عرف شمال المغرب المسرح الحديث بطقوسه المتداولة ومفهومه الأكاديمي كفرجة طارئة في فترة مبكرة قياسا بغيره من حواضر المملكة، استنادا على وثائق غميصة لم يحصل الالتفات إليها، ويرتبط هذا السبق أساسا بعوامل سياسية صرفة متداخلة عملت على تفتيت جغرافية الوطن، وتجزئته مناطق نفوذ استعماري متعدد بحواجز فاصلة ولغات مختلفة وثقافات متباينة.. إسبانيا في الشمال والصحراء، فرنسا في الوسط، وجنسيات أوربية متعددة في مدينة طنجة الشمالية أيضا.
وعلى اعتبار أن هذا الطارئ هو نتاج الآخر، بضاعة غربية صرفة، حملها إلينا ضمن ما حملها معه من أدوات ووسائل وحاجيات ثقافية وحضارية جديدة مغايرة، نكون عن هذا الآخر عرفنا المسرح كفرجة قبل أن نمارسه ونتعلق به، خصوصا وقد وجد المناخ المناسب والتربة الصالحة للنمو ليصل إلى ما وصل إليه.
ولقد كان طبيعيا نتيجة لذلك التقطيع الاستعماري المتعدد الأوجه المتباين الثقافات ودرجة الاهتمامات، أن يكون لهذا المسرح على أرض واحدة أكثر من ميلاد وأكثر من تاريخ، وهو ما يحتم التوقف بحثا عن جذوره فيما يمكن عده مناطق الظل البعيدة عن المركز.
ومساهمة في الجهود التي بذلها باحثون رواد كشفا عن عمر هذا المسرح ببلادنا قصد الوصول إلى تاريخ موثق لميلاده الحقيقي تأتي هذه الورقة المؤسسة على الاستغوار استنطاقا لوثائق مغيبة، ظلت – للأسف – مركونة لعدة عقود بعيدة عن التناول، بحيث لم يتم الوصول ولا الإشارة إليها، وهي بمثابة أجوبة عن أسئلة ظلت معلقة في انتظار الذي يأتي أو لا يأتي.. إضاءات لبعض العتمات.
وأقدم الإشارات التي وصلتنا عن هذا المسرح ببلادنا تلك التي أوردها الباحث الموسوعي الإسباني Rodolfo Gil Benumeya (ردولفو خيل بنوميا)[1] في كتابه Marruecos Andaluz (المغرب الأندلسي)[2]، «أنه في سنة 1870 نزح إلى تطوان من مدينة غرناطة مجموعة من الموريسكيين الذين يتكلمون الإسبانية وكان من بينهم تلميذ غير مباشر للكاتب المسرحي Lope de Vega (لوبي دي فيغا)[3] وأسس مسرحا لتقديم (كوميديات) باللغة الإسبانية لأن التطوانيين في تلك الفترة كانوا يتكلمون الإسبانية لغاية القرن الثامن عشر حسب رواية كل المسافرين إلى المغرب في هذا القرن»[4]. ولذلك يكون هذا الشاب الموريسكي، الأندلسي، المغربي، التطواني هو أول من حمل المسرح إلى المغرب، بل أول من حمله إلى العالم العربي قبل مارون النقاش بقرن وسبع وسبعين سنة.
وعلى مستوى المعمار نذكر أن أول بناية مسرحية شيدت على أرض مغربية يعود تاريخها إلى سنة 1860 والتي أقامها الإسبان إثر احتلالهم العسكري لمدينة تطوان Teatro Isabel II (مسرح إيسابيل الثانية)، وقد اختاروا لها موقعا هو قلب المدينة (ساحة الفدان) التي أطلقوا عليها اسم (ساحة المسرح)[5]، وهي بناية من خشب تحتوي على
بناية مسرح إسابيل الثانية
فعلى خشبة هذا المسرح قدمت أقوى العروض المسرحية والاستعراضية الإسبانية لفرق محلية هاوية وفرق محترفة وافدة من إسبانيا وأمريكا اللاتينية، عروض مفتوحة في وجه الجميع إسبان، مغاربة مسلمون ومغاربة يهود[6].
