س 1 ـ الأستاذ جواد.. نود أن نعرف من خلالك، وفي عجالة، السياقات التي تحكمت في تبني سياسة التعليم الخصوصي عندنا بالغرب؟
السياسة التعليمية جزء لا يتجزأ من السياسات العمومية التي وضعها المغرب منذ الاستقلال، وهي سياسات تعكس خيارات مجتمعية معينة اتُّخِذت إمّا اختياراً وإمّا اضطرارا. ولا تعدو المدرسة الخصوصية أن تكون نتاج ذلك !
فقد حدد الميثاق الوطني للتربية والتعليم الصادر في 1999 هدفا يتمثل في تمدرس 20% من تلاميذ الأقسام الابتدائية والثانوية بالتعليم الخصوصي عند نهاية سنة 2010! هذا في الوقت الذي لم تكن تشكل هذه النسبة غداة صدور الميثاق سوى 4%، ممّا يعكس رسوخ هذا الاختيار ، وهو اختيار تمّ تكريسه في البرنامج الاستعجالي الذي صدر في 2009، والمخطط الاستراتيجي 2015-2030
وتحكمت في هذا الاختيار عدة عوامل، لعلّ من أهمها تاريخيا اضطرار المغرب إلى تطبيق سياسة التقويم الهيكلية للمؤسسات الدولية الدائنة، التي من ضمن بنودها التخفيف من عجز الموازنة العامة وميزان الأداءات، وهي أهداف لن تتحقق إلاّ بتخلي الدولة عن جزء من الإنفاق العمومي الذي يستهلك التعليم العمومي جزءا لا يستهان منه
س 2 ـ هل يمكن للمدرسة الخصوصية، في تقديركم، أن تكون بديلا عن المدرسة الوطنية العمومية؟
قطعا لا يكمن ! لأن الدور الذي أُنيط بالمدرسة الخصوصية هو دورُ الشريك لا دورَ البديل ! وهو دور ما فتئت الوزارة الوصية تؤكد عليه وكذا النصوص القانونية المنظمة لقطاع التعليم، كقانون 06-00 ( الصادر سنة 2000) والقانون -الإطار 51-17 ( الصادر سنة 2019) وكذا مختلف النصوص التنظيمية
كما أن الإحصائيات المتعلقة بالدخول المدرسي 2019-2020 تحصر عدد تلاميذ التعليم الخصوصي الابتدائي والإعدادي والثانوي في 1.150.000 تلميذ، مما يشكل نسبة 14٪ من مجموع التلاميذ المُمَدرسين في هذه الأسلاك ( أي ما يقرب من 8.208.000 تلميذ)، وهي نسبة تبقى بعيدة عن نسبة 20% التي كان مُخططا بلوغها سنة 2010، أي رغم مرور عشر سنوات على ذلك!
أعتقد أن هذه النسبة (14%) مرشحة للانخفاض لأن واقع المدرسة الخصوصية الحالي لا يشكل عامل جذب نظرا للصورة السلبية التي أصبحت رهينة له بفعل تداعيات قانون الطوارئ الصحية و عملية التعليم عن بعد التي قامت بشأنها الدنيا ولمّا تقعد
س 3 ـ معلوم أن المدرسة العمومية كانت دائما مجالا خصبا للاستثمار في القيم الوطنية وفي العنصر البشري، هل يمكن لتعليم خصوصي أن يلعب نفس الدور؟
بالتأكيد وإن كنت لا أخفي استغرابي لهذا السؤال ! وكأن المدرسة الخصوصية نبتة غريبة في محيطها!
فلا يجب أن ننسى الدور الذي قامت به المدارس الحرة في عهد الاستعمار ! فقد ساهمت في خلق ثقافة مواطنة ومقاومة، وكانت عامل جذب لكثير من الأسر التي سجلت أبناءها في هذه المدارس.
طبعا السياق غير السياق! ذكرته فقط لأبرز أن التعليم الخصوصي هو جزء من هذا الوطن ويحمل نفسَ قِيمه، ولا يكمن أن يكون إلاّ كذلك!
هذا بغض النظر عن المقررات الدراسية التي هي نفسها التي تُدرس بالتعليم العمومي وكل المواد الحاملة للقيم تزخر بمعاني الوطنية الحقة التي تعمل الأطر التربوية والإدارية على تكريسها.
ويكفي أن تزور مواقع التواصل الاجتماعي ومنصات الأنترنت لمؤسسات التعليم الخصوصي خلال المناسبات الوطنية الدينية والوطنية ليتضح لك مدى الاهتمام بهذه المناسبات والمجهودات الكبيرة التي يبذلها فريقها التربوي من أجل ترسيخ القيم الوطنية والدينية لدى التلاميذ.
