حسنا فعل المجلس العلمي المحلي لعمالة المضيق الفنيدق، بمبادرته إصدار الطبعة الثانية من كتاب “خلاصة تاريخ سبتة بالأثر والمأثور وما جاورها من المداشر والقرى حتى كدية الطيفور”، لمؤلفه القاضي محمد السراج المتوفى سنة 1984. فالطبعة الأولى التي كانت قد صدرت سنة 1976 انتهت بالنفاذ التام من المكتبات، إضافة إلى أنها جاءت مليئة بالأخطاء المطبعية والتقنية التي أساءت كثيرا للمضامين. ويمكن القول إن هذه الطبعة الأخيرة الصادرة سنة 2018، في ما مجموعه 225 من الصفحات ذات الحجم الكبير، استطاعت “إنقاذ” الكتاب، عبر تعميم تداوله بين الباحثين والمهتمين، وفق رؤية دقيقة ساهمت في تخريج طبعة بديلة يمكن اعتمادها علميا، خاصة وأنها رأت النور تحت إشراف لجنة علمية سهرت على الاشتغال على الكتاب وعلى تصحيح أخطائه وعلى ضبط مجمل جوانبه العلمية والتقنية. وبذلك، أمكن إعادة بث الروح في تأليف المرحوم السراج وإضفاء –عليه- بعدا إجرائيا مرتبطا بجهود الاستثمار العلمي بالنسبة للمؤرخين المتخصصين.
وبخصوص الإطار العام الناظم لهذا الإصدار، يقول الأستاذ توفيق الغلبزوري في كلمته التقديمية: “إن هذا الكتاب منفرد ومتفرد في بابه، ذلك أنه ألفت قديما من جانب أسلافنا تواليف قليلة عن تاريخ سبتة جمعها مجلسنا وأخرجها للناس في سفر أنيق بعنوان “تواريخ السبتيين”… ولكن هذه التواريخ خصت مدينة سبتة فقط بالتاريخ، أما هذا التأليف فقد ضم إليها ما جاورها من المداشر والقرى وهي كثيرة، كما أن المؤلف معاصر لنا وشاهد عيان… وقد دون فيه ما لخصه من كتب التاريخ وما شاهده وعايشه وعاينه من أحداث ووقائع، لما كان قاضيا للمدينتين المحتلتين سبتة ومليلية… وسجل ما رآه ولاحظه خلال تنقلاته الكثيرة طالبا للعلم وقاضيا ومستشارا وأستاذا بين تطاوين وسبتة والمضيق والفنيدق ومرتيل والقرى والمداشر التي تتخلل هذه المدن. ولهذا يعد تاريخه هذا هو التاريخ المتفرد الأوحد للمنطقة الممتدة من سبتة إلى كدية الطيفور مرورا ببليونش والفنيدق ومرتيل وانتهاء بالمضيق…” (ص ص. 3-4).
والملاحظ أن الكتاب لم يحترم الخطوات الأكاديمية المعروفة في الكتابة وفي التدوين، بل حرص على فعل التجميع أكثر من أي شيء آخر، في سرد تتداخل فيه الوقائع التاريخية، مع الانطباعات الشخصية، ومع المشاهدات المباشرة، ومع المذكرات غير الموجهة والمرتبطة بطبيعة المهام الإدارية والمهنية التي كان يضطلع بها المؤلف من موقعه كقاضي للمسلمين بمدينتي سبتة ومليلية. لذلك، فإن انسياب السرد لم يحترم –دائما- تسلسل الأحداث والوقائع، ولا ضرورات ضبط التفاصيل المكتنفة بين ثنايا الوقائع. وفي المقابل، حرص المؤلف على الاستفاضة في وصف أوضاع مدينة سبتة وأحوازها المباشرة، اعتمادا على تجميع مصدري غزير ومتنوع. وعلى أساس هذه الأرضية المصدرية الصلبة، وكذا على المعاينة الميدانية وعلى الاحتكاك المهني المباشر بمختلف الفاعلين والمتدخلين خلال مرحلة الاستعمار ثم خلال مرحلة الاستقلال، استطاع المؤلف تقديم ركام غزير من المعطيات ومن الوقائع التي تظل في حاجة إلى المزيد من التشريح ومن التمحيص، قصد تطويعها وجعلها مادة قابلة للاستثمار وللتوظيف العلميين.
في هذا الإطار، نجد تفاصيل ثرية عن تاريخ مدينة سبتة الإسلامية منذ الفتح الإسلامي للشمال الإفريقي وإلى عهد حكم الدولة المرينية خلال نهاية القرن 14 ومطلع القرن 15، عقب خضوع سبتة للاحتلال البرتغالي في الظروف التاريخية المعروفة. وإلى جانب تقديم المحطات التاريخية الكبرى لماضي المدينة، حرص المؤلف على تقديم “بطائق” تعريفية بمساجد المدينة، وبزواياها الكبرى وعلى رأسها الزاوية القادرية والزاوية التيجانية، وكذا بمقبرة المسلمين بالمدينة. وفي نفس الإطار، اهتم كذلك بالبحث في قضايا التعليم بالمدينة، وبعادات السكان المسلمين في المواسم الدينية، وعاداتهم في المناسبات الاجتماعية مثل عيد المولد النبوي، وحفل ختم القرآن الكريم في الكتاتيب، وحفلات الأعراس والولائم والعقيقة والختان،…واستكمالا لنفس السياق، قدم المؤلف تفاصيل عن بعض المواقع الموجودة بأحواز مدينة سبتة إلى جانب معطيات تعريفية بالمراكز الحضرية والقروية لهذه الأحواز، مثلما هو الحال مع بليونش، والقصر الصغير، و”قرية” الفنيدق، و”قرية” المضيق، وموقع “رأس الطرف” أو ما يعرف ب”كدية الطيفور”.
وبهذه التفاصيل و”المشاهدات”، نجح الأستاذ محمد السراج في تقديم تصنيف تدويني هام، لا شك أن تطعيمه بالقراءة النقدية التاريخية سيقدم عناصر الإجابة عن الكثير من منغلقات التاريخ المعاصر لمدينة سبتة ولامتداداتها المجالية المباشرة.
أسامة الزكاري