5 – في مبادرة جمعت بيت الشعر في المغرب ومؤسسة الرعاية التابعة لصندوق الإيداع والتدبير، شاركت، قبل أشهر، إلى جانب زميليك الفنانين عزيز أزغاي وعبد الله الهيطوط في معرض “ورد أكثر” التشكيلي، الذي كان لحظة احتفائية كبرى بالشاعر العربي محمود درويش في ذكرى رحيله العاشرة. كيف حضر الشاعر الكبير في أعمالك الصباغية، باعتبارك شاعرا وفنانا تشكيليا؟ وما السر في التئامكما أنتم الثلاثة، على اختلاف لمساتكم الفنية في مجموعة إبداعية؟
إنها تجربة مميزة جدا ، قادتنا إلى عوالم جمالية مدهشة ، و الفضل في ذلك يعود إلى بيت الشعر الذي احتضن التجربة و دعمها ، و شخصيا أستطيع القول إن محمود درويش رافقني في محطات أساسية من مسار كانت فيه القصيدة و آفاقها الرحبة محورا أساسا في اشتغال بصري لم يبتعد يوما عن تصور شعري للتشكيل و تشكيلي للشعر ، فقد قرأت لدرويش في سن مبكرة أعماله التي كانت متاحة آنذاك ،و توطد لدي ذلك الإحساس بالنموذج الشعري الكوني الإنساني الذي يمثله رفقة شعراء آخرين ، ذلك ما سيتجلى في معرضي ( أيادي الظلال 2010 ) الذي استحضرت فيه شعر درويش و عوالمه و أسئلته ، الآن أستطيع القول : إن شعر محمود درويش لا يزال يدعونا إلى المزيد من القراءة و السبر و التمثل بشكل أكثر عمقا و جدوى . إن تصوري لاستحضار محمود درويش تشكيليا نابع من عتبات القراءة القصوى لنصه ، فأحيانا يكون العمل اصطحابا و مصاحبة و أحيانا أخرى أعطي لنفسي فرصة استئناف المتخيل بصريا ، بحيث تصير الجمل الشعرية كتلا لونية و خطوطا و أشكالا يهندس أفقها ذلك الإيقاع التجريدي النابض في عمق النص عبر امتلاءاته و فراغاته . لقد كان النص الدرويشي مخبرا بصريا غنيا و مدهشا بالتفاصيل و الدلالات . و لأن صورة درويش الشاعر طبعت في ذاكرتي البصرية عبر ما كان يحمله ذلك الوجه من قلق و من حساسية أيضا فقد انجذبت إلى تأمل بورتريه الشاعر عبر حوارات لونية متحررة تحاول خلق تماه بين النص/ القصيدة و البورتريه /الشاعر .
بالنسبة للشق الثاني من السؤال ، فالحقيقة أن خيارنا الابداعي و الفكري هو من طرز هذه العلاقة ، الصديقان الرائعان عزيز أزغاي و عبد الله الهيطوط ، فنانان من طينة الكبار ، و ما جعل هذا الثلاثي يصير ذا قوة و أهمية في نظري ليس سوى جدية الاشتغال و البحث المشترك عن منجز بصري يقلب الطاولة على المتاح منذ عقود مغربيا و عربيا على الأقل . فكرة المجموعة لابد أن تنطلق من أسس معرفية و فلسفية مشتركة ، بحيث يحصل ذلك التكامل المنشود ، و الذي يظهر جليا في المنجز الجماعي ، نحن كفنانين ننتمي إلى الجيل ذاته وجدنا أنفسنا دون أن نخطط لذلك ، منخرطين في تصور موحد تقريبا للعملية الإبداعية ، ووجدنا أيضا العديد من الروابط الفكرية و الفلسفية التي دعمت رؤيتنا الجماعية كل من داخل مخبره الخاص و كل بحمولته الإبداعية و بأسلوبه و طرائق اشتغاله .
