كان الأستاذ العلاَّمة الموسوعي الثقافة محمد بن تاويت يدرس اللغة الفارسية ضمنَ ما يدرِّسُ من مواد كالنحو وفقه اللغة والأدب المغربي بكلية الأداب بظهر المهراز بفاس في أواسط وأواخر سنوات الستين. وكان متشدداً في إمتحاناتها التي كانت شفوية . وكم من طالب رسبَ بسببها وأعاد السنة، ومنهم من أعاد السنتين ، رغم أنه نجحَ في الامتحان الكتابي ، ثم جاءَ إلى الكلية أستاذ حاصل على الدكتوراه في اللغة والأدب الفارسيين هو الدكتور عبداللطيف السَّعدني الذي وافته المنية في عز شبابه. ولم يكنْ أقل علماً في هذه اللغة العريقة وآدابها الغني بالنصوص الخالدة ، كما لم يكن أقل من أستاذنا ابن تاويت تشدداً في الامتحان الشفهي . كانا يدفعهما إلى ذلك، الإخلاص في أداء واجبهما التعليمي ، ورغبتهما في أن يطلع طلبتنا على آداب الفرس العالمي بلغته مثل “رباعيات” عمر الخيام ؛ و”المثنوي المعنوي” ( مثنوي ) للإمام جلال الدين الرومي ( وهو ديوان شعري ، يعتبر أحدَ أهمِّ الكتب الصوفية وأعظم قصيدة صوفية في الأدب؛ و”منطق الطير ” لفريد الدين العطار، وهي قصيدة قصصية تبلغ 4500 بيتاً ؛ وملحمة “الشاهنامه” للفردوسي التي تقع في نحو ستين ألف بيت، ، و”تُعتبر أعظم أثر أدبي فارسي في جميع العصور” ، وذلك لأهمية كل هذه النصوص ـ كما يرى هذان الأستاذان الجليلان ـ في رفد الثقافة الأدبية لطلاب شعبة كلية اللغة العربية وآدابها. ولا يخفى أثر هذه الأعمال الفارسية الكبرى في الشعر العربي المعاصر مشرقاً ومغرباً، حيث وظف العديد من الشعراء المعاصرين بعض نصوصها الشعرية والنثرية في قصائدهم أمثال عبدالوهاب البياتي الذي وظف بعض شعر الخيام وجلال الدين الرومي وبعض رموزهما الصوفية ( مثل رمز عائشة المرأة التي أحبَّها عمر الخيام ، واستخدمه البياتي رمزاً لفكرة الخلود )؛ ومحمد الفَيْتوري الذي وظف رحلة طيور العطار في ” منطق الطير ” ؛ وحسن الأمراني الذي وظف في إحدى قصائده ” حكاية عشق الشيخ صنعان” في كتاب “منطق الطير ” ( انظر الحكاية، دراسة وترجمة د. بديع محمد جمعة، دار الأندلس ، بيروت ، 1996 ، ص : 71 )… فالأستاذان ـ رحمهما الله ـ كان هدفهما نبيلاً، وكانت نظرتهما بعيدة لمعرفتهما بقيمة ذلك الأدب وبضرورة إلمام الطلاب به وبلغته التي كُتبتْ بها هذه الأعمال الأدبية الباذخة العميقة التي من شأنها أن تعمق معرفتهم ، وتسمو بأذواقهم الأدبية.
والجدير بالإشارة أنه كان بين الأستاذين الفاضلين تنافسٌ علمي كان ثمرته ، على ما أذكر ، ترجمة الأستاذ ابن تاويت رباعيات الخيام من الفارسية بالوزن والقافية على الشكل العمودي ، ونشرها بجريدة العَلَم ، وأذكر أن التنافس استمر بينهما بعد تخرجنا ..
