صدر الكتاب الجماعي “دراسات في تاريخ المغرب والأندلس ومباحث في التراث الإسلامي”، سنة 2018، ضمن منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان، في جزأين توزعت مضامينهما بين ما مجموعه 659 من الصفحات ذات الحجم الكبير. وقد أشرف على تنسيق مواد الكتاب الأساتذة امحمد بن عبود ومحمد الشريف وإدريس بوهليلة، في عمل اختار له أصحابه تقديمه كإهداء للأستاذ الدكتور أحمد شعيب اليوسفي، أحد الأطر التي اضطلعت بدور ريادي في تأسيس هياكل شعبة التاريخ بالكلية المذكورة خلال النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي. والحقيقة، إن الأستاذ اليوسفي قد جمع الكثير من الخصال العلمية والإنسانية والأخلاقية النبيلة، جعلت منه مرجعا وذاكرة وملاذا في الكثير من المحطات التي مرت منها شعبة التاريخ بكلية الآداب بتطوان. فالرجل ظل مخلصا لهواجس البحث العلمي، مجندا في عمله التأطيري والتربوي، متواضعا في تفاعله مع محيطه سواء من بين صفوف زملائه أم من بين طلبته، وفيا لمرجعياته الأخلاقية الراقية التي جعلت منه واحدا من الأركان الأساسية لمسار التأطير الجامعي والبحث العلمي بالكلية المذكورة. ولعل هذا ما اختزلته الكلمة التقديمية للكتاب عندما قالت: “فضلا عن تضلعه العلمي والأكاديمي الذي توجه بالدفاع عن أطروحته المتمثلة في تحقيق ودراسة “نوازل ابن الحاج التجيتي”، إحدى النصوص التاريخية المؤسسة للفقه النوازلي بالغرب الإسلامي، فإن الأستاذ أحمد اليوسفي –كما عرفناه عن قرب- إنسان له خصال حميدة كثيرة، وسجايا راقية، ومؤهلات عليا، قلما نجدها مجتمعة في شخص واحد. فهو يعتبر مثالا للتواضع الجم، وللبذل السخي، وللعطاء في المجالات التي انخرط فيها، ونموذجا للمثقف المتميز بعلمه ودماثة أخلاقه. فعلاقته وطيدة مع كافة زملائه، ولم تشبها شائبة على امتداد ثلاثة عقود قضاها أستاذا بجامعة عبد المالك السعدي، بل إنه كان صمام الأمان أمام عدد من الأزمات التي مرت منها شعبة التاريخ، فقد استطاع “السي أحمد اليوسفي”، بفضل مزاجه الهادئ والمسالم، وجمعه بين الرجاحة في العقل والحصافة في الرأي أن يجد حلولا، وكأنه فقيه نوازلي مجتهد، لأعقد المشاكل التي كانت تطرأ في بعض الأحيان بين زملائه. ونسجل أن الأستاذ اليوسفي هو من المثقفين المعتزين بقيمهم، والمتشبثين بهويتهم الإسلامية، والعربية، والأمازيغية، ومن الذين حباهم الله بثقافة موسوعية، حتى أصبح خزانا من المعارف في شتى المجالات…” (ص ص. 9-10).
إنه الأستاذ اليوسفي الأخ والزميل والصديق والباحث والمنقب والمثقف.. باختصار، إنه الواحد المتعدد الذي استطاع أن يجمع حوله ثلة من الباحثين ومن المؤرخين المغاربة المعاصرين، في كتاب تكريمي تستحق –عليه- كلية الآداب بتطوان كل التقدير والاعتراف، خاصة وأن المضامين ترتبط باجتهادات تجديدية غير مسبوقة، أعادت إلقاء الضوء على الكثير من خبايا تاريخ المغرب على امتداد عهوده الطويلة والممتدة في الزمن. في هذا الإطار، نجد دراسة لامحمد بن عبود حول موضوع الأندلس والاستشراق، وأخرى لإبراهيم القادري بوتشيش قدم فيها تعريفا بمصادر مغربية وأندلسية لكتابة تاريخ الفرس خلال العصر الوسيط. وتوقفت دراسة كل من محمد الشريف وسلوى الزاهري عند فتاوى ابن برطال، واهتم مصطفى نشاط بالتعريف بشخصية أبو إبراهيم إسحاق ابن يحيى ابن مطهر الورياغلي (ت. 683ه)، ونفس الأمر اهتم به توفيق الغلبزوري بخصوص شخصية الأستاذ سعيد أعراب المتخصص في التعريف بتراث الريف. وعلى نفس المنوال، اهتمت دراسة مصطفى أزرياح بشخصية أبو الربيع سليمان بن سبع السبتي ومنهجه في شفاء الصدور. أما مصطفى بنسباع، فتناول في مساهمته موضوع زهاد الأندلس المالكية قبل العصر المرابطي. وعاد مصطفى شقروف للتعريف بالمواقع الأثرية المغربية