقاً مباشراً على سياساتها التوسّعيّة، و”تهديدا خطيراً للحضارة والسلام في الغرب”[35]، وهذا ما عبّر عنه صراحةً المقيمُ العامّ الفرنسيّ المارشال ليوطي (Luis Hubert Lyautey) بقوله: “لن نسمحَ له (أي عبد الكريم) بأن يكون مركزَ جذبٍ لكلّ من يطمح إلى استقلال الغرب المسلم”[36].
*ملحمةُ (ادهار أوباران) كانت الشرارةَ الأولى لحرب الريف التحريريّة الثالثة (1921-1926)، بعد الحربين الريفيّتين الأولى والثانية (1909-1912) بزعامة الشريف (محمّد أمزيان) في الريف الشرقيّ، الذي أذاق الاحتلالَ الإسبانيّ الويلاتِ، وحقّق انتصاراتٍ تلو انتصارات، وستبقى معركةُ (إغْزار نْ وُشْن) أو (وهْدة الذئب) موشومةً في الذاكرة الجماعيّة الإسبانيّة بالمرارة والمهانة. وقبل هذا وذاك لا ننسى مقاومة (سيدي ورياش) 1893… فتاريخُ أهل المنطقة مع التدخّل الإيبيريّ تاريخٌ مديدٌ موصولُ الحلقات، حافلٌ بالإنجازات والبطولات. إذ كثيراً ما آلَتِ المنطقةُ إلى سُوح الوغى التبس فيها الزئيرُ والصهيل بالصّليل، والتحم في سيمفونية تراجيديّة!! وشوهدت الليوثُ وهي تمتشقُ الحُسومَ المهنَّدة، وتمتطي صهواتِ جيادٍ مُسوَّماتٍ، تثير النقْع ولا تخشى الـمَنون، في مشاهدَ غرائبيّةٍ عجائبيّةٍ تثير أكثر من فضول!! وينطبق عليها وصف الشاعر الجاهليّ صاحبِ المعلّقة الشهيرة: “هلْ غادَرَ الشُّعراءُ مِنْ مُتَرَدَّمِ”؛ (عنْتَرة بن شدّاد العبْسيّ) في قصيدة بسيطيّة بائيّة فخْريّة رائعة:
أُسُودُ غابٍ ولَكِنْ لا نُيوبَ لهم إلاّ الأَسِـــــــنَّةُ والهِنْدِيّــــــــــــةُ القُــــضْبُ
تَعْدو بهم أَعْوَجِيّاتٌ مُضَـــــــــــمَّرةٌ مِثْلُ السَّراحينِ في أعْناقها القَبَبُ
*ملحمةٌ كانت نقطةَ البدء لصفحاتٍ طوالٍ طوالٍ من مجد بطوليّ تطاول في الآفاق حتّى ناطَح عَنان-بفتح العين-السّماء، وعانَق الشّمس في عليائها، ولقّن المستعمرَ عبَراً لن تمحوها الأحداثُ المتسلسلة، ودروساً لن تنسيها السنون المتعاقبة، وجعل بَنِيه وحفَدته ترتعد فرائصُهم، وترتعش أناملُهم، وتقشعرّ أجسادُهم الواهنة رعباً وهوْلاً، ويُنَكِّسون رؤوسَهم ويدفنونها في التراب خِزْياً وخجلاً كلما تصفّحوا أسفار تاريخهم الحديث…
*ملحمةٌ كانت معجزةً بكل المقاييس، وأبانت عن -صدقٍ- أنّ عزائمَ الرجالِ الشوامخِ شموخَ الجبال لا تزحزحها العواصفُ مهما قويت شوكتُها وتعاظمت، وأنّ الإيمانَ بالمبدأ قوّةٌ ذاتيّةٌ لا تلينُ ولا تهينُ، ولا تكلُّ ولا تملُّ، وشعلةٌ نفسيّةٌ متوقّدةٌ لا ينطفىء وميضُها، ولا يخْبو أُوارُها…كما قال (المتنبّي):
على قَدْرِ أهلِ العزمِ تأتي العزائمُ وتصغُرُ في عين العظيمِ العظائمُ
ولولا أنّ هذه الملحمةَ الثّوريّةَ واحدةٌ من ملاحم القرن العشرين، عايشها أُناسٌ نعرفهم، وأحِبّاءٌ نُعزّهم، رجالاً ونساءً، وقصّوا لنا عنها قصصاً شنَّفت مسامعنا الصغيرةَ الجامدةَ في أماسّينا الشتويّة الطويلة الباردة، فكنّا ننتشي بسماعها كبرياءً وإباءً، ونزدادُ حماسةً ودفئاً، وننسى القُرَّ ولسعاتِه الأليمة، واللّيلَ الطويل وألغازه البهيمة، ونحن متحلّقون حول مواقد النار الطينيّة المتواضعة، تحلُّقَ الأفراخ زُغْب الحواصل -كما قال الحُطَيْئة- حول الأمّ الرؤوم، نتأمّل بكلّ حواسنا الخمس ألسنةً لهيبها، وطقطقةَ حطبها، فنستجديها، عسى قلبُها أن يرقّ لحالنا، فتحنوَ على أفئدتنا المرتجفة، وأوصالنا المرتعشة بِغيْضٍ من فيْض حَدَبها وتَحْنانها…وأتذكّر هنا الشاعر العراقيّ المعاصر (بدر شاكر السيّاب) في قصيدته: (منزلُ الأقْنام في جيكور) حين يقول:
ونارٌ أوقدت في ليلة القُرّ
الشتائيّة
يُدَنْدِنُ حولها القَصّاصُ
يحكي أنّ جِنِيّه
فيرتجف الشيوخُ ويصمتُ
الأطفالُ في دَهَش
غير أنّ البَوْنَ بين حَكايا (جنيّتنا) وحكايا (جنيّة السيّاب) هنا، بَوْنٌ شاسعٌ جدّاً، والآصِرةُ بينهما آصرةُ تضّادٍ وانفصامٍ؛ لأنّ الأولى تبايِن الآخرة تمام المـُبايَنة، فهي لا تــُـرْجِفُ الشيبانَ فزعاً، ولا تُصْمِتُ الولدانَ هلعاً، بل تزيدهم عزّاً وفخراً جميعاً. وإذا كانت الآخرةُ حكايا خرافيّةً، أبطالها الرئيسون كائناتٌ ميتافيزيقيّةٌ، ومخلوقاتٌ أسطوريّةٌ، فإنّ الأولى حكايا واقعيّةٌ، أبطالها رجالٌ أُصلاء حقيقيّون، ليسوا من طينة الذين وصفهم أميرُ المؤمنين (عليّ بن أبي طالب) (رضيَّ الله عنه) في خطبته الشهيرة قائلاً: “يا أشباهَ الرجالِ ولا رجالَ! حُلومُ الأطفالِ، وعقولُ ربّات الحِجالِ، لَوددتُ أنّي لمْ أرَكم ولمْ أعرفْكم معرفةً-واللهِ-جرّتْ ندَماً، وأعقبت سَدَماً، قاتلكُمُ اللهُ! لقد ملأتم قلبي قيْحاً، وشحنتم صدري غيْظاً…”[37] بل طينة من قال فيهم (أبو تمّام):
