اسم الفنانة “صباح زيداني” من الأسماء التي تؤسس حضورها الفني بشكل قوي في وجدان المغاربة من خلال اتجاهها نحو اقتراح نموذج طربي راق يشتغل على نصوص شعرية تحظى باستقبال وتقبل قويين من قبل الذائقة المغربية الأصيلة.
قد يكون ذلك نابع من اختيارها وميلها إلى طبيعة الفن الطربي الأصيل الذي يحظى عادة بالتقدير الكبير، غير أن ما تمتلكه الفنانة صباح من خصوصيات على مستوى خامة صوتها وطريقتها في الأداء وحرصها على أن تجد لنفسها أسلوبا يميزها عن غيرها هو الذي جعلها تؤسس اسما يتعلق به المستمع المغربي، وجعلها تحفر تجربة أملت احترامها على الأذواق.
أكيد أن هذا الاسم يحضر في مشاعر المغاربة، لكن ما يحتاج إلى التأكيد أكثر هو الدور الذي ينبغي أن تضطلع به الجهات المسؤولة عن دعم تجربة الفن المغربي في التتويج اللازم لمثل هذه التجارب التي هي في أصلها دبلوماسية موازية تخدم صورة المغرب ومكانته أمام باقي الشعوب.
التقت بها الشمال وأجرت معها الحوار التالي.
س1ـ فنانتنا صباح نبدأ معك بالسؤل التقليدي حول البدايات الأولى التي مهدت لمجيئك إلى عالم الغناء؟
- بدأ ولعي بالموسيقى والغناء منذ الطفولة؛ إذ سيصبح جزءا لا يتجزأ عن روحي وكياني، وذلك ما أذكته نشأتي في محيط يتنفس عبق الفن الأصيل. ولولوج الميدان الفني كان لابد من صقل الموهبة بالدراسة حيث سألتحق بالمعهد الموسيقي بمراكش، وبعد ذلك سأخوض تجارب فنية متنوعة عبر المشاركة في مهرجانات وطنية ودولية كالمهرجان الربيعي للأغنية المغربية، والمشاركة في العديد من اللقاءات والسهرات الفنية والثقافية. ولاكتساب خبرات أكثر لتطوير كفاءاتي الذاتية، اشتغلت مع عدة مجموعات كفرقة موسيقى الأطلس، وفرقة أصدقاء الموشحات، وبعد ذلك أسست فرقة جسور للموسيقى التي تهتم بالتراث المغربي والعربي.. وفي إطار التلاقح الفني والثقافي بين المغرب ومختلف الدول الأخرى، وخاصة الأوروبية، قمت بالاشتغال مع فرقة “Olla Vogalla” الفلامانية البلجيكية، وفرقة “أنانيا” للرقص المعاصر ثم ورشات تجمع بين الموسيقى والشعر والطرب.
س2 ـ أين يمكن تصنيف تجربة الغناء عند الفنانة صباح؟
- تصنف تجربتي الغنائية نفسها بنفسها؛ إذ يمكن للمتلقي أن يدرجها داخل النمط الغنائي الأصيل الذي يعتمد على الكلمة الشاعرية، والرسالة الهادفة، والأساليب الموسيقية واللحنية المدروسة التي من شأنها الرقي بالذوق الفني العام، وتساهم في الإضافة والتطوير. فقد كانت لي تجارب عدة مع الزجل المغربي في كل من “دارنا يا دار السلام” للشاعر عبد الهادي شوهاد، والملحن عثمان جنان، و”أمر غريب” لمحمد عاطفي زجلا، وألحان بدر الدين وهابي.
س3 ـ أنجزت مؤخرا أغنية اشتغلت فيها على نص تراثي من ديوان الإمام الشافعي. ما هو السياق والخلفية الثقافية لهذا الاختيار من جانب، ومن جانب آخر كيف تنظر الفنانة صباح إلى علاقة الأغنية المغربية بالشعر العربي سواء الكلاسيكي أم الحديث؟
- في ظل هاته الظروف العصيبة التي تمر منها البشرية، وفي إطار اشتغالي المتأني الفني الذي يزاوج بين التجديد والمحافظة على الأصالة والتراث، اشتغلت على العديد من الأغاني الروحانية لشعراء ومتصوفة من بينهم أبو مدين الغوث وابن الفارض.. وضمن هذا التوجه، اخترت بمعية الملحن والموزع يوسف قاسمي جمال أبياتا شعرية من قصيدة “سيفتح باب…” للإمام الشافعي، وهي قصيدة بليغة تخاطب الروح والوجدان، وتفتح باب الأمل. فقد اعتمدت في مدخلها على ارتجالات صوتية كما وظفت فيها أنماط مختلفة من الموسيقى المغربية كالإيقاع البطايحي الأندلسي، وفن الملحون مع لمسة حسانية يلخصها طبع “الزريگة”.