س 4 ـ كيف نفسر إقبال المغاربة على التعليم الخصوصي؟
الاقبال اسم مشتق من فعل أقبل الذي يفيد التوجه الإرادي نحو شخص أو جهة !
هل يتعلق الأمر إذا بتوجه إرادي أم هو في الواقع إدبار عن التعليم العمومي ؟ أي مكرهٌ أخاك لا بطل !
الإحصائيات المذكورة سابقا تفيد هذا المنحى بانتقال نسبة التمدرس في التعليم الخصوصي من 4% إلى 14% في غضون العشرين سنة الأخيرة
لا شك أن تطور التعليم الخصوصي ارتبط بتشجيع الدولة كما ذكرت سابقا، كما أن جاذبيته ارتبطت أساسا بظهور طبقة متوسطة جديدة رأت في التعليم الخصوصي فرصة لتمكين أبنائها من امتطاء المِصعد الاجتماعي، خصوصا من خلال تركيز هذه المدارس على اللغات الأجنبية، أساسا اللغة الفرنسية، منذ التعليم الأولي
وتزامن هذا التوجه مع الجاذبية التي فقدتها المدرسة العمومية لعل من أبرزها المغادرة الطوعية والتقاعد النسبي التي أفرغتها من ألمع أطرها دون أن يتزامن ذلك مع تجديد هذه الأطر بوتيرة مناسبة في الزمان والمكان ممّا خلق اكتظاظا لا زالت تعاني منه المدرسة العمومية إلى الآن. يضاف إلى ذلك شعور الآباء بأمان أكثر لدى وضع أبنائهم في المدرسة الخصوصية لاعتبارات موضوعية تتعلق بنسبة التأطير وعدد المتدخلين في عملية الحراسة مقارنة بالمدرسة العمومية
س 5 ـ خلال أزمة كورونا عاشت المدرسة الخصوصية جدلا قويا جراء مطالبة بعض مسؤوليها بالتعويض المالي من صندوق محاربة الوباء، ونتيجة ذلك قوبل مطلبها باستهجان كبير من قبل المغاربة من جانب، ومن جانب آخر أحدث نوعا من سوء التواصل بين الآباء والمؤسسات الخصوصية جراء مطالبتها بالاستمرار في أداء الواجبات الشهرية. هل ممكن ان تضعنا في حقيقة ما حصل؟
تعيش المدرسة الخصوصية منذ صدور قانون الطوارئ الصحية وتفعيل عملية التدريس عن بعد أسوأ فتراتها منذ صدور أول قانون يتعلق بالتعليم الخصوصي سنة 1959 ( ظهير رقم 1-59-049 الصادر بتاريخ 1 يونيو 1959)!
ولا شك أن تداعيات أزمة كورونا أربكت عددا من الفاعلين بالقطاع التعليمي الخاص والعام، من ضمنها بعض الجمعيات الممثلة للقطاع الذي كان خروجها غير موفقا، تحت ضغط الإكراهات التي واجهها القطاع، غير أنها سرعان ما اعتذرت عن ذلك! لكن ذلك لم يشفع لها!
وزاد الطين بلة تصريح وزير التشغيل بخصوص المدارس الخصوصية التي طلبت الاستفادة من صندوق التضامن الذي أنشئ ، رغم َ أنطلبها قوبل بالرفض، بل وصدر مرسوم مؤخرا يلزم المدرسة الخصوصية بالاستمرارية البيداغوجية إلى نهاية السنة، وبالتالي عدم أحقيتها في الصندوق باعتبار أن هذه المدارس لم ولن تتوقف عن الخدمة
بعد تصريح الوزير هذا، ازداد اشتعال النار في القطاع، ولا زالت النار لم تخمد إلى الآن ولا أحد يعلم إن كانت ستُخمد أم سيزيد أوارها هذه الأزمة تعكس علاقة “غير رضائية” منذ البداية بين أولياء أمور التلاميذ وبين المدرسة الخصوصية. فعند كل دخول مدرسي يتجدد النقاش حول المدرسة الخصوصية وشروطها المادية المجحفة وتضج الجرائد ووسائط الاتصالات الاجتماعية بالانتقادات والسب والقذف فيحقها وفي حق مؤسسيها، يتبارى في ذلك رجل الشارع والمثقف وأولياء أمور التلاميذ ” اللي قاريين” !