نجومٌ طواليعُ جبالٌ فوارعُ غيوثٌ هواميعُ سيولٌ دوافعُ
فهم رجالٌ بواسلُ عشقوا أرضهم حتّى الهيام، واسترخصوا أرْواحَهم في سبيل عيْش الكرام، ودافعوا عن شرفهم حتّى الرّمَق الأخير…
ولولا هذا وذاك، لحسِبْنا معركة (ادهار أوباران) هذه، أو حسِبها الكثيرون منّا، فصلاً من فصول ملحمة (جلجامش) البابليّة، أو أسطورة من أساطير الميثولوجيا الإغريقيّة.
ألم يستطع فقيهُ (الموروس) الساذج الحقير، كما كان يصفه سلفستري Silvestre))، أن يوحّد القلوبَ المتنافرة، ويقضيَ على الضغائن والأحقاد الدفينة، ويلغيَ نزاعاتِ الثأر الدمويّةِ، والصراعاتِ القبليّةَ، ويحرّر العقول المتحجّرة من الشعوذة والطقوس الخرافيّة، ومن كلّ تجلّيات التخلّف والانحطاط…وأحدثَ في المقابل ثورة داخليّة حقيقيّة؛ نفسيّة، واجتماعيّة، وثقافيّة، واقتصاديّة…وأسّس لمشروع تحريريّ تحرُريّ حداثيّ سابقٍ لأوانه، وهذا بشهادة أعدى أعدائه أنفسهم، وقديماً قال الشاعرُ العباسيُّ (السرّي الرفّاء):
شمائلٌ شهِد العدوُّ بفضلها والفضلُ ما شهدتْ به الأعداءُ
فها هو المارشال ليوطي (Lyautey) يؤكّد في مراسلةٍ له إلى رئيس الحكومة ووزير الشؤون الخارجيّة الفرنسيّة السيّد (بوانكاري) (Raymond Poincaré) بتاريخ: 18 فبراير 1924 بقوله: “سنجد أمامنا قبائلَ أعيدَ تنظيمُها وتسليحُها بشكلٍ جيّدٍ، وتمّ التغلّبُ على صراعاتٍها الداخليّةِ وفيما بينها بسبب خضوعها لزعيمٍ واحدٍ، ممّا يسمح لها بالتماسك، ومنحها الشعور بالاستقلاليّة، وهي أمورٌ يجب أخذُها بالحسبان”[38].
وكان (ابن عبد الكريم) كثيراً ما يصرّح قائلاً: “أنا مسلمٌ مؤمنٌ أعبد الله، وأمارس شعائرَ ديني، ولكنّني أريد أن أرى مداخنَ المصانع في بلادي أكثرَ من صوامع المساجد”[39]…
إذا لم يكن هذا معجزة بكلّ المقاييس فماذا يمكننا أن نسمّيه ؟؟؟!!!
واستطاع بمعيّة حفنة من الفلاّحين البسطاء (جنود التّنُورة)، كما كان ينعتهم سلفستري إمعاناً في الازدراء والاستخفاف، ويصرّح علناً بأنّه: “من الواجب أن نقضيَ على هذا النوع من البشر، فهو لا يستحقّ أن يعيشَ بين أمم العالم”[40]، لا يكادون يملكون قوتَ يومهم أن يستعيدوا في بضعة أيّام تحريرَ كلّ أراضي الريف الشرقيّ، والتي كلّف اجتياحها إسبانيا أكثر من اثنتي عشرة سنة من التخطيط والمجهود الحربيّين المتواصلين، فتهاوت مواقعُها العسكريّة، في ومْضة، كقصور الرمال، وتطايرت كأوراق الخريف، ووصلوا إلى أسوار مليلية؛ الثغرِ المحتلِّ منذ خمسمائة سنة، وكان بمقدورهم اقتحامُها بـِـيُسرٍ[41]، ورميُ مستوطنيها في البحر[42]، لولا تعليمات الزعيم (ابن عبد الكريم)، الذي صرّح في مذكّراته قائلاً: “أصبحتُ على مقربة من مليلة، فوقفتُ عندها، فلم أتقدّمْ إليها وأحاصرْها،…وقد أصدرت ُكذلك أوامري إلى جنودي بمعاملة الأسرى معاملةً حسنةً، وهو ما أفتخر به، ولا آسف عليه، كما أمرتهم بعدم التعرّض لمليلة…”[43]. وهذا ينمّ عن سلوكٍ حضاريٍّ أثيلٍ، وموقفٍ إنسانيٍّ أصيلٍ نابعٍ عن التشبُّع بالأخلاق الإسلاميّة الخالدة، والقيم الإنسانيّة النبيلة…ممّا يفنّد الحجج الاستعماريّة المغرضة، ويُسقط آخر أوراق التوت عن أطروحتهم الإيديولوجية البغيضة، التي كالت للمغاربة كلَّ المثالب القدحيّة والمـَعايب التحقيريّة، ووصفتهم بأقدح الصفات وأقذع النعوت، التي لا تخطر على قلب بشر، وتُعْوز الألسن ومعاجم اللغات عن الإفصاح عنها؛ من وحشيّةٍ، وهمجيّةٍ، ودجَلٍ، وشعوذةٍ، ونهبٍ، وقرصنةٍ، وشذوذٍ…ولنأخذ في هذا الصدد ما أورده (أوجيست مولييراس) (Auguste Moulieras) أنموذجاً-وغيره كثيرٌ- “سيشعر المقاتلُ (يقصد الورياغليّ) بالعار، إذا لم يكن قد أدْرى خمسة أو ستّة أشخاص! …فهو يعتبر حياةَ الغير لا أهمّية لها؛ فهي مثل حياة ذباب!!![44] التي اتُّخذت فيما بعدُ ذريعةً لاحتلال المغرب (حمايته؟!)، من أجل تمدينه وتحديثه، ونشر قيم الثورة الفرنسيّة فيه؟؟؟!!!