وقد تزامن هذا التشييد مع صدور جريدة تابعة لقيادة الجيش الإسباني El Noticiero de Tetuán (مخبر تطوان) ومن حسن حظنا أن يكون مديرها الصحفي والمسرحي Francisco Salazar (فرانسيسكو سالازار) الذي تتبع بحسه المسرحي وبكل دقة حركية هذا المسرح خصوصا على مستوى العروض والفرق.
ومن خلال النوتسييرو وقفنا على أسماء لشخصيات مغربية واظبت على حضور العروض المسرحية ووثقنا لحوالي 130 عرضا مسرحيا تم تقديمها خلال فترة الوجود الإسباني.
عناوين المسرحيات ومؤلفيها التي ثبت عرضها على خشبة مسرح إيسابيل الثانية 1860
الرقم الترتيبي | المسرحية | ترجمة العنوان | المؤلف |
1 | Amor sin conocer | حب بدون معرفة | Olona |
2 | El amor y el almuerzo | الحب والغذاء | Olona |
3 | Las bodas de Juanita | أعراس خوانيطا | |
4 | Borrascas del corazon | عواصف القلب | Rodrigeuz Rubi |
5 | Un caballero particular | فارس فريد | |
6 | La cantinera de los Alpes | صاحبة خمارة جبال الألب | |
7 | Casado y soltero | متزوج وعازب | |
8 | Catalina | كاطالينا | Gaztanbid Olona |
9 | La Colegiada | التلميذة | |
10 | De este mundo a otro | من هذه الدنيا إلى أخرى أو
من هذا العالم إلى آخر |
|
11 | De la muerte a la vida | من الموت إلى الحياة | |
12 | El diablo en el poder | إبليس في السلطة | Olona |
13 | Los diamantes de la corona | الماس التاج | Barbiere |
14 | El domino azul | الدومينو الأزرق | Camprodoss |
15 | Don Siseando | السيد سيسياندو | Olona |
16 | Los dos ciegos | الكفيفان | Arrieta |
17 | Entre mi mujer y el negro | بين زوجتي والزنجي | |
18 | Estebanillo | إسطيبانيو | |
19 | El estreno de una artista | العرض الأول لفنانة أو جديد فنانة | |
20 | Elgumete | البحار الصغير | Arrieta |
21 | La hija de la providencia | ابنة العناية الإلهية | Arrieta |
22 | La juanita | خوانيطا | |
23 | Jugar con el fuego | اللعب بالنار | |
24 | El juramento | القسم/ أو اليمين | Olona |
25 | El Arquero | الرماح | Olona |
26 | Los madgyares | الشباب الأنيق | Cartanbede |
27 | Maria | ماريا | Arrieta |
28 | El marquis de Caravaca | ماركيز كارفاكا | Barbiere |
29 | Mi secretaria y yo | أنا وكاتبتي | |
30 | Mis dos mujeres | زوجتاي | |
31 | El niňo moreto | الولد موريطو | |
32 | Por seguir a una mujer | بسبب مسايرتي لامرأة | Olona |
33 | El postillon de la rioja | سائق عربة من الريوخا | |
34 | El punal del godo | خنجر القوطي | Zorrilla |
35 | El relampago | البرق | Barbiere |
36 | El sacristan de San Lorenzo | خادم كنيسة القديس نورنتو | |
37 | El sargento Federico | السرجان (الرقيب) فيديركو | Olona |
38 | El tio caniyita | العم بائع الصحف | |
39 | Todos locos | كلنا حمقى | |
40 | El utlimo mono | القرد الأخير | |
41 | Un cuarto con los dos camas | بيت به سريران | |
42 | Un pie y un zapato | قدم وحذاء | |
43 | El valle de Andorra | وادي أندورا | |
44 | El Vizconde | الفيسكونت |
والقاسم المشترك بين الإشارتين السابقتين هو لغة العروض والتي هي الإسبانية مع اختلاف في المؤدين، والإشارة الأولى تثبت أن التأليف والتمثيل… كان من طرف شاب مغربي موريسكي وأن الجمهور هو جمهور مغربي صرف، على أن الإشارة الثانية تثبت أنه مسرح إسباني صرف ولكنه يقام على أرض مغربية ومفتوح في وجه المغاربة، وبذلك يكون الإنسان المغربي في تطوان أول من شاهد مسرحا غربيا حديثا فوق أرضه، وأدرك مبكرا معاني لمصطلحات جديدة طارئة عليه: التأليف، الإخراج، التمثيل، الديكور، الإنارة، المكياج…
مسرح مغربي قبل الحماية
إشارة تفند القول بأن المغاربة لم يعرفوا المسرح المعاصر في شكله الحديث قبل الحماية الفرنسية/الإسبانية أي بعد سنة 1912، وأن المستعمر هو الذي حمله إليهم من ضمن ما حمله من فرجات، ولقد ذكر الكاتب والباحث الإسباني Antonio Ramos de Espinosa[7] في كتابه الموسوم ب Perlas Negras (الجواهر السوداء) الصادر في جزأين سنة 1903 بمدينة سبتة، أي قبل دخول الاستعمار الإسباني شمال المغرب في شكل حماية بحوالي عقد من الزمن، وهو عبارة عن مذكرات شخصية لامست بالأساس الدور الاستكشافي التجسسي المخابراتي الذي تم اختياره له وأداه باقتدار عن طريق المسرح والتبشير.
