دأبت الرواية العربية ، حين تنزح عن الفضاء العربي بمدنه وقراه ، على اتخاذ فضاءات غربية مسرحاً لأحداثها. نذكر منها هنا على سبيل التمثيل لا الحصر مجموعة من الأعمال الذائعة الصيت في المتن الروائي العربي أهمها : ” عصفور من الشرق لتوفيق الحكيم / ” الحي اللاتيني ” لسهيل إدريس ( فرنسا ) ؛ ” موسم الهجرة إلى الشمال ” ( انجلترا ) ؛ ” الحب في المنفى ” لبهاء طاهر ( سوسرا ) ؛ أمريكانلي لصنع الله إبراهيم ( أمريكا ) . أما رواية ” حلم حقيقي ” التي نحاول مقاربتها في هذه الدراسة ، فقد اختار صاحبها محمود الريماوي فضاء لم يتم الالتفات إليه إلا نادراً من لدن الروائيين العرب ([1])، هو فضاء البلاد الأسيوية الفقيرة. وقد صرح بأنه اتخذ بنغلاديش إحدى هذه البلاد ، فضاء لروايته ” للتدليل على أن العالم أوسع من الغرب وأكثر غنى وتنوعاً من أن نقصر اهتمامنا على قطب حضاري أوحد. ” ([2] )
تقوم رواية ” حلم حقيقي ” للقاص الروائي الأردني / الفلسطيني محمود الريماوي على محكيين رئيسين :
أ ـ محكي مينو / ب ـ محكي رحيم. ومن خلال هذين المحكيين ، يدخلنا السارد العليم إلى الكون الروائي بما يزخر به من أحداث وشخصيات وفضاءات .
أ ـ محكي مينو : تسربت أخبار يكتنفها الغموض عن أطباء أجانب قدموا إلى مدينة “دكا ” ببغلاديش ، وقيامهم بإجراء عمليات جراحية ، وتقديم علاجات طبية لمرضى فقراء بالمجان ، وذاعت الإشاعات عن وقائع مريبة تحدث في إحدى عيادات المدينة ، فدفع الفضول الصحفي الشاب مينو في جريدة النبأ المحلية ، إلى أن يتقصي حقيقة الأمر . وبعد محاولات عديدة للوصول إلى حقيقة ما يجري داخل العيادة ، يكتشف أن الأمر يتعلق بعملية احتيال خبيثة من لدن فريق طبي من جنسيات أوروبية مختلفة ، يختفي وراء تقديم العلاج والمساعدات الطبية للمعوزين ، بينما هدفه الحقيقي هو الحصول على الأعضاء والخلايا البشرية ، لزرعها في أجساد المرضى والمتقدمين في العمر من أبناء جلدتهم الموسرين ، لمعالجتهم وإطالة أعمارهم. يستعمل الفريق الطبي عدة وسائل ، مستعيناً بموظفين محليين ، للقيام بمهمته الجهنمية . منها بعث مرضى للخارج لإجراء العمليات الجراحية ، يعود بعضهم في صناديق الأموات ، ويعود بعضهم حياً ليموت بعد مدة قليلة في وطنه ؛ ومنها عقد صفقات بيع وشراء مع أصحاء يعانون من الحرمان ، ويحلمون بالحياة ولو سنوات من عمرهم في بحبوحة من العيش ” أربعون سنة كئيبة تنتهي بثلاث أو أربع سنوات بهيجة ، أفضل من ستين سنة تكتنفها التعاسة من مبتداها إلى منتهاها. ذلك ما لا يحتاج إلى برهان ” ( ص : 128 )
يقدم السارد محكي مينو بحبكة بوليسية لا تخلو من عنصر التشويق ، لاسيما حين يحيط الحدث بكثير من الغموض والإبهام ، ويكشف لنا عنه بشكل تدريجي. بل إنه ليترك القارئ ، متلهفاً إلى معرفة حقيقة الجريمة ، ليسرد لنا محكي رحيم الذي يرد في الرواية خلال محكي مينو أو طيه ، يقول الناقد محمد معتصم ” إن السياق السردي لشخصية ‘رحيم’ شكل وحده في مرحلة من تطور السرد محكيا تاماً، وبدا أنه “المحكي المطوي” طي الثوب الذي ضم تحته المحكي الإطار الأعم والأكبر لشخصية ‘مينو‘ ( [3] )