وأقصد بالعلاقة الغير الرضائية تلك العلاقة التي ذكرتها في السؤال السابق التي لم تبن على الإقبال على التعليم الخصوصي، بل على الإدبار من التعليم العمومي.
هذا هو الأساس في نظري! أما الباقي فهو تفاصيل. فلو كانت العلاقة رضائية ومبنية على الثقة المتبادلة بين الطرفين ( المدرسة بمؤسسها وكافة أطرها من جهة، وأولياء الأمور من جهة أخرى) لما اتخذت هذه العلاقة طابع الصراع الوجودي بين الطرفين زادته حدةً الحريةُ المنفلتة التي تتيحها وسائط التواصل الاجتماعي وعدد لا يستهان به من بعض أصحاب البذلة السوداء الذين عجّت بتصريحاتهم هذه المواقع دون استحضار أي حسّ تحليلي وقانوني يناسب ظروف الطوارئ الصحية، اللهم استحضار بعض المسوغات العقلية (وليست القانونية ) لا تغيب حتى عن تلميذ السنة النهائية من الثانوي.
لكن ظاهر المشكل مادي، و يتعلق بأداء كلي أو جزئي أو إعفاء كلي للرسوم المدرسية المتعلقة بثلاثة أشهر ( أبريل وماي ويونيو). 3 أشهر كانت كافية لإعادة النظر في علاقة تمتد 140 شهرا وهي المدة التي يقضيها التلميذ بالمدرسة منذ التحاقه بالتعليم الأولي إلى حين حصوله على شهادة الباكالوريا! وكأن تعَلّمات ومهارات هذه الأشهر الثلاث ستحدد مسار التعلمات المستقبلية، بل ستهدد مستقبل التلميذ نفسِه إن لميتمكن من اكتسابها حضوريا !
تضررت صورة المدرسة الخصوصية ضررا بالغا رغم المجهودات التي قامت بها الأطر التربوية. فقد تضاعف جهدها واستطاعت أن تتكيف بسرعة مع ظروف الحجر الصحي وقامت بالتدريس عن بعد آخذة بعين الاعتبار محدودية هذه الطريقة، لكن ذلك لم يشفع لها لدى شريحة واسعة من أولياء أمور التلاميذ الذين اعتبروا أن التعليم عن بعد لا يعدل التعليم الحضوري، وبالتالي المطالبة بتخفيضات جماعية وغير واقعية بل وإعفاءات كلية، في حين أن معظم المدارس الخصوصية تبنت مقاربة تضامنية لكن فردية، حسب تغير الحالة المادية لكل ولي أمر، وهي المقاربة الأنجع في نظري لأنها تكرس مبدأ التضامن الذي يجب أن يتحلى به كل مواطن مغربي وكل مؤسسة مغربية، كما تروم تحقيق العدل في تقاسم آثار هذه الجائحة.
أعتبر شخصيا أن من حسنات هذه الجائحة أنها أظهرت ما كان خامدا بخصوص هذه العلاقة الضد الطبيعية بين المدرسة الخصوصية وأولياء أمور التلاميذ.
وهي فرصة حقيقية لبناء علاقة جديدة مع كل ما يقتضيه البناء الجديد من هندسة جديدة !
س 6 ـ تتحدث بعض الأوساط الإعلامية على أن “السومات” المالية التي تطالب بها المدارس الخصوصية مرتفعة بالنظر إلى ميزانية الأسر المغربية؟
الحديث عن الرسوم المدرسية بالتعليم حديث لا ينتهي ! لأنه يلامس في العمق الفوارق الاجتماعية بالمغرب ومبدأ تكافئ الفرص، ولا يتسع حيز هذا الحوار لإحاطة الموضوع من كافة جوانبه
فقط أريد أن أنبه إلى مقاربتين اثنتين:
المقاربة القانونية وهي مقاربة محسومة لأن موضوع الرسوم المدرسية مؤطر بالقانون رقم 104-12 المتعلق بحرية الأسعار والمنافسة، وهو القانون الذي يسمح باعتماد السعر المراد تطبيقه بكل حرية شريطة إشهاره وبيان عناصره. وفي هذا الصدد، لا يوجد أي التباس في الأمر ما عدا رسوم التسجيل التي يتعمّد البعض تسميتها برسوم التأمين، لتكريس الصورة السلبية لدى الناس لتبرير جشعها ! في حين أن المدرسة الخصوصية تسمي ذلك رسوما للتسجيل! وهي تغطي أساسا التجهيزات اللازمة وأداء شهري يوليوز وغشت، وذلك ضمانا للاستقرار النادي والنفسي للأطر التربوية، على غرار الأطر العاملة بالتعليم العمومي. وفي هذا الإطار تتراوح السومة المدرسية الشهرية من 400,00 درهم إلى 4.000,00 درهم أو أكثر ! وهو فرق يقتضي أن نتكلم عن المدرسة الخصوصية بصيغة الجمع!