وفيما يتعلق بالشق الثاني من السؤال، فقد ظلت القصيدة المغناة سواء الكلاسيكية أم الحديثة وفية لعشاقها على مر الزمان، فلا يمكن أن ننسى خالدات الرواد كالراحلين المبدعين أحمد البيضاوي وأحمد الغرباوي.. والقصائد الدسمة للعبقري عبد الرحيم السقاط، والمطرب المخضرم عبد الهادي بلخياط.. لكن القصيدة المغناة قد عرفت اضمحلالا باديا في العشرين سنة الأخيرة نظرا لانتشار الأغنية الخفيفة ذات القد عرفت اضمحلالا باديا في العشرين سنة الأخيرة نظرا لانتشار الأغنية الخفيفة ذات الإيقاع السريع والمضمون الضحل الذي أفقدها الجودة والأصالة كما أنه يغلب عليها الطابع التجاري المحض.
س4 ـ هل الفنانة صباح راضية عما قدمته لحد الآن من منجز غنائي؟
- لا يمكن للفنان الذي اختار نفس الطريق التي سرت فيها أن يرضى عما وصل إليه الفن الآن خاصة وأن لكل فنان مساره الخاص الذي تتدخل فيه عدة عوامل كالتنشئة الفنية، والقناعات والميولات الذوقية والفنية والفكرية. فمن المعلوم أن مثل هاته الأغاني لا تجد من ينتجها ويتبناها لأن السائد مرتبط بالطوندونس والاستهلاك المدعوم بالبرامج الإلكترونية التي قتلت الوجود الفعلي للآلات، وحولت الأغنية إلى صناعة شبه كاملة داخل الاستوديوهات، وأفقدت الأصوات قوتها الفعلية. وفي ظل هذا الوضع فمن الطبيعي أن تكون وثيرة إنتاجاتي ضئيلة في غياب منتجين لها.
س5 ـ ما تقييمك للأغنية المغربية الطربية؟
- تعرف الأغنية المغربية الطربية شأنها شأن الأغنية العربية المماثلة لها فوضى عارمة بسبب ارتباطها بثقافة “البوز” والبحث عن الشهرة والربح المادي السريع على حساب كل ما هو هادف وسامي. فالوضع الفني مرآة لما يجري في المجتمع، وهي متأثرة بما يحدث فيه من اختلالات في الثقافة والفن بصفة عامة، فلا يمكن لمجتمع يفتقر للمعاهد الفنية وتراجع التربية الموسيقية أن يعطي فنا متكاملا، وجمهورا متذوقا. لذلك، ولأجل إرضاء نفسي العاشقة للطرب الرفيع، فأنا أتحمل تبعات اختياري الذي لم يضع في حسبانه منذ الأول تجاوز حدود الممكن، فأنا لا أستطيع أن أجعل الشهرة مقدمة للفن.
س6 ـ ما تقييمك للأغنية الشبابية؟
- في نظري المتواضع هناك أغنية جيدة وأخرى رديئة بغض النظر عن الفئة الموجهة لها، فقد غنى عمالقة الطرب العربي من أمثال عبد الحليم حافظ ووردة الجزائرية وذكرى.. عدة أغنيات وصفت حينها بالخفيفة والشبابية ولكنها لم تفتقد لمقومات تحترم صقواعد وضوابط فنية وجمل موسيقية لحنية مدروسة وكلمات هادفة تحترم ذكاء المستمع وترقى به فضلا عن الصوت الذي يمتلك إحساسا وإمكانيات قادرة على تقديم العمل الفني ككل منسجم، وذلك بغض النظر عن مدتها الزمنية، فالسائد اليوم في الساحة الغنائية لا تتوفر فيها هذه المعايير لأننا نستمع لأصوات تغني في مقام واحد، ولموسيقى تتكرر نفسها باستمرار ولكلام لا يبتعد عما هو موجود في الشارع من لغة مسكوكة وعادية لا تفتح مجالا للخيال والإبداع.