إذالم يكن هذا معجزة بكلّ المقاييس فماذا يمكننا أن نسمّيه ؟؟؟!!!
وقدِر أن يعبّئَ بعد أشهرٍ قلائلَ أكثر من ثلاثين قبيلةً من قبائل الشّمال المغربيّ؛ ريفيّيها وجبليّيها، ويؤسّسَ كياناً جهاديّاً منظمّاً، بهيئاته التنظيميّة، وأجهزته التقريريّة والتشريعيّة. ويحرّرَ شفشاون (المدينة المقدّسة)، كما تسمّيها كثيرٌ من الكتابات الكولونياليّة الإسبانيّة، سنة 1924[45]، ويبسطَ نفوذَه التامّ، مع حلول سنة 1925، على كلّ المنطقة الشماليّة (المنطقة الخليفيّة)، ما عدا الحصون العسكريّة الصغيرة في مليلية وسبتة والعرائش وطنجة، ويحاصرَ تطوان؛ العاصمةِ الخليفيّةِ، بقطع الطريق بينها وبين سبتة، وبينها وبين طنجة، ويُصليها بالقذائف المدفعيّة من جبل (غُرْغيز)،[46]ويشرعَ في تحرير طنجة الدوليّة لبعثرة الأوراق[47]…وإثر ذلك كان الإسبانُ في تطوان على وشك الانسحاب، وهذا ما تؤكّده تصريحاتُ بريمو دي ريفيرا (Primo De Rivera)، ديكتاتور ورئيس الحكومة الإسبانيّة نفسه لصحافيّ إنجليزيّ قائلاً: “وأنا شخصيّاً من مؤيّدي الانسحاب التامّ من افريقيا، والسماحِ لعبد الكريم بوضع اليد على ممتلكاته، لقد صرفنا ملايين لا تحصى من البسيطات في هذا المشروع دون أن نستلم أبداً سنتيماً واحداً، ومات عشرات الآلاف من الرجال من أجل أرض غير صالحة ولا فائدة من حيازتها”[48]، لولا تدخلُّ فرنسا، عدوّة الأمس، في الحرب بدعاوى باطلة، وإعلانُ تحالفها مع إسبانيا لإنقاذ ماء الوجه الإسبانيّ النازف، وانتشالها من مستنقع الشمال المغربيّ الموحِل، في أضخم تحالف عسكريّ في التاريخ الاستعماريّ الحديث عَدداً وعُدداً. فكان هذا التدخّل الفرنسيّ بمنزلة تدخُّل طبيٍّ مستعجلٍ ناجعٍ في قسم الإنعاش أنقذ سقيماً يحتضر. يقول الزعيم (محمّد بن عبد الكريم الخطّابي) في خطاب وجّهه إلى مجلس الأمّة الفرنسيّ: ” أليس بعارٍ أن تتّحد دولتان عظيمتان من دول أروبا أولات القوّة والبأس، وتتعاونا في آنٍ واحد على شعب صغير لا يملك إلاّ روحاً حسّاسةً، وقلباً حيّاً يودّ أن يستميت في سبيل الحقّ”[49]. وعلى الرغم من ذلك فقد أذاق القوتّين الجبّارتين الأمرّين، ومرّغ هيبة فرنسا العظيمة في التراب في (تاونات) و(البيبان) وغيرهما، ووصلت طلائع المقاومة إلى مشارف (فاس)…ولولا تكالُب قُوى الشرّ الإمبرياليّ العالميّ عليهم؛ الإمبراطورية التّي لا تغيب عنها الشمس (بريطانيا) بأساطيلها الحربيّة، وألمانيا بخبرائها وتقنيّيها في الغازات السامّة…ولولا التواطؤ الداخليّ لخفافيش الظلام من ضعاف الإيمان، وذوي الذمم الفاسدة، وفي هذا الصدد يقول (محمّد بن عبد الكريم الخطّابي) في إحدى خُطَبه يستحثّ فيها همم المواطنين إلى الجهاد: “ولولا اعتمادُه (يقصد المستعمِر) على بعض إخواننا الذين باعوا شرفِهم ودينِهم بثمنٍ بخْس دراهمَ معدودةٍ، لأصبح من زمان هشيماً تذروه الرياح على هاته الجبال والبطاح. لكنّهم وقفوا عقبةً في وجهنا، وحاجزاً يمنع وصول ضرباتنا القاضية إليه، وأيُّ مقْتٍ أكبر أن يقف المسلُم بجنب عدوّه وعدوّ دينه يحارب أخاه المسلم؟ لعمر الحقّ أنّ هذا لهو الشقاء الفظيعُ، والعار الشنيعُ…”[50]
وقد حاولت هذه الجحافلُ الغازيةُ بشتى الوسائل الدنيئة إيقافَ زحفهم الجهاديّ، ومدّهم التحرريّ، وإخراسَ صوتهم النضاليّ، فلم يتورّعوا في ذلك من استخدام كلّ استراتيجيات الترويع والتقتيل، وأدوات الترهيب والتدمير، كالقصف العشوائيّ للمساجد والأسواق والدور السكنيّة، وإحراق المحاصيل الزراعيّة، وإعدام المواشي، والتمثيل بالجثث، والعبَث بها[51]، وقد ذكر صاحبُ (العناق المميت) في كتابه نماذجَ منها تثير القَرَف والاشمئزاز، بحيث وصلت من الهمجيّة والوحشيّة درجةً لا تُتصوّر؛ كنظْمِ الآذان المبتورة والأنوف المجدوعة في حبل تُعلَّق إلى ملابس الجنود، وحملِ الرؤوس المقطوعة على رؤوس الحِراب…[52]!!!
