س1 ـ نبدأ بالسؤال حول البدايات الأولى لالتقائك بالسماع، والتي ستمنح المغرب هذه الموهبة المميزة؟
بدايتي كانت بالزاوية الدرقاوية بمدينة طنجة، كنت أصاحب جدي إلى عدة أماكن مقدسة مثل : مسجد القصبة والجامع الجديد حيث كان مولعا بقراءة الحزب الراتب، لكن الزاوية الدرقاوية كانت معروفة بمجالس الذكر والمذاكرة،كل يوم جمعة بعد صلاة العصر حتى صلاة العشاء يقوم المادحون بتلاوة البردة بالطريقة الريسونية الطنجاوية مع تخليلات مديحية بين وقفاتها مع استظهار للإنشادات الأندلسية التي عشقتها منذ أن كان عمري عشر سنوات.
في هذه الأجواء تربيت مع شيوخ السماع الذين أخذوا بيدي ولقنوني عدة أمور اتخذتها
منهاجا لي في مسيرتي وتجربتي الفنية.
س2 ـ أين يمكن تصنيف تجربتك الفنية؟
تجربتي الفنية تصنف ضمن العالم الجمالي للنغم المغربي الأصيل،فقد تخصصت في كل ما هو راسخ في القدم من حيث الألحان المغربية الأصيلة دون تمييع ـ كما فعل أغلب المنشدين المرتزقةـ واجتهدت في حفظ الغريب من الصنائع الأندلسية والأدوار الزاوياتية
التي غابت عن الكثيرين،وكلما أتيحت لنا الفرصة نخرج بعض الدرر إلى الوجود لكي تنضاف إلى الساحة الفنية.
فقد استفدت من مشايخ المديح والسماع في طريقة غنائهم الأصيلة التي تعتمد على مخاطبة القلب والروح قبل مخاطبة الأذن، وكلما كان المطرب من هذا الصنف كلما كانت تجربته أعمق وأرقى من الآخرين.
كما أنني مزجت بين الغناء والعزف على آلة العود وآلات الإيقاع مما جعلني أسير على نهج موسيقي قاعدته قوية وأساسه متين.
س3 ـ هل أنت راض عن ما قدمته لحد الآن في مشوارك؟
في الحقيقة،لا يمكن لفنان ملم بخبايا الفن أن يكون راض عن فنه أتم الرضى ،لا سيما إذا كان هذا المشوار يصب في الموسيقى الصوفية،فهي بحر لا ساحل له وكلما تعلمت شيئا وجدت أنه يؤدي بك إلى أشياء أخرى وهكذا.
منذ صغري تعلمت أن إتقان كل عمل فني أقوم به هو في حد ذاته نجاح،فقد سجلت عدة أعمال سمعية وبصرية داخل المملكة المغربية وخارجها والتي صارت الآن مرجعا في الموسيقى الصوفية والآلة،وقد تخرج على يدي مجموعة من الطلبة الذين صاروا بدورهم يشكلون لبنات مهمة في الأجواق الرسمية في كل المحافل.
لكن مشوارنا الجمالي لا حدود له، كما يقول الفيلسوف الألماني (كانط):إن الجميل ليس ما يرضيني فحسب بل هو ما يرضي جميع الناس.
ونحن نعمل جاهدين على المضي قدما في الاجتهاد سائرين على النهج الذي سطره لنا المشايخ.
س4 ـ ما العمل الفني الذي تتمنى لو أنك من أنجزه؟
هناك أعمال تمنيت لو أنني كنت فقط مشاركا فيها لأن إنجازها ليس بالشيء السهل منها :
بعض تسجيلات جوق الإذاعة الوطنية لموسيقى الآلة برآسة مولاي أحمد الوكيلي، لا سيما التي سجلت بين عام 1957 و 1968 والتي عرفت ازهارا لا حدود له من ناحية الغناء والعزف.
وفي السماع كانت هناك تسجيلات قديمة تعود للستينيات من القرن الماضي تضم خيرة المنشدين من جل المدن المغربية منهم : سيدي عبد السلام الشبيهي ـ الفقيه الحياني ـ الإخوة العمراويين ـ المنصوري ـ مولاي عبد الله الوزاني … كنت أتمنى لو حضرت معهم مجلسا مباشرا داخل الإذاعة.
كما أنني في استماعي للتسجيلات القديمة للزاوية الحراقية بمدينة تطوان أحس بقوة روحية في الغناء والإيقاع لا توجد في أماكن أخرى وأبدأ بتخيل نفسي معهم في عهد الشيخ سيدي عرفة الحراق رضي الله عنه.