من خلال المصادر العربية الوسيطية، مركزا على موقع تشمس- قصر مصمودة. أما مصطفى المرون، فاهتم بموضوع اللوحة الفنية باعتبارها مصدرا لكتابة التاريخ العسكري، مركزا على نموذج الفنان ماريانو بيرطوتشي، واهتم رشيد مصطفى بموضوع خبر العصر في نبذ بيعة آخر ملوك بني نصر، اعتمادا على ما ورد في كتاب “المعيار المعرب”. أما عبد السلام الجعماطي، فساهم بدراسة حول غرائب الأطعمة وطرائف الأشربة في تاريخ المغاربة. وفي نفس السياق، كانت مساهم مريامة لعناني حول غذاء الأسرة الأندلسية وشؤون صحتها. واهتم محمد رضا بودشار بالتعريف بشخصية دييغو أرنندو دي منصوثا الذي كان صوتا خافتا متعاطفا مع الأندلسيين الموريسكيين في القرن 16. وساهم أحمد الخروبي بدراسة حول موقع المسلمين في تاريخ الحضارة من خلال مقاربة المؤرخ الأمريكي ستانوود كب، في حين اهتم حميد الحداد برصد مظاهر التسامح الديني بين المسلمين وأهل الذمة بالغرب الإسلامي من خلال بعض كتب النوازل، وعاد عبد الرحمن بودرع للنبش في قضايا علاقة اللغة العربية بسؤال الهوية، وتناول حسن الوراكلي جهود السهيلي في خدمة علوم القرآن، وتناول عبد المجيد الحدوش موضوع الدرس الجدلي وضوابط التأويل الوازن عند أبي بكر ابن العربي المعافري الإشبيلي. واختتم عبد الكريم القلالي مضامين الجزء الأول من الكتاب بدراسة حول التكامل المعرفي في تجديد علوم الشريعة عند علماء المغرب.
وفي الجزء الثاني من الكتاب، نجد دراسة لمصطفى غطيس حول صورة “التطاوني” والآخر من خلال “عمدة الراوين” لأحمد الرهوني، وأخرى لعبد العزيز السعود سعى فيها للنبش في سيرة سفراء مغاربة في إسبانيا وجواسيس إسبان في المغرب، ثم دراسة لعبد الحفيظ حمان حول شركة سوس وشمال إفريقيا للتجارة باعتبارها إحدى مراكز التسرب الإنجليزي بالجنوب المغربي في أواخر القرن 19. وعاد محمد خرشيش للبحث في سياق المفاوضات الفرنسية الريفية وأبعادها العامة. وفي نفس السياق، اهتم مصطفى الغاشي بتقديم قراءة تركيبية في مضامين كتاب “فرنسا وحرب الريف ما بين 1921 و1926” لمحمد خرشيش، كما قدم إدريس بوهليلة قراءة في كتاب “محاضرات ومباحث في تاريخ المغرب المريني وحضارته” لمحمد الشريف. واهتم بوزيد بوعبيد بمسألة تأهيل المقبرة الإسلامية بتطوان وكذا بترميم الأضرحة التاريخية. أما صلاح العلاوي، فساهم بدراسة حول نشأة مدرسة تطوان التشكيلية وتطورها، وتوقف محمد ياسين الهبطي عند موضوع مساهمة شفشاون في الحركة الوطنية المغربية، وقدم محمد بكور دراسة في شكل تأملات في المسألة التعليمية في المنطقة الخليفية بالتركيز على قضايا تحديث المدرسة والمنهاج، وتوقف عمر أشهبار للتعريف بدور الباشا أحمد بن علي الريفي في بناء الدولة المغربية الحديثة، وتناول خالد طحطح قضية إداولتيت بسوس الأقصى كمدخل لمقاربة سياسة الأحلاف بين العرف والشرع، واهتمت كل من زينب حمودة والعثماني أولاد الفاضل بظاهرة الثورات بالمغرب مطلع القرن 20 من خلال الأرشيف المخزني عبر نموذج ثورة الجيلالي الزرهوني. واختتمت سلوى الزاهدي مضامين الكتاب بتقديم مقاربة عميقة حول قضية المكتبة الرقمية العالمية أو “أوتوبيا الكتاب الجميع”.
وبهذه المواد الثرية والمتنوعة، أمكن تقديم طبق علمي أصيل، لا شك وأنه يليق بمقام الأستاذ أحمد اليوسفي، باحثا نزيها، ومثقفا خلوقا، وإنسانا رائعا. إنها صفة العلماء الكبار، أو العلماء المشاركين، الذين يقولون كلمتهم بعد أن يحولوها إلى بذرة لإنتاج كل هذا الخصب وكل هذا التميز الذي يطبع المشهد الثقافي والمعرفي ببلادنا. باختصار، فالكتاب يقدم بطاقة وفاء لأعلام العطاء الجامعي ببلادنا، مما يشكل أسمى تقدير رمزي يمكن أن تفتخر به الذوات الفاعلة والمجددة والمعطاءة داخل أسوار الجامعة المغربية الراهنة.
أسامة الزكاري