فضلاً عن استخدام أسلحة الدمار الشامل المحرّمة دوليّاً (الغازات السامّة)، والمسمّاة محليّاً بـ (ارْهاج)، والتي سمّتها (ماريا روسا ذي مادارياكا) ((Maria R. De Madariaga بالحرب القذِرة[53].
إنّه التقدُّمُ الغربيُّ المنشودُ، والتمدّنُ الحضاريُّ الموعودُ لانتشال الأمّة المغربيّة من براثِن التخلُّف والانحطاط!!!؟؟؟
إذا لم يكن هذا معجزة بكلّ المقاييس فماذا يمكننا أن نسمّيه ؟؟؟!!!
وصارت مقاومتُه المسلّحة لجحافل الغزو الإمبرياليّ، فرنسيِّيه وإسبانيِّيه، بخططها وتكتيكاتها العسكريّة (حرب العصابات) نبراساً يُهتدى بها، ومدرسة يقتدى بها لدى كلّ الشعوب المستضعفة في الأرض، التوّاقة إلى التحرّر والانعتاق شرقاً وغرباً، وأسّست لديها وعياً جديداً، استطاعت من خلاله استعادة ثقتها بنفسها، وإيمانها بقدرتها على نفض الغبار الاستعماريّ، والتمرّد على نزعة الاستسلام لمجريات الأحداث، والتواكل والتقاعس عن عدم القيام بالواجب.
وقد تخرّج من هذه المدرسة عددٌ من زعماء التحرير في العالم، مثل (ماو تسي تونغ) في الصين، و(هوشي منه) في فيتنام، و(تشي غيفارا) في أمريكا اللاتينيّة…فالزعيم الصينيُّ (ماو تسي تونغ) (Mao Tse-Tung) فاجأ وفدَ فتحٍ من منظمة التحرير الفلسطينيّة في زيارته لبكين سنة 1971، بتصريحه قائلاً: “رفاقي الأعزّاء أتيتم تزورونني لكي أحدّثكم عن حرب التحرير الشعبيّة، في حين يوجد في تاريخكم القريب ابن عبد الكريم الخطّابي الذي هو أحد المصادر الرئيسة التي تعلّمت منه حرب التحرير الشعبيّة”[54]، وعلّق الزعيم الفيتناميُّ (هوشي منه) (Ho Chi Minh) على التجربة الريفيّة بقوله: إنّها ” أظهرت بصفةٍ جليّةٍ أنّه باستطاعة شعبٍ صغيرٍ هزيمةَ جيش عصريّ منظّم، عندما يحمل السلاحَ ويدافع عن حقوق شعبه وحرّيته. فالريفيّون استحقّوا بجدارة أن يقال عنهم إنّهم أعطوا هذا الدرسَ للعالم أجمع”[55].
إذا لم يكن هذا معجزة بكلّ المقاييس فماذا يمكننا أن نسمّيه ؟؟؟!!!
*(ادهار أوباران) ملحمةٌ ألهبت مشاعر المقاومة والصمود لدى الريفيّين التوّاقين إلى التنسُّم نسائمَ الحرّية والانعتاق، وألهمت قرائح شعرائهم بمادة إبداعيّة خصبة لا ينضب مَعينُها، وكنزٍ شعريّ فيّاض لا ينفد أسراره، تفتّقا شعراً حماسيّاً متدفّقاً، ونشيداً شعبيّاً تلقائيّاً، تناقلته الأجيالُ، وتداولته الألسنُ، ومن أبرز هذه القصائد الخالدة قصيدة أو (تَقْسيسْت) أو (إزْري) (ادهار أوباران)، التي صدحت بها حناجرُ صبايا ونساء الريف أثناء سير المعارك وبعدها، مُجلجلةً يتردّد صداها بين روانف الآكام، وغصون الآجام، وأودية الوِهاد، ونتوءات النِّجاد، لتشدَّ من أزْر المجاهدين الأشاوس، وتشحذَ هممهم، وتُذكيَ حماستهم في سُوح الوغى. قال (دافيد هارت) (David M. Hart): “كانت تغنّيها الفتياتُ الريفيّات مع لازمة (أيارا لاّبويا) خلال خريف 1921، والسنوات اللاحقة حتّى سنة 1926”[56]. بل امتدّ صداها أكثر من هذا بكثير، فإلى وقت قريب جدّاً كنا نسمع النساء والعجائز يردّدن هذه القصيدة وغيرها من الأغاني والأناشيد (إزران) الممجّدة للمقاومة الريفيّة، خاصّة عند قيامهن بالأعمال الجماعيّة (ثويزا) مثل الاحتطاب، أو الطحن اليدويّ على الأرحاء الحجريّة، أو الأعمال المنزليّة الفرديّة. وقد تغنّى بها المغنّون (إمذيازن)، وأبدع في أدائها الموسيقيّ والغنائيّ الفرقُ الموسيقيّةُ الجادّة، كفرقة (أيّاون)، والفنّانون الملتزمون المعاصرون، كـ (الوليد ميمون)؛ أيقونة الغناء الأمازيغيّ بالمغرب، وغيرهم…إضافة إلى هذه النسخة الأصليّة من القصيدة المتداولة بالريفيّة، فهناك توأمتُها نسخةٌ جنيسةٌ بالعربيّة، كما يقول (دافيد هارت) (David M. Hart): “يقدّم مالدونادو (Maldonado) نسخة عربيّة كانت متداولة في جبالة لنفس هذه المجموعة من الأبيات، ونلاحظ أنّها لا تختلف عن التّي أوردناها أعلاه إلاّ في جزئيّات صغيرة فقط…إنّ هذه النسخة العربيّة تذكر الورياغليّين كمشاركين أساسيّين في معركة (أدهار أوباران) بالإضافة إلى أعضاء من مدشريْ حَبْقوش وثبوذا التمسمانيّين…”[57]