يذكر راموس في الجزء الأول من مذكراته أنه في إطار مهمته تلك، اهتدى إلى تأسيس فرقة مسرحية من شقين أو مجموعتين، أو لنقل اهتدى إلى تكوين فرقتين الأولى بمدينة سبتة المحتلة قوامها شباب إسباني مسيحي، والمجموعة أو الفرقة الثانية مكونة من شباب مغربي مسلم مقرها مدشر “البيوت” من قبيلة أنجرة[8].
ويذكر أيضا أن المسرحيات التي تعرضها فرقة سبتة وهي الموجهة بالأساس لجمهور إسباني مسيحي متعصب كانت من حيث المضامين لا تخرج عن تذكير المشاهدين الإسبان، بل دعوتهم إلى الالتزام والتشبث بروح مضامين وصية الملكة، إيسابيل الأولى “بضرورة غزو إفريقيا ورفع الصليب فوق أراضيها“، أما العروض المقدمة في أنجرة والمعني بها جمهور مغربي متمسك بعقيدته الإسلامية فمحاورها الأساسية كانت تصب غالبا في اتجاه التشبث بقيم حسن الجوار، التسامح، تعايش الأديان، القبول بالآخر…
هذه أهم الإضاءات أو الإشارات التي وصلتنا عن أوليات هذا المسرح ببلادنا.
مرحلة ما قبل الاستقلال
زيارة فرقة محمد عز الدين (جوق النهضة العربية) لمدينة تطوان
يعتبر (جوق النهضة العربية) المصري برئاسة المسرحي الكبير الشيخ محمد عز الدين المصري[9] أول فرقة مسرحية عربية تزور المغرب وافدة إليه من تونس سنة 1923، وأثبت الباحثون أن الفرقة قامت بجولة مسرحية بربوع المملكة شملت كلا من طنجة والرباط وفاس ومراكش، وخلفت من ورائها أثرا كبيرا، إذ كانت من عوامل فتح أعين الشباب المغربي على مباهج وأسرار هذا الفن الجميل، وعلى تحفيزه للانخراط فيه، وللأسف أنه لم تتم الإشارة إطلاقا لزيارة الفرقة لمدينة تطوان، وعرضها بتاريخ السبت 21 ذي الحجة 1341 هـ – 4 غشت 1923 على خشبة مسرح Reina Victoria[10] (الملكة فيكتوريا) “أهم رواية عربية تاريخية فكاهية تلحينية ألا وهي: الخليفة هارون الرشيد مع خليفة الصياد وما وقع بينهم مع قوت القلوب“[11].
لم يكن الشباب التطواني وقتها يجهل المسرح، فالعروض المسرحية الإسبانية كانت حاضرة بقوة وعلى عدة مستويات، غير أن الأثر الطيب الذي تركته الفرقة المصرية كان أكبر حافز لركوب المغامرة، فلم تكن إلا شهور معدودات لتشكل أول فرقة مسرحية من تلاميذ (المدرسة الأهلية الحسنية)[12]، بإشراف المرحوم ج.امحمد بنونة الذي يعد الرائد الأول للحركة المسرحية بتطوان.
