3- 2 القراءة نار وأنوار
يكون للقراءة في هذه الحال إذن مفعول السحر أو التوجيه، فالقراءة الصامتة تفسيرٌ للنصوص بوجه من الوجوه، وتهيؤٌ لبناء أحكام واتخاذ مواقف وأفعال.
إنها شبيهة بعملية الإخراج التي قد تعظم من شأن موقف محدد أو تحويل نمطي مخصوص، أو تزري ببناء عاملي وقيمي معين على حساب بناء آخر.
ومن حق قارئ حر أن يعرض عما يشاء. ليس من الضروري أن تكون بين الكاتب والقارئ مطابقة، فلكل خارطته الذهنية ومقصديته. لكن التعاون بينهما مما يلهب فعل القراءة من جهة ويقدر الأثر الفني حق قدره من جهة أخرى.
القراءة في ذاتها إبداع. لا يتعلق الأمر بترددات وأصداء مكرورة. فالنص الجيد حري بأن يقرأه قارئ جيد، يسكن في أعطافه ويرتشف رحيقه. أنشد قارئا يزن ما يسمع ويفهم ثم يضيف لمقروئه أبعادا جمالية، علما بأن الأعمال الجيدة لا نزنها كما نزن المحلول الكيميائي في الأنابيق.. القراءة مغامرة وبحث عن المفاجأة في كلام يتيح لك مجاورة حيوات أخرى قد يستولي على القارئ الإشفاق من نارها، وتراه مع ذلك يخلص أشد ما يكون الإخلاص لأنوارها. وبهذا المعنى فلا سبيل لبلوغ النور الأتم غير سبيل القراءة.
القراءة صدام ومواجهة أم غوص ومتعة؟
التداخل الذي عليه مدار الأمر كله هو مطلب وشرط لتحقق الأثر الذي نسميه وقعا فنيا، فما لم تتداخل الصيغ وتنشطر الرؤى والمواقف وتتعاضد مواقع النظر إلى الأحداث المصطنعة وفقا لقواعد التخييل والحوادث الراسخة في ضمير الأناسي وفي دفاتر التاريخ ومرايا الذاكرة التي ترمم جزئياتها ويعاد تحبيكها وتخريجها بحسب الدوافع العلمية والنوازع المتساكنة والمتعارضة، أي على مدى الإلف الفكري الحضاري من جهة، والتنابذ الدفين والشر المستطير والتنازع القائم في جبلة المذاهب التي تنتصر لعمقها الشهوي وطبعها الاستئصالي من جهة أخرى.. أقول بين تخوم الأزمنة المعيشة والأطياف المتخيلة.. في تلافيف عوالم الشخصيات الآدمية والتاريخية والفنية المعروفة بنضالاتها والمشهود بعبقريتها في الفكر والإبداع، وفي قناة عساليجها كلما تضوعت بمسك روحها عرصات شهود الحس من الأجناس المقصية المتراكم صداها في مختلف بلاد العالم من دنى الغجر والصعاليك والشطار وغيرهم من الضالعين في سر الحرف المهللين بفجر الحكمة والشعر والممتطين صهوة المجد الأدبي الساخر المعنى الفاضح للوجه الملتوي ذي الملامح المتناقضة والأهواء المضرجة بلذة النبذ والتهميش.. فلتستوي الرواية مثلا يتأتى للتهجين ألا يجاوز مداه فيفسد أقيسة الجمال الخالد. لتستوي الرواية في عين القارئ لزم التحرر من الأحكام المسبقة والإصغاء لأصواتها المنبعثة من رنينها وألوانها وتمفصلاتها.. فما بالك إذا كانت القراءة عملا مزدوجا ينصب نحو المعنى بوجهيه الترميزي والتأثيري في الفعل والسلوك !