وقد شكّلت هذه القصيدة مشروعاً خصباً لكثير من البحوث والأطاريح الجامعيّة الرصينة، و بؤرة اهتمام لعديد من الدراسات الأكاديميّة الجادّة المعنية بمنطقة الريف، بشقّيْها الأدبيّ والتاريخيّ، ومن أهمّ هذه الدراسات المتميّزة، الدراسة التّي قام بها الباحثان الجادّان: (محمّد أقضاض) و(محمّد الولي)، والموسومة بــ (ملحمة ادهار أوباران: أنشودة المقاومة الريفيّة)[58]، وهي دراسةٌ جادّةٌ قيّمة ٌكشفت الأبعاد السياقيّة والتاريخيّة للملحمة، وأماطتِ اللثام عن السمات الأسلوبيّة والخصائص الفنّيّة والجماليّة للقصيدة؛ من حيثُ البناءُ، والتركيبُ، والصّورُ، والإيقاعُ…
إضافةً إلى هذا، فهي دراسةٌ تأصيليّةٌ تأسيسيّةٌ ترومُ نقلَ جانبٍ من جوانبِ هذا الموروث الثقافيّ الشفويّ الأمازيغيّ الزاخر بالوطنيّة الصادقة، والـمُتْرع بالبطولة الخالصة من طور الشفويّة (التداول الشفويّ) بطبيعته المتقلِّبة ومتاهاته المتشعِّبة، إلى طور الكتابيّة (التدوين الكتابيّ) بسماته التوثيقيّة التقعيديّة الثابتة. وهذا مخاضٌ عسيرٌ، وعملٌ مضْنٍ دونه خرط القَتاد.
والقصيدة يمتدّ نفَسُها الشعريّ، وتتلاحق دفقتُها الشعوريّة والوجدانيّة على مدى مائة وثمانية وثلاثين مقطعاً، كما هو منصوصٌ عليه عند الباحثيْن. إلاّ أنّ الملاحظَ أنّ هناك تضاربٌ في عدد مقاطعها، زيادةً ونقصاناً، تقديماً وتأخيراً بين الرواة والدارسين، وهذا أمرٌ بدَهيٌّ، لأنّها قصيدةٌ تنوقلت بالتواتر الشفاهيّ، ومن ثَــمّ خضعت للنسيان وكلّ أنواع مكر الذاكرة.
ومطلعها بالريفيّة: وتعريبها:
أيا دهـــــــــــــــــــار أوباران يا تلّة أوباران
أيا السوس انيخسان يا سوسة العظام
ويزيــــــــــــــــــــــــــك إغــــــارن من طمع في احتلالك
أزيـــــاس إيغار الزمان سيخدعه الزمان
ام نــــــــــــــــــــغار دورومــي كما خدع النصرانيّ
يوذف غتمســـــــمان حين دخل تمسمان
تمسمان ما تهــوانك تمسمان ليست سهلة
ما تغيراش ذا بنعمان؟ وهل تظنّها شقائق النعمان؟
ختامـــــــــاً
وهكذا ستبقى ملحمة (ادهار أوباران)، ومثيلاتها كثْر، ذكرى موشومةً في الذاكرة الجمعيّة المشتركة المغربيّة الأيبيريّة، وفصلاً من فصول العلاقة الثنائيّة بين الجارين التّي تتباين مدّاً وجزراً. وذكرى صادقةً لاستخلاص الدروس، واستخلاص العبر حتّى نكونَ، بحقّ، خيرَ خلف لخير سلفٍ، يحبّ هذا الوطنَ، الذي يسَعُ الجميع، ويشدّ بعضُهم عضد بعضٍ لبناء مستقبلٍ زاهر مشرق لبناتنا وأبنائنا.
الهوامش:
[1] – انظر: -العناق المميت، من حرب الريف إلى الحرب الأهليّة الإسبانيّة، سيباستيان بلفور، ترجمة وتقديم: ع. المجيد عزوزي، منشورات ثيفراز ن ءاريف، رقم 13، الحسيمة، مطبعة دار أبي رقراق للطباعة والنشر، الرباط، ط.1، 2016، ص: 155.
[2] – في خندق الذئب، معارك المغرب، ماريا روسا دي مادارياغا، ترجمة: د. كنزة الغالي، تقديم: ع. الغني أبو العزم، مؤسّسة الغني للنشر، الرباط، ط.1، 2010، ص: 120. وانظر: -العناق المميت، ص: 153.
[3] – انظر: -معركة أنوال: 21 يوليوز 1921، محمّد ابن عزوز حكيم، مؤسسة ع. الخالق الطريس للثقافة والفكر، تطوان، مطبعة الساحل، الرباط، ط.1، 1981، ص: 18، وما بعدها. وقد خصّص الفصل الثامن من هذا الكتاب، والموسوم بــ: الجهاد في سبيل الله، للتتبّع الدقيق، وحسب التسلسل الزمنيّ، للاجتياح الإسبانيّ لمناطق الريف الشرقيّ، مع جرد تفصيليّ لتواريخ هذا الاجتياح، وتواريخ تحريرها من طرف المقاومة الريفيّة، ص: 123-152.