اللائحة طويلة لهذه الأعمال الفنية الجميلة ولا يمكن حصرها.
س5 ـ ما هو تقييمك لفن السماع بالمغرب الآن؟
السماع المغربي في الوقت الراهن عرف تغييرا ملحوظا،فاليوم نرى أن هناك مجموعة من الجمعيات التي تعنى بهذا الفن والتي خلقت له فضاءات جديدة لممارسته بعد أن كان مقتصرا على الزوايا وأماكن العبادة.
في القديم كان المنشدون يحفظون مئات القصائد، حتى إن بعضهم لن تسمع منه قصيدة تكرر إلا بعد مرور شهور عديدة،عكس اليوم الذي نجد فيه المنشدين فارغين من دورهم،
لا يحفظون إلا تلك الأشعار التي سيؤدونها في الموال ( الاستخبار) وأغلبها مكرر.
قديما كانت الأشعار محفوظة في الصدور أما اليوم فهي مكتوبة فقط في السطور،إن أغلقت لهم الكتاب فلن تجد من يتبعك.
أما من ناحية المظهر الخارجي للمادحين فقد صرنا نستحيي أن نقول أننا ننتمي لهذا الميدان بينما لو رأيت صور المنشدين القدماء لتلمست فيهم ذاك الوقار المقرون بنظرة العلماء والصالحين.
خلاصة القول : زينوا المظهر وأتلفوا الجوهر.
لكن هذا لن تجده في الشباب الذين تربوا في الزوايا وحلق الذكر،وهنا يكمن الفرق.
س6 ـ ما هو تقييمك للأغنية المغربية بشكل عام؟
إن كانت الأغنية المغربية مبنية على الكلام الجميل والهادف مع اللحن المطلوب فهي ما نصبو إليه في وقتنا الراهن لمكافحة هذه الألوان الموسيقية التي لا تمثلنا ثقافيا ولا تاريخيا.
إن العائلات المغربية الأصيلة صارت مشتاقة إلى ذاك الفن الهادف الذي كان في العهد الذهبي للأغنية المغربية.
أتمنى أن يعاد النظر في مثل هذه الأمور من طرف المسؤولين الفنيين المشرفين على القنوات التلفزية.
س7 ـ كيف تنظر إلى اهتمام التلفزيون المغربي بهذا الفن؟
التلفزيون المغربي خصص للفن الصوفي والتراثي حلقات موسمية خجولة جدا لا تذاع ولا تشاهد إلا في مناسبات معدودة، مما جعل هذه الفنون تصير غريبة في ديارها ولهذا أقول للمشرفين على البرامج الفنية : إذا أسندت الأمور لغير أهلها فانتظر الساعة.
س8 ـ ألا تعتقد أن فن السماع منغلق على ذاته؟
فن السماع لم يكن يوما منغلقا على نفسه، فكونه كان يتواجد فقط بالزوايا لا يعني أنه منغلق،بل يعني أنه مقدس،والمقدس في عرف كل الشعوب لا يأتي إلى الناس بل يؤتى إليه.
ويقع الدور هنا على الإعلام كما قلنا،فمن الواجب على القنوات المغربية أن تقوم بإيصال هذا الفن إلى المشاهد والمستمع داخل بلادنا وخارجها عن طريق البرامج المتواصلة التي تهتم بهذا الفن المغربي الأصيل لكي تعتاده الآذان.
ومعروف عن السماع المغربي الأصيل أن له تأثير جميل على النفوس والأرواح وبه تتقوى الأبدان،وقد وصفه أهل الذوق بأنه مثل الشراب الذي كلما نهلت منه إلا وازددت عطشا والذي لا يقدر بثمن :
من ذاق طعم شراب القوم يدريه ومن دراه غدا بالروح يشريه
أسأل الله أن يعرف المغاربة قدر فنهم الروحي ويدافعوا عنه بأرواحهم، لأن الشعوب التي لا تعرف هويتها يكون مآلها الزوال.
س 9 ما هي نصيحتك للمادحين الشباب ؟
أنصحهم بالبحث عن جوهر السماع الصوفي داخل الزوايا وليس خارجها،وأن يتخذوا لهم شيخا ملقنا يأخذون عنه أصول السماع الصوفي بدل الحفظ الأعوج من آلات التسجيل.
علم السماع مبني على التلقين المباشر ليكون السند صحيحا، بالتلقين تكون النظرة التي يفتح الله بها أبوابا لا تفتح لكثيرين.
فمن تواضع وتعلم اغتنم، ومن لم يفعل كان شيخه الشيطان.