وهو ما يجرني إلى المقاربة الثانية وهي مقاربة تربوية و سوسيولوجية، وهي أن المدرسة المغربية الخصوصية والعمومية انعكاس أمين للمستوى الاقتصادي لمختلف مكوناته الاقتصادية والاجتماعية، وهو اختلاف بيّن وصارخ بين مختلف فئاته. فلا يجب أن نطلب من المدرسة الخصوصية أن تعكِس صورةً لغير واقعها! هي مرآة ! والمرآة تظهر ذواتنا ، فإذا تغيرت ذواتنا عكست المرآة هذا التغيير بكل أمانة.
لا يجب أن يفهم مما قلت أن هذا التفاوت في الرسوم أمر طبيعي! بالتأكيد أن الأمر غيرُ ذلك، كما أن اعتماد آلية محاسباتية تحليلية و قانونية تحدد طريقة احتساب بنية الرسوم وليس الرسوم بكل شفافية ممكنة! يبقى إعمال ذلك من شأن الفاعل السياسي والاقتصادي ومدى تقديره لراهنية وآنية التغيير
س 7 ـ ما هي في نظرك الإجراءات اللازمة لبناء الثقة بين المدرسة الخصوصية والمواطنين؟
الثقة حالة فردية و مجتمعية قبل أن تكون مسألة قطاعية، لذا يتعسّر خلق مناخ من الثقة بين المدرسة الخصوصية وآباء التلاميذ داخل فضاء عام سِمتُه عدم الثقة أو التوجس في الفاعل السياسي والفاعل الاقتصادي و مؤسسة القضاء والمنظومة الصحية العمومية والخاصة
فالمدرسة الخصوصية مكون من مكونات المجتمع المغربي ويعتريها ما يعتريه. غير أن الاحتقان الحالي مع الآباء أضاع ما تبقّى من سمعة المدرسة الخصوصية دون ذنب جنته لتحصد هذا الدفق الهائل من الكراهية والتشويه والشيطنة !
ولا سبيل لبناء الثقة بين المدرسة الخصوصية وآباء التلاميذ بعد هذا الذي حصل سوى خلق تعاقد جديد، تقوم فيه الدولة بدور محوري ، تعاقد تكون بوصلته الوحيدة مصلحة التلميذ التربوية والتعليمية و الدور الأساسي المطلوب من الدولة هو تكوين أساتذة أكفاء وبلورة عقد شغل خاص بقطاع التربية والتكوين مُلزم للطرفين. فلا سبيل لتعاقد جديد مُنتج و فعال دون كرامة رجل التعليم المادية و المعنوية، فهي المبتدأ و الخبر!
كما وجب التذكير أن الثقة ليست ترفا! فهناك حقل معرفي وعلمي قائم بذاته يسمى اقتصاد الثقة ، يسعى لإبراز دور الثقة في الرفاه الاقتصادي والاجتماعي للشعوب. ويعتبر كينز(Keynes ) من أشهر الاقتصاديين الذين قعّدوا للعلاقة بين الثقة و الاستثمار.
س 8 ـ كلمتك الأخيرة في هذا الشأن.
لا يمكن للتعاقد الجديد وحده بناء علاقة صحية بين المدرسة الخصوصية وباقي الفاعلين المهتمين من ضمنهم أولياء الأمور. فأي علاقة تعاقدية مهما بلغت درجة عصريتها وشموليتها وتوازنها ستكون حتما غير مكتملة. فقد طور عالم الاقتصاد أوليفر حارت Oliver HART نظرية العقود غير المكتملة نال بها جائزة نوبل للاقتصاد سنة (2016) ، مفادها أن أي تعاقد كيفما كان نوعه هو بالضرورة غير مكتمل، لتعذر الحصول على كافة المعلومات والتوقع القبلي لكافة الحالات التي سيشملها هذا التعاقد.
بعبارة أخرى، إذا كان بناء صرح الثقة يمر عبر تعاقد جديد، فالتعاقد وحده لا يكفي، لكنه ضروري للمرور من علاقة الثقة إلى ثقافة الثقة، وحدها الكفيلة بحل كل إشكالات التعاقد البعدية.
أجرى الحوار عبد الإله المويسي