[4] – انظر: -المرجع نفسه، ص: 220. والعناق المميت، ص: 151.
[5] – المؤسسات الاجتماعيّة-السياسيّة، وإصلاحات الخطابي، دافيد مونتغمري هارت، ضمن أشغال ندوة دوليّة: عبد الكريم الخطابي وجمهورية الريف، باريس، 1973 وقد نشرتها معرّبة في عدد خاصّ مجلة الملتقى، مراكش، ع.42، 2017، ص:30.
[6] – انعقد مؤتمر عامّ بمدشر (امزورن)، يوم 12 جمادى الآخرة 1339 هـ، الموافق ل 21 فبراير 1921م، دعا إليه الزعيم الخطابي للتعبئة العامّة وشحذ الهمم وإثارة الحمية الدينيّة والوطنيّة، وحضره جميع أعيان القبائل، ومالت الكفّة آنذاك لتيار المقاومة (فريق العامة) على حساب تيار المهادنة (فريق الأعيان/حزب إسبانيا) الخائن. انظر: -أسد الريف، محمّد عبد الكريم الخطّابي،
مذكّرات عن حرب الريف، محمّد محمّد عمر بلقاضي، مطبعة سلمى، الرباط، ط.2، 2006، ص: 98-99. وكان مؤلّف الكتاب شاهد عيان في هذا المؤتمر، وتربطه بالزعيم الخطابي قرابة نسًبيّة، وكان موضع ثقته، وتولّى مسؤوليّاتٍ ومناصبَ عديدة ًمعه.
[7] – تمّ إقامته برأس جبل القامة (ارْقامث) بقبيلة تمسمان، وهو جبل قريبٌ جدّاً من منبسطات الحسيمة، بحيث يسهل تسلّقه على الرغم من فارق الارتفاع البالغ 700 متر، وعسْكرَ فيه بدايةً حوالي 100 من مقاتلي بني ورياغل، وذلك في شهر أكتوبر 1921، حسب ما أورده ابن عزوز حكيم بناءً على الوثائق الإسبانيّة، في حين نجد أنّ عثمان بناني حدّد تاريخه في آخر يناير وبداية فبراير من نفس السنة، بينما نُلْفي جرمان عيّاش يعيّن تاريخ التأسيس هذا في بداية أو نهاية فبراير، حسب تقرير عسكريّ إسبانيّ.
في المقابل لم يشر محمّد بن عبد الكريم الخطابي في مذكّرات لارينيون، ولا محمّد محمّد عمر بلقاضي في مذكّراته إلى أيّ تاريخ محدّد. انظر: -معركة أنوال، ص: 21، ومحمّد بن عبد الكريم الخطابي، ومقاومة الاستعمار الإسبانيّ، الجمعية المغربيّة للبحث التاريخيّ، مطبعة الرباط نت، ط.1، 2019، ص: 148. وأصول حرب الريف، جرمان عيّاش، ترجمة: محمّد الأمين البزّاز، وع. العزيز التمسمانيّ خلّوق، الشركة المغربيّة المتّحدة، الرباط، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، (د.ط)، (د. ت)، ص: 319. ومذكّرات لارينيون، بقلم: محمّد بن عبد الكريم الخطابي (المخطوط الأصليّ بالعربيّة)، تحقيق وتعليق وتقديم: ع. المجيد عزوزي، ومحمّد أونيا، وع. الحميد الرايس، وجمال أمزيان، دار أبي رقراق للطباعة والنشر، الرباط، ط.1، 2017، ص: 83. وأسد الريف، ص: 101.
[8] – قال سِلْفِستري (Silvestre) لمبعوث المقاومة الريفيّة (محمّد أزرقان)، الذي سيصبح فيما بعد وزيراٌ للخارجيّة في إمارة الريف الجهاديّة: “لا كلامَ معكم حتّى نكون في رأس قبيلة (تمسمان) سيدي شعيب، ورأس العابد في قبيلة بقيوة”، وقال له الكولونيل (موراليس) (Morales)، وكانت بينهما مودّة قديمة: “اذهب يا حبيبي إلى دارك، فإنّ هذا الجنرالَ نارٌ موقدةٌ، لا يمكن التفاهمُ معه”. انظر: -الظلّ الوريف في محاربة الريف، مذكّرات محمّد أزرقان، تأليف: سيدي أحمد سكيرج، إعداد وتقديم: ع. المجيد عزوزي، منشورات ثيفراز ن ءاريف، رقم 21، الحسيمة، مطبعة سليكي إخوان، طنجة، ط. 1، 2021، ص: 59-60.
[9] – في خندق الذئب، ص: 127.
[10] – انظر: -أصول حرب الريف، ص: 279-280. ومحمّد بن عبد الكريم الخطابي، ومقاومة الاستعمار الإسبانيّ، ص: 158. وفي خندق الذئب، ص: 139 وما بعدها. والعناق المميت، ص: 152.
[11] – هناك تضارب بين الرواة والإخباريّين (شهود عيان) حول تحديد هذا اليوم بالضبط، فأزرقان يشير في مذكّراته إلى يوم 25 رمضان 1339هـ، موافق فاتح يونيو 1921م، بينما بلقاضي يحدّده في يوم الثلاثاء 24 رمضان، في حين نجد شهاداتِ شهودٍ في كتاب محمّد الرايس تكاد تُجمِع على أنّه يوم الأربعاء 26 رمضان، انظر: -الظلّ الوريف، ص: 63. وأسد الريف، ص: 110 وما بعدها. وشهادات عن المقاومة في عهد الزعيم محمّد بن عبد الكريم الخطّابي، محمّد الرايس، إعداد وتقديم: ع. الحميد الرايس، منشورات ثيفراز ن ءاريف، رقم 09، الحسيمة، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، ط.1، 2011، ص: 76-77، 154-155، 214 وما بعدها، 235 وما بعدها، 250، 264 وما بعدها، 296 وما بعدها، 307، 344، 366.