ويمكن أن نرتب هذا المحكي على النحو التالي : تلقي مينو في الصحيفة أخباراً عن العمليات الجراحية المريبة .”جرائم قتل ترتكب بقفازات بيضاء ” ( ص : 113 ) ـ البحث والتحري المتأني لاستطلاع حقيقتها ـ محاولة رحيم الموظف في العيادة ثنيه عن البحث وإبعاده عن الحقيقة ـ كتابة مينو التحقيق الصحفي مستعيناً بالمدون مشتاق وشقيقته بلقيس الطبيبة ـ نشر التحقيق بالجريدة ، وما أثاره من ردود فعل متباينة سواء من لدن السلطات والجهات المسؤولة عن الصحة، أو من لدن الرأي العام الشعبي ـ محاولة السلطات التمويه على ما حدث والتهوين من خطورته ـ التحقيق الرسمي وما نتج عنه من إنزال عقوبة الفصل عن العمل في حق الموظفين المحليين ومنهم رحيم.
ب ـ محكي رحيم : يبدأ هذا المحكي من ( الصفحة 46 إلى الصفحة 78 من الرواية ) ، يرصد السارد العليم فيه حياة رحيم : نشأته في أسرة فقيرة وموت والده في حادثة غرق مؤلمة ، وتنقله بين حرف متنوعة في طفولته وصباه ، رفقة شقيقه الأكبر نور الحق . ويتوقف خاصة عند محطات أخرى فارقة من حياته تتبدى من خلالها ملامحه الشخصية ، فهو شخص انتهازي وصولي طموح إلى الارتقاء الطبقي ، ينضم إلى الحزب الوطني الطامح إلى الوصول إلى الحكم ، ويعتمد في استكمال دراسته على ربط علاقات مثمرة مع أساتذته في المدرسة والجامعة ، ويتزوج من رشيدة ابنة تاجر الأخشاب الثري ، زميلته في الجامعة والعمل الحزبي ، ولا يستنكف أن يتعاون مع الفريق الطبي الذي يستغل أبناء وطنه أبشع استغلال ، مقابل تحقيق نزواته الجسدية وطموحاته المادية.
والجدير بالملاحظة أن ثمة محكيات صغرى نصادفها في النص الروائي ( من ص : 107 إلى ص : 114 ) , تقوم بـ”وظيفة الإنارة التي تشير إليها بعض الدراسات النظرية. “([4] ) ، أي إلقاء المزيد من الضوء على الوقائع والحالات المتعددة التي تجسد الجريمة البشعة التي يقترفها الفريق الطبي الأجنبي والمتعاونون معه في حق مواطنين معوزين يحتاجون إلى العلاج ، وآخرين أصحاء تدفعهم الفاقة والحرمان إلى بيع أعضائهم. يقول أحد الأطباء الأهليين في تعليق له على ما يقع : ” التجارة دخلت الطب ولم تخرج بعد . نذم من يبيعون أعضاءهم عن فاقة ، ونأخذ عليهم سوء طويتهم ورداءة سلوكهم ، ونغفل عن إدانة من يشتري ، كأن هؤلاء ملائكة أطهار لا يفعلون سوى تلبية استغاثة البائعين. لو لم يكن هناك مشترون يشترون ، لما كان هناك باعة يبيعون. ” ( ص : 96 )
بالنسبة للمبنى الحكائي ، سيتم التركيز على محورين لافتين لنظر القارئ في هذا العمل الروائي المكثف ، هما :
أ ـ بنية التقابل الضدي ، سواء على مستوى النص الموازي ( العنوان ) أو الشخصيات أو الفضاءات / ب ـ رمزية الفضاء العام للرواية .