6 – يذهب بعض نقاد الفن إلى مقاربة تجربتك الصباغية باعتباره تراهن على مفهوم “الكاو”، بمعنى أنك تنطلق مما يعتبرونه “مشكلات لونية وشكلية” في بناء لوحتك. كيف تفسر للقارئ ذلك؟
طبعا تظل للناقد رؤيته الخاصة التي تقوم أساسا على قراءته وتأويله لدوال العمل الفني و اليات اشتغاله و كنت دائما أقول ‘ الاسئلة تتبع الفنان ، الأسئلة تقود الناقد ‘ . مفهوم ‘ الكاو ‘ يتجلى أحيانا في ما أقوم به من إنشاء و محو و تدمير داخل سلسلة التدخلات الصباغية ، و التي يقوم فيها اشتغالي خصوصا في السنوات الأخيرة على تفجير الثنائيات داخل فضاء السند بحيث أغذي صراعات بين الكتل اللونية و تقاطعاتها حتى تصل إلى ذروتها فيصير الفراغ مشحونا بكمية هائلة من الامتلاء غير المعلن و ذلك من خلال شفافيات أحيانا و أحيانا أخرى من خلال استثمار اللطخة و الخط و الأثر ، كل هذا الاشتغال يحكمه إيقاع مهيمن داخل اللوحة ، و بالتالي فالصورة النهائية للعمل تأتي بعد خلق توازنات جمالية ما ، و الخروج من تلك المشكلات اللونية بنسق بصري منسجم أحيانا و مثير أحيانا أخرى بحيث يصير وازعا لطرح السؤال ، و لربما يتخلل هذا الاشتغال الكثير من اللعب المفكر فيه الذي يظهر على شكل أثر ما أو حادثة لونية ما ، وهو إلى حد ما أيضا، ما كان قد فسر به غادامير قراءته للعديد من الآثار الفنية ، حيث ‘ اللعبة و النص ( اللوحة ) ينتميان إلى نفس المنطق ‘ ، انا استغل كل الإمكانيات المتاحة صباغيا لذلك فالتجريد التعبيري يظل ملعبي المفضل بمعنى ما . في ذروة هذا الاشتغال أفكر في اللوحة كجزء مني أو ربما نصير معا جسدا واحدا .
7 – تجمعك مسيرة إبداعية حافلة بالفنان المغربي المشهور فؤاد بلامين. ما سر هذه العلاقة؟
جمعتني بالفنان الكبير فؤاد بلامين صداقة إنسانية و إبداعية ، امتدت لعقد من الزمن و لازالت مستمرة ، اتسمت في فترة طويلة منها باشتغال يومي داخل مرسمه بالرباط ، حيث كان الفضاء الملهم و المكون ( من التكوين ) ، وكان فؤاد المعلم الكبير الذي كلما لمس شيئا أضاءه ، رجل ذو خبرة و تجربة و معرفة ، قضينا أياما و ليال في الرسم و في الحديث عن تاريخ الفن و مدارسه و خصوصياتها ، و أعتبر مرسمه جامعة حقيقية شكلت جانبا مهما من وعيي البصري و التشكيلي ، نظريا و تقنيا . مما انعكس على مساري الفني و على العديد من الخيارات التي شكلت معالم اشتغالي ، لذلك أعتبر نفسي مجظوظا جدا بهذه العلاقة الغنية و البانية .
8- كيف تجري تقييمك للمجال التشكيلي المغربي حاليا؟
المجال التشكيلي بالمغرب يعد بالكثير من الضوء برغم المشكلات العديدة التي تتربص به ،و أتساءل دائما ، ماذا لو كانت الأجواء في المغرب أكثر دعما ووقوفا إلى جانب الفن و الفنانين ؟ حتما سيكون الواقع الفني ببلادنا رائدا و سينال احترام العالم و تقديره . لقد قطع التشكيل بالمغرب مسارا مهما في إطار تأسيس ذاته مع العلم أنه لا يزال في بدايته ، فلا يمكن الحديث عن خطاب تشكيلي في المغرب إلا من داخل مسافة زمنية تفوق نصف قرن بقليل ، وبالتالي فما أنجزه هذا الخطاب إلى حد الآن يعتبر حصيلة مهمة . هناك في المغرب حساسية تشكيلية جديدة واعية بشرطها الزمني و الإبداعي ، تناقش إبداعها من منطلقات معرفية يحكمها التجريب ، هذه الحساسية لم تظل حبيسة المنطق الجغرافي و لا الثقافي الضيق ، بل شكلت حوارا بناء و تجاوبا مع المنجز البصري على الصعيد الكوني . و بالتالي صار العديد من المهتمين بالفن خارج المغرب يتابعون المنجز الصباغي الجديد و قد لعبت منصات التواصل الاجتماعي دورا مهما في إثارة الانتباه إلى الخطاب التشكيلي الجديد بالمغرب ، فحظيت بعض التجارب باهتمام و متابعة من المغرب و المشرق أيضا ، ضف غلى ذلك حضور الفنانين المغاربة في الملتقيات و السمبوزيومات الدولية و الذي شكل نقطة ضوء . على المستوى الشخصي أحاول دائما الحضور خارج المغرب و فتح أفق كوني لانتشار أعمالي ، توج ذلك بدخول بعضها في مزادات علنية عالمية مؤخرا ، كما هو الشأن بالنسبة لفنانين مغاربة آخرين .