[12] -على الرغم من النداءات الملحاحة لفقيه المجاهدين (بولحية التوزانيّ) الذي “أعلن بصوته الجهْوريّ إباحة إفطار رمضان في يوم الجهاد”، وقد صار فيما بعد وزيراً للعدليّة في إمارة الريف الجهاديّة. انظر: -شهادات عن المقاومة في عهد الزعيم محمّد بن عبد الكريم الخطّابي، ص: 216. وآيث ورياغر، قبيلة من الريف المغربيّ، دراسة إثنوغرافيّة وتاريخيّة، دافيد مونتغمري هارت، ترجمة وتقديم وتعليق: محمّد أونيا، وع. المجيد عزوزي، وع. الحميد الرايس، منشورات جمعية صوت الديمقراطيّين المغاربة بهولندا، ط.1، 2016، 2/718.
[13] – معركة أنوال، ص: 48، بينما نجد في مذكّرات (أزرقان) اسمه (رامون ويلبا) (Ramon Huelva). انظر: -الظلّ الوريف، ص: 63-64.
[14] – في حين يرجّحُ الكاتب الإنجليزيّ (روبرت فورنو) أنّ المعركة انتهت في أقلّ من ثلاثين دقيقة ؟! انظر: -الأمير محمّد بن عبد الكريم الخطّابي، ملحمة المقاومة الثوريّة المسلّحة في الشمال، روبرت فورنو، ترجمة: د. فؤاد أيّوب، مراجعة: مجلّة الملتقى، مراكش، المطبعة والوراقة الوطنيّة، مراكش، ط.1، 2018، ص: 59.
[15] – معركة أنوال، ص: 48.
[16] – الظلّ الوريف، ص: 63-64.
[17] – انظر: -الظلّ الوريف، ص: 63. وأسد الريف، ص: 115. وشهادات عن المقاومة في عهد الزعيم محمّد بن عبد الكريم الخطّابي، في مواضعَ كثيرةٍ منه، من بينها، على سبيل المثال لا الحصر، ص: 154.
[18] – انظر على سبيل المثال لا الحصر: -الظلّ الوريف، ص: 63. والأمير محمّد بن عبد الكريم الخطّابي، ملحمة المقاومة الثوريّة المسلّحة في الشمال، فورنو، ص: 59. وأصول حرب الريف، ص: 339. ومعركة أنوال، ص: 48-49. وعبد الكريم ملحمة الذهب والدم، زكية داود، ترجمة: محمّد الشركي، منشورات وزارة الثقافة المغربيّة، مطبعة المناهل، الرباط، (د. ط)، 2007، ص: 89. وفي خندق الذئب، ص: 124. والعناق المميت، ص: 158-159…
[19] – مذكّرات لارينيون (المخطوط الأصليّ بالعربيّة)، ص: 85.
[20] – معركة أنوال، ص: 52.
[21] – أصول حرب الريف، ص: 341.
[22] – نفسه.
[23] – نفسه. ومحمّد بن عبد الكريم الخطابي، ومقاومة الاستعمار الإسبانيّ، ص: 15.
[24] – محمّد بن عبد الكريم الخطّابي في رحاب الشعر، د. محمّد محمّد المعلمي، مطابع الشويخ، تطوان، ط. 1، 2008، ص: 49، نقلاً عن: ديوان شموع، محمّد الحلوي، شركة النشر والتوزيع المدارس، الدار البيضاء، 1988، ص: 300-303.
[25] – كانت هذه الزيارةُ مستعجلةً، قام بها المقيم العامّ الإسبانيّ الجنرال بيرينكر (Brenguer) يوم فاتح أبريل 1921 للاطّلاع المباشر بنفسه على الوضع بالمنطقة الشرقيّة، والتقى هناك بحاكم مليلية سِلْفِستري (Silvestre)، وتمّ هذا بحضور أعيان القبائل من أصدقاء إسبانيا. انظر: -أصول حرب الريف، ص: 321 وما بعدها. ومعركة أنوال، ص: 26 وما بعدها. وأسد الريف، ص: 104. محمّد بن عبد الكريم الخطابي، ومقاومة الاستعمار الإسبانيّ، ص: 149-150. وشهادات عن المقاومة في عهد الزعيم محمّد بن عبد الكريم الخطّابي، ص: 116، 233، 244، 340.
[26] – معركة أنوال، ص: 23، 39، 102.
[27] – محمّد بن عبد الكريم الخطّابي في رحاب الشعر، ص: 50.
[28] – نفسه، ص: 117. وانظر: -عبد الكريم ملحمة الذهب والدم، ص: 94. وفي خندق الذئب، ص: 138.
[29] – مذكّرات الأمير محمّد بن عبد الكريم الخطّابي، روجر ماثيو، ترجمة: عمر أبو النصر (1927)، الناشر: العباسية، القاهرة، مطبعة فضالة، المحمّدية، ط.1، 2005، ص: 59
[30] – مذكّرات لارينيون، ص:92.
[31] – في كتابه: (معركة أنوال: 2 يوليوز 1921)، ص: 70 وما بعدها.
[32] – الأمير محمّد بن عبد الكريم الخطّابي، ملحمة المقاومة الثوريّة المسلّحة في الشمال، فورنو، ص: 70.
[33] – آيث ورياغر، قبيلة من الريف المغربيّ، 2/714.
[34] – معركة أنوال، ص: 170.
[35] – الاستعمار الإسبانيّ في المغرب (1860-1956)، ميكل مارتن، ترجمة: ع. العزيز الوديّي، منشورات التلّ، الرباط، (ط.1)، 1988، ص: 83.
[36] – نصوص ورسائل حول الثورة الريفيّة (1924-1925)، ليوطي الإفريقيّ، عرض وتقديم: بيير ليوطي، ترجمة وتقديم: د. عز الدين الخطابي، منشورات ثيفراز ن ءاريف، رقم 12، الحسيمة، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، (د.ط)، 2013، ص: 6
[37] – شرح نهج البلاغة، لأبي الحُدَيْد، تحقيق: محمّد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربيّة، عيسى البابي الحلبيّ وشركاؤه، القاهرة، ط. 1، 1959، 2/75.