ومن ثم فالقارئ المفترض الذي أتكلم عنه يتأول، فيغض الطرف عن أشياء، وينتقي ، ويشارك في بناء النص. إن له وجودا تخييليا.. ولعلي أميل إلى اقتراح
جان ريكاردو في كتاب قضايا الرواية الجديدة في إلحاحه على ”دينامية القارئ المؤلف”. والحق أن هذه العملية المركبة خليقة بأن تصير عونا على الحق والخير والجمال. فالقراءة التي تبني لا تنتج الوهم، بل بواسطتها تتطلع الكلمة إلى لم شعث الفكر والسؤال في مقام الوصل، غير مكترثة بما قد يغريها من خارج عتبات الجنون. فهل يجن الشعر وفق جرعات مناسبة للعقل، وهل تلبس العبارة رداء المجاز بما تشتهيه حقيقة المعيش الشعري ذاته، من حيث هو معيش نفسي تعتريه إرادة روحانية جبارة؟
هل لنا أن نقبل المذاهب والمناهج كلها في القراءة النقدية، أم نقبل بمداخل معينة؟
أولا لزم الإخلاص والوفاء للعمل المقروء، فلا يعقل أن تهيأ خطاطات جاهزة واصطلاحات يتم إسقاطها في كل حين فترانا نعترف بالمناهج دون أن ننقاد إلى الموضوع. النص هو الذي يحدد منهجه. لن تكون القراءة في أحسن أحوالها بخير إذا شجعنا المتعلمين على قراءة ملخصات واستنتاجات الباحثين دون تدريبهم على تسنم صهوات المعاني الفنية والنفسية بأنفسهم. أتذكر في هذه المناسبة صنفا من الأساتذة الفضلاء الذين رسخوا فينا حب الكتاب، بل تابعوا قراءتنا الخاصة له. أتذكر مثلا الأستاذ رشيد غيلان الذي درسني اللغة العربية في ثانوية الشريف الإدريسي فبفضله نما حبنا للكتاب، بل أخذنا نتنافس لإبداء آرائنا وانطباعاتنا فيما نقرأ. ويوجد أساتذة آخرون ممن لا ينسى فضلهم أمثال الأستاذ د. عبد القادر الخراز، والأستاذة حسناء داود وغيرهما من المشرفين الذين وجهونا في منارة الشريف الإدريسي التي قدر لي أن أدرس بها اللغة العربية لأفواج متميزة من المتعلمين، ولسنوات لا تمحى من الذاكرة، بجانب خيرة المديرين والمكونين والمكونات.
ولا أنسى أيضا أساتذة اللغة الفرنسية المغاربة والأجانب الذين كانوا يشجعوننا على خلق مكتبات تفاعلية متناوبة داخل الأقسام.
على هذا النحو كانت البداية قويمة، فلم يرد لنا إلا أن ندخل إلى عالم الكتاب من باب المحبة والشوق إليه.
والظاهر أنه لما تنعقد تلك المحبة وينمو ذاك الشوق لا يظل الولع بالقراءة منشغلا بأحكام كثير من النقاد الذين تهيمن عليهم نظرتهم المذهبية الضيقة. فالقراءة بهذا المعنى صمود وشموخ.
وفي هذا السياق نرى أن جلد الذات ورجمها، أو حتى صلبها أمر ينافي مقاصد الإمتاع التي تلين لها طباع كل القراء. نقف على النقيض من دعوة للاحتراق من أجل الولادة الجديدة. نحسبها صكا وهميا، وموثقا بلذة الوأد وعشق الغياب ! تلك وجهة فنية ترعرعت داخل رقعتها الجغرافية وخارجها، وهي إن كانت سُنَّة مرعية لدى أجيال أدبية ودّعتنا، تظل في ميزان أجيال أخرى ابتداعا بشريا يعتوره النقص. مهمة هذه الأجيال أن تسهم في الكشف عن مواطن نقصها وقصورها استنادا إلى منهج حواري رشيد. إنها الطريق إلى معانقة الفن انطلاقا من استجلاء سمات العظمة والبطولة.
