كان حفل تدشين قاعة سينما المنصور يوم الجمعة 23 ماي 1952، في الساعة الثامنة والنصف مساء، حسب ما نشرته جريدة “الأمة” و”يومية إفريقيا”. مولود فني جديد ينضاف إلى قائمة المسارح والقاعات السينمائية التي بنيت بتطوان خلال القرن الماضي، والتي جمع بعضها – عند افتتاحها – بين تقديم العروض المسرحية والسينمائية والاستعراضية المختلفة، واختص بعضها الآخر بتقديم الفرجة السينمائية وحدها. وكان عددها وقتئذ ست قاعات:
- مسرح سينما “الملكة فيكتوريا” أو “المسرح الوطني” (ناسيونال)، أو مسرح المصلى كما يطلق عليه العموم، أو مسرح لونيطا نسبة لموقعه، أو “مسرح البالي” لقِدَمِهِ كما جاء في رواية باريو مالقة للروائي المرحوم محمد أنقار.
- مسرح سينما إسبانيول.
- مسرح سينما مونومنطال.
- قاعة سينما فيكتوريا (وهي غير قاعة مسرح سينما “الملكة فيكتوريا”).
- قاعة سينما أبنيدا.
- قاعة ميسيون الكاثوليكية.
وبإضافة قاعة “المنصور” الخاصة بالعروض السينمائية العربية أصبح العدد الكامل سبع قاعات مجهزة بكل ما يستلزم وتتطلبه القاعات الفنية المُقَدِّمة للفرجة السينمائية أو فن المسرح أو فن الموسيقى والغناء…
أمام هذه الفضاءات الجميلة المغلقة التي توفرت عليها مدينة تطوان خلال عهد الحماية، نشأت بجانبها فضاءات مفتوحة تشتغل موسميا، خاصة في فصل الصيف، كفضاء سينما “باهيا Bahia” الصيفي الواقع بساحة الفدان الجنوبية المطلة على مسرح إسبانيول، الجامع للعروض السينمائية، المتخصص في تنظيم لقاءات رياضة الملاكمة والمصارعة وحفلات السيرك، وفضاء مرحبا “Marhaba”، وفضاء طيرازا “Terraza”. وأول هذه الفضاءات ظهر سنة 1919 بتطوان تحت اسم “سينما بارك Park” عارضا أشرطة سينمائية صامتة إلى حدود عام 1923، حيث سيتم تشييد بناية كبيرة فاخرة على بقعته الترابية، حاملة اسم “مسرح سينما إسبانيول” المعلمة الفنية الكبرى التي لازالت قائمة إلى الآن رغم توالي المحن التي مرت بها في الأعوام الأخيرة. وبعد سنتين من الآن أي في 2023 ستحتفل بذكراها المئوية. نتمنى من المسؤولين في الجهة والجماعة الحضرية والعمالة ووزارة الثقافة القيام بتنظيم احتفال كبير يليق بهذا الحدث، بمشاركة الجمعيات الفنية والمؤسسات الثقافية الرسمية المغربية والإسبانية المتقاسِمة لذاكرة هذا الفضاء الفني الزاخر.
انطلق بناء قاعة المنصور في موقع استراتيجي، قريب جدا من “باب العقلة”، خارج أسوار المدينة العتيقة، ليتمكن الجمهور سواء القاطن داخلها أو خارجها ولوج القاعة الجديدة بسهولة، خصوصا وأن في بداية الخمسينيات صار العمران بهذه الناحية يعرف امتدادا وتوسعا على حساب المنطقة الخضراء، حيث تم تشييد عدد من الدور الفاخرة، وعدد من المدارس التعليمية…
وفي هذا الصدد، يصف الأستاذ الناقد إبراهيم الخطيب شكل بناء المنصور، محددا موقعه بدقة، في مقال له بعنوان “سينما المنصور ذكريات هاو للسينما”، نُشِر بجريدة الأخبار، عدد 678 بتاريخ الخميس 29 يناير 2015 قائلا:
«يتعلق الأمر بمعمار محدودب، نحيل، تحاذي مؤخرته مارستان سيدي فرج، فيما يقابل واجهته التي كُتب عليها بأحرف حمراء بارزة اسم القاعة، مبنى المدرسة الأهلية، لا يفصل بينها إلا شارع ينحدر من باب العقلة [الذي كان يطلق عليه في البداية شارع المنصور ثم صار اليوم شارع المفضل أفيلال] وقد اصطفت في جانب منه منازل آل اللبادي، والفقاي، والموفق، وبن عبود، والطريس، متوارية خلف أسوار تبدو فوقها ذؤابات الأشجار التي تزين حدائقها، وفي الجانب الآخر مدرسة الصنائع، والمدرسة التقنية، ومجموعة مدارس مولاي إسماعيل».