9 – كيف تقيم اهتمام التلفزيون المغربي ووسائل الإعلام بشكل عام بالفن التشكيلي؟
الإعلام المغربي و خصوصا المرئي غائب تماما عما ينجز تشكيليا على أرض الواقع ، هناك فراغ مهول قد يكون له عواقب وخيمة على الذوق الجمالي لأجيال لاحقة ، نحن أمام إعلام ينتصر للتسلية وللمتعة العابرة شانه في ذلك شان باقي الإعلام العربي و أذكر ذات مرة أنني زرت مكتب صاحب مجموعة قنوات فضائية عربية معروفة بدبي ، و في إطار حديثنا اقترحت عليه برنامجا عن التشكيل العربي برؤية جديدة و مختلفة كليا ، فكان الجواب إن المواطن العربي مثقل بالتعاسات و الهموم ولا يمكن أن ينجح برنامج يحتاج من متلقيه رصانة و جدية ، إنه زمن الترفيه لا غير . إعلامنا المرئي لا يخرج عن هذه القاعدة ، و لا يقدم شيئا كثيرا عن الفن التشكيلي عدا بعض التغطيات للمعارض و بشكل سريع و مرتجل . أما بالنسبة للصحافة الورقية و الرقمية فقد ألمس بعض الاهتمام النابع اساسا من مبادرات نخبة من المثقفين الذين يكتبون عادة عن أصدقاء لهم من التشكيليين و ليس هناك – إعلاميا – استقراء و متابعة حقيقية لنبض المجال البصري بالمغرب إلا فيما ندر .و لعل وسائط التواصل الاجتماعي شكلت نقطة ضوء و مجالا حيا لتداول أخبار الفن و الفنانين على الرغم من بعض النقائص .
10 –ما العمل الفني الذي تتمنى لو أنك من أنجزه؟
كثيرة هي الأعمال التي أتمنى لو كنت من أنجزها إما لعظمتها أو لأنها شكلت بالنسبة لي نموذجا مثاليا لخطاب تشكيلي باعث على الدهشة و السؤال ، و إن كان لابد أن أذكر عملا ما في هذا الصدد فإنني سأذكر ‘ موائد الالهة ‘ لفؤاد بلامين les tables des dieux .هذه التجربة الطليعية التي شكلت لحظة إنجازها فارقا مهما في المنجز التشكيلي بالمغرب .
11 – ما الذي تطالب به المعنيين بالفن التشكيلي… مسؤولين.. فنانين ….نقاد…ومتلقين… وغيرهم؟
أتمنى من كل المتدخلين في المجال التشكيلي و الثقافي عموما إعادة النظر في سياسات التعامل مع هذا المجال و سبل الاهتمام به و ترويجه على أسس تضمن الوضع الاعتباري اللازم للمبدع و الظروف الملائمة لاشتغاله و لعمله أيضا ، و أتمنى كذلك دعم الصناعات المواكبة للإبداع الفني و التي يدخل فيها إنشاء الأروقة و المتاحف و الإعلام الفني و المزادات ، كل ذلك من شأنه إنعاش تداول الأعمال الفنية و تسويق المنتوج الفني . فكلنا نعلم أنه في العقد الأخير أغلقت العديد من الأروقة و أفلست ، و هذا راجع لخلل كبير في تدبير سوق الفن ، لقد عانت أجيال من الفنانين في هذا البلد من أجل تربية جمهور ما على تذوق العمل الفني و اقتناءه ، فصار الكثيرون يفكرون في اللوحة مثلما يفكرون في اللوازم الأخرى لتهيئ البيت .، و لكن مع ذلك يلزمنا ان نبذل جهودا مضاعفة من أجل استقطاب جمهور أوسع ، و هنا يتداخل عمل الفنان بعمل الناقد و الإعلامي و القيمون الفنيون ..
12 – ما هي آخر مشاريعك؟
في الحقيقة كانت لدي مشاريع مهمة في هذه السنة شاءت الأقدار أن تتأجل إلى مواعيد لاحقة بسب نازلة كورونا ،منها معرضين بفرنسا و مشاركة ضمن معرض عالمي بنيويورك و مشاركة أخرى بمهرجان جرش بالأردن ، على أية حال أنا أشتغل بشكل مستمر و جعلت الحجر الصحي فرصة لتهيئ مشاريع أخرى بالإضافة إلى اشتغالي الدائم بالمرسم و تحضير تجارب يتماهى فيها الشعري و الصباغي ، شعريا أنتظر صدور ديوان شعري جديد بإحدى دور النشر العربية ..
13 – كلمة اخيرة لقراء جريدة الشمال؟
بداية أشكر جريدة الشمال على إنصاتها العميق لما يعتمل بالساحة التشكيلية في المغرب ، و أتوجه بالشكر لقرائها لكونهم يساهمون في انتشار وعي رصين و مختلف عما هو متداول إعلاميا ، أتمنى التوفيق و الاستمرار لهذا المنبر المحترم .