لقد وصفَ أحد زملائنا آنذاك أستاذَنا محمداً بن تاويت التطواني بالهرَم المغربي . وقد كان حقاً هرما وذا ثقافة موسوعية شاسعة، فقد درَّسنا عهد ذاك الأدبَ المغربي، ومُغني اللبيب والكتاب لسيبويه، كما كان الأستاذ محمد بن عبدالله الذي كان يحفظ كتاب” المغني” يدرسُ هذا الكتاب ، غير أننا لم نكنْ نفهم عنه . لم يكن الأستاذ ابن تاويت يحمل درجة الدكتوراه ، لكنه كان ذا تخصصات متعددة متضلعا فيها، وبالنسبة لنا – نحن طلبته الذين نعرف قدره – كنا نجله ونقدره ، فقد كان في الحقيقة يحملُ أكثر من شهادة دكتوراه مثل زكي مبارك الذي كان يغيظ خصومه بوصف نفسه بالدكاترة زكي مبارك. للعلامة المغربي محمد ابن تاويت تآليف عديدة أهمها : ” الوافي بالأدب العربي في المغرب الأقصى ” في ثلاثة أجزاء . ويذكر المؤلف أن هذا الكتاب يتضمن محاضرات كان قد ألقاها بكلية الآداب ، في الرباط وفاس .. وكتاب ” الأدب المغربي”
( دار الكتاب اللبناني ، بيروت ، 1960 م. )، وهو مشترك مع محمد الصادق عفيفي. والحقيقة أن الكتاب كان جلُّه لأستاذنا ابن تاويت ، فقد “ استقل محمد عفيفي فيه بالمقدمة والتمهيد واللمحة الجغرافية والتاريخية ، وما إلى هذا حتى الفصل الأول من الكتاب ” كما ورد في توطئة هذا السفر القيم . هذا إلى جانب عمله في الصحافة الثقافية ، حيث كان يرأس تحرير مجلة “تطوان” التي كان يكتب فيها مقالاته القيمة غالبا في الأدب المغربي القديم والحديث ، وهي مجلة راقية كانت في مستوى مجلة المناهل التي كانت تصدرها وزارة الثقافة التي كان يرأسها الوزير الحاج امحمد باحنيني . هذا مجرد نبش خفيف ورد في سياق حديثنا عن أستاذنا العلامة ، في ذاكرتنا الثقافية المليئة بالذخائر والكنوز الخبيئة التي يجهلها الجيل الجديد من المتأدبين و طلاب كليات آدابنا. ولا أعفي نفسي من التقصير في العودة إلى ما أنتجه الكتاب والأدباء المغاربة والتعريف بآثارهم، ومنهم كتاب وأدباء وباحثون في عدة مجالات وفنون أدبية ولا يتسع هنا المجال لذكرهم. وهم أسماء لامعة عديدة.
إننا ـ طلبته بكلية أداب فاس ـ كنا نقدره لعلمه وثقافته الموسوعية ، فقد كان ضليعا في الأدب المغربي وفي اللغة والنحو واللغات الفارسية والتركية وله إلمام باللغتين الإسبانية والإنجليزية ، حيث كانت دراسته العليا بمصر. أما حين كان يلقي درسَه ، فكانت حجرة الدرس يسودها الهدوء والانضباط . وإذا سمعَ صوتا أو تهامسا بيننا وهو يكتب بعض الكلمات الفارسية على السبورة ، يلتفت مخاطبا إيانا بلهجته الجبلية التطوانية التي لم يغيرها الزمان وطولُ عهد بعده عن بلدته ، موبخاً وداعياً إيانا إلى الانتباه إلى الدرس لنستفيد. أشهد أنه كان مخلصا في عمله ، جديا في أداء واجبه ، أنوفا و لا يعرف في الحق لومةَ لائم. أستاذ جامعي من طينة الأساتذة الجامعيين الكبار في الجامعات العربية وفي كلية آدابها. رحم الله أستاذنا العلامة محمد بن تاويت، وجزاه الله خيراً عن ما قدمه من أيادي بيضاء لأجيال من الطلبة الباحثين الذين ساروا على نهجه، ولما أسداه للمكتبة المغربية من أبحاث وكتب نفيسة ، تعتبر من أهم المراجع والمصادر في الأدب المغربي، ومن أهمها ـ كما أسلفنا ـ كتابه الضخم النفيس المليء بالتاريخ والتراجم والنصوص الشعرية المغربية في مختلف العهود ، ابتداءً من العهد المرابطي والموحدي مروراً يالعهد المريني والوطاسي والسعدي وانتهاءً بالعصر العلوي : الحركة الأدبية قبل فرض الحماية ـ عهد الحماية وبوادرها الأولى ومضاعفتها . والكتاب موسوعة في الأدب المغربي القديم والحديث، نشر وتوزيع دار الثقافة، الدار البيضاء ، 1984 م. ومن الجدير بالذكر في ختام هذه المقالة، أن الكتاب رغم أهميته وقيمته العلمية ضمن كتب الأدب المغربي ، لم يحظ بالدراسة والتحقيق العلمي الأكاديمين. وكان الأجدر أن يوجه أساتذة شعبة الأدب المغربي في كلياتنا المنتشرة ـ بحمد الله ـ في كل ربوع المغرب ـ طلبتَهم إلى الاضطلاع بهذه المهمة العلمية الجليلة ، وخاصة في كلية الآداب بتطوان التي عمل بها في آخر حياته العملية الزاخرة بالعطاء . بقي أن نقول في الأخير ما ينبغي أن يقال في حق هذا الرجل العلامة النزيه العفيف العزيز النفس.
” نم قرير العين أيها العلامة الجليل ، فقد قمت بواجبك نحو وطنك وأبنائه بكل تفان وإخلاص وزهد في كل ما تمحوهُ سريعاً يدُ الفناء. “
بقلم : د. عبدالجبار التهامي العلمي