مشهدان من عرضين مسرحيين قدما بتاريخ 14 محرم 1344هـ موافق 3 غشت 1925 (أول عرض مسرحي تطواني)
لقد كان ذلك بمثابة الحجر الأول لتتوالى بعده عمليات تكوين الفرق المسرحية: فرقة المعهد الحر، معهد مولاي المهدي، المدرسة الأهلية الحسنية، النجم الأخضر، الطالب المغربي، الفتيان، الهلال، القومية…
وقد عملت الحركة الوطنية في شمال المغرب ممثلة في حزب الإصلاح الوطني أولا ثم حزب الوحدة المغربية على تبني واحتضان الفعل المسرحي مما أفرز حركة مسرحية متميزة تغذت بظهور كتابات مسرحية متنوعة وأفرزت مؤلفين مسرحيين.
وتعد (انتصار الحق بالباطل) للمرحوم عبد الخالق الطريس، وهو في الوقت نفسه زعيم حزب الإصلاح الوطني، أول نص مسرحي مغربي طبع بالمغرب 1933[13]، وإلى جانبه أسماء أخرى: الحاج امحمد بنونة، أحمد مدينة، محمد العربي الشاوش، عبد السلام الشاوش، الحسين أفيلال، المهدي الطود (من القصر الكبير)، أبو طاهر آل عزيز اليطفتي، محمد العربي الخطابي…[14] والقائمة طويلة.
ودفع هذا الاهتمام المرحوم أحمد مدينة خريج الدفعة الأولى من المعهد العالي لفن التمثيل العربي بمصر[15] إلى إصدار (الأنوار)[16] كأول مجلة فنية تعنى أساسا بالمسرح.
هذا النشاط سيدفع إلى الاستثمار في البناية المسرحية، فإلى جانب قاعة المسرح الوطني (1914) شيد مسرح إسبانيول (1923) مسرح مونومنطال (1930) ومسرح الريف بشاطئ مرتيل (1944)، كما أنشئت قاعات مسرحية أخرى في المؤسسات التعليمية وفي باقي مدن الشمال.
[1] – مستعرب إسباني خلف العديد من الأبحاث والدراسات باللغتين الإسبانية والعربية وكان يوقع مقالاته بالعربية ب(خليل بن أمية).
[2] – منشورات نيابة السكرتارية للثقافة الشعبية – مدريد 1946.
[3] – Lope De Viga من رواد المسرح الإسباني الحديث (1562-1635م)
[4] – ص: 150.
[5] – موقعها حيث الآن حدائق القصر الملكي.
[6] – للتفصيل انظر كتابنا “المسرح في تطوان سنة 1860”.
[7] – Antonio Ramos de Espinosa de los Montes لعب قبل فرض الحماية دور الجاسوس المخبر وتمكن من التغلغل في الأوساط الشعبية التي حظي داخلها بمكانة تقدير.
[8] – قبيلة مغربية متاخمة لمدينة سبتة المحتلة ومزودها الأساسي وقتها وإلى عهد قريب بالماء الشروب والمنتجات الفلاحية، كان التنقل بينهما ميسرا ومن غير حواجز.
[9] – خليفة المرحوم الشيخ سلامة حجازي.
[10] – شيده سنة 1914 يهودي مغربي، وبعد ثورة الجنرال فرانكو وقيام الجمهورية الإسبانية تحول اسم المسرح Teatro Nacional (المسرح الوطني)، وهو لازال قائما إلى يومنا هذا، وقد تم مؤخرا بعد سنوات الإهمال ترميمه وإصلاحه.
[11] – صيغة منشور العرض.
[12] – أسسها الوطنيون سنة 1925 مقابل المؤسسات التعليمية الرسمية المدعمة من الإدارة الإسبانية.
[13] – نركز على (نص مغربي) وليس على الترجمة.
[14] – كل هذه الأسماء لها أعمال مطبوعة.
[15] – تشبع بحماس أساتذته: يوسف وهبي، زكي طليمات، وجورج أبيض.
[16] – صدر العدد الأول منها بتاريخ يناير 1946 واستمرت إلى ماي-يونيو 1955 (48 عددا)
رضوان احدادو