1ـ العنوان :
يتألف العنوان ” حلم حقيقي ” من خبر مبتدأه محذوف ، ونعت يصف الخبر النكرة ، ” العنونة الوصفية المنكَّرة ” ([5] ) ، ويشتمل على لفظين متناقضين دلالياً ( الحلم والحقيقة ) . والملاحظ أنه صيغ من حيث التركيب البلاغي بأسلوب تقريري إخباري ، ليحيطنا علماً أننا بإزاء حلم سيصير حقيقة لأشخاص داخل العالم الروائي ، إلا أن الطريق المؤدي إلى تحقيق ذلك الحلم ليس طريقاً واحداً ، بل طريقان متقابلان متناقضان : ( البيع مقابل الشراء ). فالفقراء المحرومون من البنغال ، يبيعون أعضاء من أجسادهم ، وسنة أو بضع سنوات من عمرهم ليحققوا حلمهم في رغد العيش الذي حرموا منه طيلة حياتهم ” سنة واحدة من العمر بخمسة آلاف جنيه أو يورو. وهناك من يدفع أكثر ” ( ص : 128 ) , والموسرون القادرون من أبناء الغرب المتقدم ، يشترون بالمال ما يحقق حلمهم في عمر أطول ، وجسد معافى ” لم يعد الأمر مجرد حلم. هناك من اشترى سنوات بالفعل لإطالة العمر، وذلك عبر الوقوع على المستشفى المناسب والعيادة الجيدة والطبيب الممتاز… “( ص : 128 )
2 ـ الشخصيات :
تنقسم الشخصيات في الرواية إلى فئتين متقابلتين : فئة تمثل الاستغلال والانتهازية والاتجار في الجسم البشري بضاعةً قابلة للبيع والشراء كغيرها من السلع ، ويمثل هذه الفئة : أعضاء الفريق الطبي الأجنبي ، وأعوانه من أطباء وممرضين من أهل البلد ومن بينهم الموظف رحيم . وفئة ثانية تمثل التشبث بقيم الخير والبذل ونكران الذات وخدمة الآخرين وإرادة تقويم ما يسود المجتمع من سلوكات منحرفة ، والانحياز إلى الفقراء والمستضعفين ، والتنبيه إلى ما يتهدد حياتهم من أخطار ، وما يمس كرامتهم الإنسانية من إذلال ومهانة. ويمثل هذه الفئة : مينو الصحفي حديث العهد بالمهنة في صحيفة ” النبأ ” ـ شيفالي زميلته ـ مدير الصحيفة ـ المدون مشتاق الثلاثيني المقعد منذ طفولته بسبب حادثة سير ، الشغوف بالمواقع الإخبارية على الإنترنيت ـ شقيقته الطبيبة التي لها إطلاع واسع على ما يحدث بحكم مهنتها ـ الصحفي المتدرب ممتاز الذي تمكن في تحقيقه من جمع شهادات لأطباء عن الأخطاء الطبية.
إن العامل الذات مينو يمكن اعتباره ( بطلاً جماعياً ) ؛ فموضوع توقه هو موضوع اجتماعي وليس ذاتياً فردياً ، لأنه يسعي إلى تخليص مجتمعه مما يتهدده من مخاطر وآفات جسيمة. يقابله ( بطل فردي ) هو رحيم الأناني الانتهازي الذي ينحصر موضوع توقه فيما هو ذاتي فرداني ، بل ويقوم بدور العامل المعاكس إزاء رغبة مينو في تحقيق هدفه الجماعي ، بمحاولاته التمويه على ما يحدث ’ وثنيه عن مواصلة البحث والتحري والتحقيق. ([6] )
3 ـ الفضاءات :
ثمة تقابل بين فضائين يعتبران مسرحاً لأهم أحداث الرواية ، هما فضاء المستشفى وفضاء مقر الصحيفة ، فالمستشفى يمثل فضاء الجريمة والموت، وانتهاك حرمة الجسم البشري ، بدل أن يكون فضاء للعلاج وإنقاذ الأرواح ، بل إنه يمثل فضاء لموت من نوع آخر لا يقل قسوة وضراوة على الناس. إنه موت الضمير في الإنسان ، وموت المبادئ والقيم الإنسانية النبيلة. أما فضاء الصحيفة ، فيمثل فضاء ثقافياً وإعلامياً وظيفته البحث والتحري عن أخبار ما يجري في المجتمع من أحداث ووقائع وإماطة اللثام عنها. إنه فضاء الفضح والكشف عن حقائق يراد لها أن تبقى في طي الكتمان والمسكوت عنه. وكأنني بالكاتب محمود الريماوي في إشارته لدور السلطة الرابعة ( الصحافة ) في كشفها عن أسرار وخبايا المستشفى الخطيرة التي تم التعتيم عليها ، يود أن ينبه إلى ما ينبغي أن تكون عليه الصحافة في بلادنا العربية التي كثيراً ما تقوم على التعتيم وطمس الحقائق والموالاة للسلطة المهيمنة والأحزاب الواصلة إلى سدة الحكم، والترويج لأفكار من شأنها أن تعيق انتشار الوعي والفكر التنويري المتقدم.