[38] – نصوص ورسائل حول الثورة الريفيّة، ص: 24.
[39] – مقال: أنوال: أسئلة بسيطة وأجوبة صعبة، د. عليّ الإدريسيّ، مجلة الذاكرة، مركز الريف للتراث والدراسات والأبحاث، الناظور، ع. 6، 2021، ص: 18.
[40] – معركة أنوال، ص:93.
[41] – قال (محمّد أزرقان) في مذكّراته أنّ طلائع المجاهدون وصلت لأبواب مليلية، “ودخلوا منها إلى زنقة (بوضْرومو) (Hipodromo)، ولكنّ الفقيه (بولحية) منعهم من دخولها خوفاً على سكّانها…”. انظر: -الظلّ الوريف، ص: 73.
[42] – يقول (ميكل مارتن) في هذا الصدد: ” أنّ الإسبان كانوا يبحثون على الباخرة التي ستقلّهم إلى مالقة”. انظر: -الاستعمار الإسبانيّ في المغرب (1860-1956)، ص: 61. وقد أورد الباحثُ مقتطفاتٍ من مذكّرات ويوميّات لشهود عيان، تُجمع كلّها على حالة الهلع، والترقّب، والارتباك التي خيّمت على مليلية آنذاك.
[43] – مذكّرات الأمير محمّد بن عبد الكريم الخطّابي، ماثيو، ص: 60. وانظر: -الظلّ الوريف، ص: 67 وما بعدها، 210…
[44] -المغرب المجهول، الجزء الأوّل: (اكتشاف الريف)، أوجيست مولييراس، ترجمة وتقديم: د. عز الدين الخطّابي، منشورات ثيفراز ن ءاريف، رقم 18، الحسيمة، مطبعة الحمامة، تطوان، ط. 2، 2021، ص: 117. وللتوسّع في الموضوع، انظر: -المصدر نفسه في مواضع كثيرة منه. والمغرب المجهول، الجزء الثاني: (اكتشاف جبالة)، أوجيست مولييراس، ترجمة وتقديم: د. عز الدين الخطّابي، منشورات ثيفراز ن ءاريف، رقم 11، الحسيمة، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، ط. 1، 2013.
[45] – انظر -على سبيل المثال لا الحصر-: -العناق المميت، ص:142 وما بعدها. وفي خندق الذئب، ص: 115. والظلّ الوريف، ص: 196-197. وأسد الريف، ض: 157.
[46] – مذكّرات الأمير محمّد بن عبد الكريم الخطّابي، ماثيو، ص: 84-85، 91. والظلّ الوريف، ص: 201، 204. وأسد الريف، ص: 165-166. والاستعمار الإسبانيّ في المغرب، ص: 80-81.
[47] – أسد الريف، ص :187-188.
[48] – مذكّرات محمّد بن عبد الكريم الخطّابي (مذكّرات لارينيون)، ص: 107. ومذكّرات الأمير محمّد بن عبد الكريم الخطّابي، ماثيو، ص:78. والاستعمار الإسبانيّ في المغرب، ص: 77-78. والأمير محمّد بن عبد الكريم الخطّابي، ملحمة المقاومة الثوريّة المسلّحة في الشمال، فورنو، ص: 132. و
[49] – أسد الريف، ص: 185.
[50] – أحاديث عن الأدب المغربيّ الحديث، ع. الله كنّون، دار الثقافة، الدار البيضاء، (د.ط)، 1984، ص: 60.
[51] – انظر: -في خندق الذئب، ص: 262 وما بعدها. ومحمّد بن عبد الكريم الخطّابي، والكفاح من أجل الاستقلال، ماريا روسا دي مادارياغا، ترجمة وتقديم: محمّد أونيا، وع. المجيد عزوزي، وع. الحميد الرايس، منشورات ثيفراز ن ءاريف، رقم 10، الحسيمة، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، ط. 1، 2013، ص: 240 ما بعدها. والعناق المميت، ص: 259-474.
[52] – العناق المميت، ص: 274.
[53] – محمّد بن عبد الكريم الخطّابي، والكفاح من أجل الاستقلال، ص: 239 وما بعدها. وانظر: -الخطّابي في مواجهة السلاح الكيماويّ، كونز روديبيرت، ورولف ديير مولر، ترجمة: ع. العالي الأمراني، منشورات فيدباك، الرباط، ط. 1، 1996. ومذكّرات محمّد بن عبد الكريم الخطّابي (مذكّرات لارينيون)، ص:221. والظلّ الوريف، ص: 194. وأسد الريف، ص: 141-142. والعناق المميت، ص: 214 ،248، 271، 354، 446 وغيرها. وفي خندق الذئب، ص: 298-300 وغيرها. وعبد الكريم الخطّابي، التاريخ المحاصَر، عليّ الإدريسيّ، تقديم: العقيد الهاشمي الطود، منشورات ثيفراز ن ءاريف، رقم 05، الحسيمة، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، ط. 2، 2010، ص: 66-67. وعبد الكريم الخطّابي، التاريخ الآخر، محمّد أمزيان، منشورات ثيفراز ن ءاريف، الحسيمة، مطبعة الخليج العربيّ، تطوان، ط. 1، 2021، ص: 202-209. وغيرها من المصادر والمراجع.
[54] – محمّد بن عبد الكريم الخطّابي، آراءٌ ومواقفُ، محمّد أمزيان، منشورات ثيفراز ن ءاريف، رقم 07، الحسيمة، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، ط. 3، 2010، ص: 16.
[55] – نفسه.
[56] – آيث ورياغر، هارت، 2/715.
[57] – نفسه، 2/718.
[58] – ملحمة ادهار أوباران: أنشودة المقاومة الريفيّة، محمّد أقضاض، ومحمّد الولي، مطبعة المناهل، الرباط، ط.1، 2007.
د. يوسف الرايس