البطولة الخالدة هي التي لا تكتوي بما يناقض هويتها، ولا تلبس شرورا مشينة ثم تتحرر منها، وما أدراك لعلها تغرق فيها إلى أخمص قدميها فتبصمها بوصمة الشرور قبل أن تتداركها الطفرة التنويرية؛ فمظاهر الفن الجاري استعمالها مشكوك في أمرها، مشتبه في جدواها وكفاءتها في رسم خطاطة يهتدي بها الكاتب، ويتوسد بها المتلقي الذي صار في كثير من الأحيان شبه آلي؛ فهو لا يقرأ النص من الداخل، لكن يسرع ليعوّض نقصه باستظهار ما تلقفه من جداول تعد سلفا في غرفة الناظم وراصف الجمل والكلمات.
صفوة القول إننا نبحث في الأدب عن بطولة حقيقية.. بطولة الإنسان العظيم.
نلتمس ذلك مثلا في كتب السيرة النبوية التي تتحدث عن عظمة الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث ينهض الحكي هنا بمهمة الإخبار المفعم بالعواطف، والحامل لشرارة الهدى والحق، مستثيرا همة القارئ الذي يدرك أنه أمام سيرة غير عادية. فدرس السيرة يبدو فيها جامعا بين التهذيب ومخاطبة الوجدان؛ الأولى ملاك أمرها كله في الوعظ والدعوة إلى استخلاص العبر، والثانية سر الجمال فيها مكنون في عرض مكارم رجل لا كالرجال. بعبارة أوجز هي جميلة وجمالها مستمد من قيمتها الإنسانية المتعالية والبليغة.
وفي حدود هذا المقصد لا مساغ للحديث عن اليتم بوصفه فضيلة أدبية في ذاته، بل لزم النظر في المقامات الاعتبارية والجمالية التي تقترن به، حيث إن مجريات الحكي تشير عبر وسائطها التحفيزية والقيمية إلى أن اليتم عبور إلى مكامن الجمال والعظمة والرقي. وهذا ما نهضت محكيات السيرة النبوية بتجسيده بأسلوب مشوق وغني بالإيحاء، حيث نتتبع نماء الموقف الوجداني ونستصحب الحالة النفسية المثيرة من خلال استحضار الحوادث أو التحولات الأليمة التي جاء بها القدر، مثل حرمان النبي الكريم من عطف الأبوين منذ صغره، وكذا من خلال النظر في كل ما وسمته لفظة يتيم عندما تبدل سياقها وتجدد معناها وتغيرت إحالتها بواسطة تشارك بهيج أفضى إلى الإقرار بأن اليتيم نسمة مباركة.
هل توجد حدود بين القراءة والكتابة في مملكة العقل؟ أولا العقل الذي أومن به ينماز برحابته. هذا العقل موسوم بالكرامة. هو الذي يدعوك لاحترام الآخر والإصغاء إليه. والعقلانية التي يذود عنها القارئ والكاتب هي التي يتسع صدرها للبساطة المؤثرة والخيال الذي يهز الضمير ويحرك الإحساس.
و الظاهر أن خللا لا يصيب كل نزعة عقلانية، وإنما يصيب منها تلك التي تنزاح عن منبعها الأصيل متمثلا في الدهشة التي اعترتها. أسأل أليس من شأن العقل أن يكون قويا لو كان مدهشا بنزوعه الروحي الذي لا تقوى لغة التشيّؤ على وصفه ونقله؟ أليس الترجمان الأصيل للعقل نفسه هو جمال الاستعارات التي تمنح الشعور السكينة؟
لكن كثيرا من الفلسفات المادية تريد أن تمحو آثار التوازن الخفي بين الإنسان وعوالمه المرئية والغيبية، فتقيم حجازا سميكا بين العقل واللاعقل !