ب ـ رمزية الفضاء الروائي :
يلاحظ أن الفضاء العام للرواية يكتسي طابعاً رمزياً ، فقد عمد المؤلف أن ينأى عن السياق العربي ، ربما ليحتال على حدود التعبير والتفكير في البلاد العربية التي تتعرض فيها الحريات إلى القمع والتضييق ؛ فالفضاء في الرواية هو مدينة دكا عاصمة بنغلاديش ، ولكنه قد يكون فضاء لأي مدينة أو عاصمة عربية ، والأحداث المريبة التي وقعت في مستشفيات المدينة، قد تقع في أي جزء من وطننا العربي . وما يتم من تآمر من لدن الفريق الطبي مع أعوان من البلاد الأصلية ، يومئ إلى المؤامرات الخارجية المتلاحقة التي تستهدف مقدرات البلاد العربية ، وتستنزف خيراتها وطاقاتها من أجل استغلالها لصالحها وصالح شعوبها ، بتعاون مع أغلب القائمين على هرم السلطة فيها لتحقيق مصالح متبادلة. وإذا كان أحد أصدقاء الكاتب محمود الريماوي قد وصف الرواية بأنها ” رواية غير عربية لكاتب عربي ” ، فأنا أرى أنها رواية عربية فضاؤها غير عربي ، لكاتب عربي مهموم بقضايا أمته التي تتهددها مخاطر متنوعة ، ولكنه أيضاً غير بعيد عن مشكلات عصره في كل مكان.
الهوامش :
*النص المعتمد في الدراسة “حلم حقيقي” ، كتاب دبي الثقافية، 15. يوليو 2011م . للرواية طبعة ثانية ، صدرت عن دار التنوير ، سنة 2012 م .
[1] ـ من الروايات التي قرأتها دارت أحداثها في بلد آسيوي مماثل هو أفغانستان ، رواية ” بذور الشيطان ” للكاتبة السورية لينا كيلاني .
[3]ـ انظر : ” الخطاب الروائي والإنسان المعاصر” ، جريدة القدس العربي ، اﻟﺴﻨﺔ اﻟﺮاﺑﻌﺔ واﻟﻌﺸﺮون ـ العدد : 7362 ، الثلاثاء 19 فبراير 2013 ، ص : 10 .
[4] ـ أحمد اليبوري ، دينامية النص الروائي ، منشورات اتحاد كتاب المغرب ، الرباط ن 1993 ، ص : 47 .
[5] ـ بلاغة العنونة القصصية ، دراسة في القصة الأردنية ، جميلة عبدالله العبيدي ، مجلة أفكار ، عدد : 279 ، نيسان ـ أبريل 2012 ، ص : 23 ,
[6] ـ انظر : الألسنية والنقد الأدبي ، في النظرية والممارسة ، د . موريس أبو ناضر , دار النهار للنشر ، بيروت ، 1979 ، ص : 66 .
بقلم : عبدالجبار التهامي العلمي