س7 ـ تميزت الفنانة صباح بأدائها للفن الطربي، هل تفكرين في تغيير المسار عبر تبني أساليب توظف التقنيات الحديثة ولربما تنزاح بالأغنية المغربية إلى آفاق مغايرة لما عرفت به؟
- فضلا عما أشرت إليه من ظروف النشأة والتكوين، ساهمت ظروف أخرى في ما أنا عليه الآن من قبيل لقاءاتي بالمغرب بأصدقاء موسيقيين وملحنين وكتاب كلمات وشعراء، وبفنانين أكاديميين من ثقافات أخرى خلال ورشات الاشتغال والمزج الصوتي بين فنانين وأكاديميين من فرنسا واليابان وإيطاليا وبلجيكا.. وعرب من مصر والسودان وسوريا وتونس والجزائر.. عوامل مكنتني من انتقاء أعمال إبداعية تروم البحث الذي لا يحيد عما هو عميق كما هو الحال في ورشات الشعر والغناء والموسيقى، والتي وإن بحثت عن التجديد فإنها قد تمسكت بروح الطرب والإبداع الموسيقي.
س8 ـ كيف تقيم الفنانة صباح اهتمام التلفزيون المغربي ووسائل الإعلام بشكل عام بالأغنية المغربية؟
- شاركت في جل البرامج والسهرات التلفزيونية والإذاعية التي تهتم بالطرب الأصيل منذ برنامج “نجوم الغد” والبرنامج الإذاعي “أنغام” وصولا إلى “شذى الألحان” و”السهرة لكم” و”نجوم الأولى” و”ألحان عشقناها”.. ولكنها تظل غير كافية في ظل عدم انتظام وثيرة الإنتاج والإقبال على النمط الذي أسير فيه.. فقد بات الإعلام يهتم أكثر بأخبار “نجوم” اليوتوب والتوندونس التي صارت معايير لتقييم عمل الفنان من حيث عدد المشاهدات والمتتبعين مع العلم أنها قابلة للاقتناء.. فقد اخترت أن تكون قناتي على اليوتوب غير خاضعة لشراء عدد المشاهدين واللايكات.. فكل مشاركاتي جاءت بفضل الباحثين عن الأصوات المغايرة، ولذلك لابد من شكرهم، وشكر الإعلاميين من أمثالك الذين دعموا مساري وثاقوا بما قدمته من أعمال فنية رغم قلتها.
س9 ـ ما العمل الفني الذي تتمنى صباح لو أنها هي من أدته؟
- أعشق عدة أغاني لمطربات عربيات عظيمات طالما أعدت غناء أعمالهن من مثل أم كلثوم وفيروز ووردة ونجاة الصغيرة وذكرى.. ولكنني أتمنى أن أغني أغنية “الربيع” للموسيقار فريد الأطرش، ولكن بنفس الإمكانيات (قاعة الأوبرا، الفرقة الموسيقية، الجمهور…).
س10 ـ ما الذي تطالب به صباح المعنيين بالأغنية المغربية.. مسؤولين.. ملحنين.. منتجين.. مستمعين.. كتاب كلمات.. وغيرهم؟
- ماذا عساني أطلب أكثر من الاهتمام بكل ما هو أصيل ومرجعي بالموازاة مع الاهتمام بالتقليعات الفنية التي تحاصر المستمعين من كل جانب، فيجب ألا ننسى بأن الدول الراسخة في الفن تدعم الأنماط الغنائية المرجعية كالأوبرا والكلاسيكيات والفن التجريبي وغيرها مما لا يهتم به السوق الفني.
س11 – ما هي آخر مستجدات الفنانة صباح؟
- غالبا ما يكون اشتغالي الفني بتأن وترو حيث أحاول دوما المزاوجة بين التجديد والروافد المرجعية للغناء المغربي والعربي، وذلك ما يجعلني أخوض تجارب قليلة ومتنوعة، وفي بعض الأحيان مغامرة كما هو شان اختياراتي الأخيرة التي انفتحت على الشعر المغربي المعاصر كقصيدة “كن لي قليلا” للشاعر بوجمعة العوفي والملحن خالد بدوي، وقصيدة “انس ما شئت” للشاعر عبد الهادي السعيد، والملحن خالد إصباح، و”مشتقالك” للمؤلف والموسيقي السوري، المقيم بأمريكا، داود سلامي وصولا إلى قصيدة “سيفتح باب” للإمام الشافعي، ولحن وتوزيع يوسف قاسمي جمال الذي أخوض معه تجربة أخرى بمسحة دولية وشعر مغربي معاصر سنكشف عنها في حينها. وأنا أيضا بصدد تجربة عربية مع الملحن السوري مراد الأشقر، المقيم بالأرجنيتن بعمل فني تحت عنوان “علمتني” باللهجة السورية.
س12 – كلمة أخيرة لقراء جريدة الشمال؟
- لا يسعني إلا أن أشكر جريدة الشمال المتميزة، وطاقمها الأنيق الذي اهتم بتجربتي وخصوصا الشاعر عبد الإلاه المويسي الذي ينقب عن التجارب الفنية المغايرة.
حاورها : عبد الإله المويسسي