بل يبدو أن ثورة ما بعد الحداثة، هي مناسبة محرضة لكثير من نقاد العصر على نفي الصفة الأدبية نفسها عن كثير من الأعمال الجميلة والمتفردة. وربما نالت الواقعية وافر حظها من نقمة أولائك النقاد الذين لم يكلفوا أنفسهم البحث في العناصر الجمالية التي تحفل بها تلك الأعمال. يقول د. محمد أنقار في كتابه ظمأ الروح بإن التصوير الواقعي ليس بالضرورة مطلقا في مباشرته. ونحن نتفق مع الناقد في كون المتلقي يستشرف الآثار التي تعبر بحق عن مطلبه الروحي، بعيدا عن القيود والمواضعات والأحكام التي يراد بفرضها ـ حسب فهمنا ـ إقبار الأدب الأصيل، واستبداله بأبنية مركبة «بدعوى أن الفن المعاصر يلزمه أن يكون تجريديا مركبا ـ إلى حد التعقيد الذي يضاهي بذلك تعقيد الحياة المعاصرة ذاتها !». وعلى هذا الأساس ليس بوسع النقد إلا أن ينبري للدفاع عن الأدب الصادق، من غير أن يلزم نفسه بتصنيفات جاهزة.
وبحسب هذا التصور، فأجمل النصوص هي تلك تجسد الحياة تجسيدا فنيا صادقا ولا تنحصر غايتها في الغموض من أجل الغموض.
كيف تختبر القراءة من منظور مجالس الفكر والأدب؟
إن الأثر الكلامي الذي يملك حلاوة الوقع أو قوة التأثير هو الذي يتداعى باندلاق معانيه أهل الفكر والثقافة بتعدد اختصاصاتهم. ذلك هو الغنى وتلك هي الفائدة. ويكفي أن أذكر القيمة العلمية لجدل القراءة والكتابة أثناء اجتماعنا بنخب من أهل النظر والعلم ودارسي التراث وغيرهم في دارة زمزم التي كان يشرف عليها الأستاذ الدكتور حسن الوراكلي رحمه الله. ولا أنسى الأديبة الروائية التشكيلية المرحومة زهرة زيراوي التي كان بيتها العامر في الدار البيضاء مقصدا للمفكرين والأدباء من المغرب والبلاد العربية ومختلف بقاع الأرض. وإني لما صرت جزءا لا يتجزأ من تشكيلة هذا البيت عزمت على أن أظل امتدادا لمن قبلي ممن بصموا هذا النادي الفكري الذي تأسس منذ 1990، وكان من بين المفكرين والمثقفين الذين أذكوا جذوته الدكتور عزيز الحبابي والمفكر المستقبلي المهدي المنجرة، والفنان الراحل سليمان شوقي، وغيرهم. وكان آخر لقاء قمت بتسييره في هذا المجلس منذ حوالي أربع سنوات هو تكريم ثلاث شخصيات في الفكر والصحافة والإعلام : الدكتور محمد سبيلا والأستاذ عبد الكبير العلوي الإسماعيلي رحمهما الله، إضافة إلى الناقد الدكتور سعيد يقطين.
ثم إن المجالس العلمية التعلمية البهية جزء لا يتجزأ من ثقافة أهل الشمال. ويحضرني هنا تنبيه الأستاذة فاطمة الزهراء بوزيد حين ذكرتني بفضل المرأة المغربية في نشر الثقافة العالمة ونبذ رواسب الجهل والجمود، وضربت لي مثلا بعمتها شمس الضحى بوزيد التي تخرجت من المعهد الحر بتطوان، ثم جعلت سنة 1945 من منزل عائلتها مجلسا أو مدرسة لتعليم البنات.
والمتصفح لتاريخ المغرب كله يجد حرصا شديدا لدى المؤرخين على ذكر مجالس العلماء، ومثال ذلك المختار السوسي في سوس العالمة وخلال جزولة وغيرها من الأعمال، حيث يشيد بمجالس العرفان ويدقق في ذكر الفوائد العلمية الغزيرة في هذا الشأن.
تلك صيغ علمية وثقافية مارسها المغاربة في حلهم وترحالهم، وتلك قنوات تخاطبية جعلت منجزهم بالأمس نتاجا وطنيا قلبا وقالبا. واليوم مع وجود أسئلة جديدة وتحديات كبيرة، وجب أن نعظم من شأن المعرفة العملية، ونعيد للعامل القرائي الإجرائي وهجه في المدارس والجامعات، والحياة العامة برمتها.