شاءت الظروف أن يصير البناء على هذا الشكل المحدودب، المستطيل طولا، والقصير عرضا، رغم ما بذله رب المقاولة من محاولات لإقناع جاره المحاذي لمشروعه من آل اللبادي شراء جزء من أرضه لإضافته إلى حجم البناية الفنية أملا في أن تصبح أكثر اتساعا. لم تنجح مساعي صاحب المشروع المتكررة، ليضطر في النهاية إلى بناء قاعته التي قامت على الشكل المذكور رغم صغر حجمها.
كان صاحب المشروع أحد أعيان مدينة تطوان الوجيه الثري محمد عبد الله زوزيو، يُعتبر من أوائل المؤسسين لشركة التعاون الصناعية للكهرباء بتطوان سنة 1928. رجل ذو خبرة عميقة في التدبير الاقتصادي والمالي. ففي سنة 1935 تم اختياره ديموقراطيا عبر صناديق التصويت مع ثلة من الوجوه التطوانية (وهم قاسم الهراس، الحاج عبد السلام حجاج، الحاج عبد السلام الفاسي، محمد بن أحمد بن عبود، محمد بن عبد الوهاب لوقش، وعبد السلا أجزول) لتسيير المجلس الإداري لشركة التعاون الصناعية المغربية للكهرباء ذات النسبة الكبرى من المساهمين المغاربة، والدفاع عن حقوقهم وتمثيل مجلسها خير تمثيل.
وفي بداية الخمسينات يقتحم محمد عبد الله زوزيو، كأول مغربي مسلم، مغامرة الاستثمار في المقاولة السينمائية التي كان فيما مضى لا يُقْدِمُ عليها إلا المقاولون الإسبان والمغاربة الإسرائيليون، واتخذت مقاولته صفة شركة مغربية صرفة ذات أسهم متعددة، كان له النصيب الأوفر فيها، يليه صهره الوجيه أحمد غيلان.
ولما انتهى البناء، اختار محمد عبد الله زوزيو معظم العاملين من أسرته سواء المساهمين في شركته أو غيرهم لتسيير مشروعه الفني. فكان في يد صهره أحمد غيلان الحسابات، وتكلف شقيقه سلام زوزيو ببيع تذاكر السينما وحجزها للمتفرجين عبر الهاتف الذي اشتهر به “المنصور” (4126)، وأحمد زوزيو بالمراقبة. واهتمت الصحف الوطنية التطوانية بعملية إشهار أفلام المنصور العربية على صفحاتها كالأمة، والريف، والشهاب، والنهار، كما اهتمت المجلات كالأنيس والأنوار والحديقة… بالجانب النقدي والانطباعي والمتابعة الفنية للأفلام المصرية.
وخلال يوم حفل التدشين الرسمي حضرت شخصيات من الحكومة الخليفية وإدارة الحماية الإسبانية، يتقدمهم الحاجب السيد عبد الواحد بريشة، نيابة عن الخليفة الأمير مولاي الحسن بن المهدي، كما حضر وزير الفلاحة والأحباس والمالية، وباشا المدينة وقتئذ السيد اليزيد بن صالح، وكذا مندوب التربية والثقافة السيد “Garcia Figueras”، ورئيس الديوان الدبلوماسي التابع للمقيمية العامة، ورئيس المحاكم والتوثيق، وعدد غفير من المدعويين والمدعوات من أهالي تطوان. وقد عزفت بعض الفرق الموسيقية النشيد الخليفي احتفاء بهذه المناسبة.
وعند بداية الافتتاح قُدِّمَ للجمهور الغفير شريط مصور من إنتاج شركة “Nodo” الإسبانية للأخبار، يدور موضوعه حول حفل زواج الخليفة، مولاي الحسن بن المهدي بالأميرة للافاطمة الزهراء كريمة السلطان مولاي عبد العزيز الذي أقيم بتاريخ 26 ماي 1949، وامتد تقريبا أسبوعين، الذي يعد من الاحتفالات الكبرى التاريخية التي ازدانت بها مدينة تطوان.
بعد ذلك عُرض فيلم مصري يحمل عنوان (صاحبة الملاليم) بطولة إسماعيل يس. وهو فيلم أنتجته شركة محمد فوزي الذي شارك في بطولته متقاسِما النجاح فيه كل من النجمتين اللامعتين: كاميليا وشادية.
ويعتبر هذا الفيلم أول شريط عرضته قاعة سينما المنصور لأول جمهورها المتعطش لمثل هذه الإنتاجات الفنية الناطقة باللغة العربية الفصحى أو باللهجة المصرية.
وقد أثنت جريدة “الأمة” على صاحب المشروع مهنئة إياه على نجاحه وتوفيقه بقولها: «ونحن إذ نزف هذه البشرى للجمهور التطواني الكريم، نقدم تهانينا للاقتصادي المغربي المقتدر صاحب السينما، متمنين له النجاح والتوفيق راجين أن يكون قدوة لغيره في مثل هذه الميادين الحيوية المفيدة».
وكانت من مبادرات مالك القاعة السينمائية اللطيفة، والتفاتاته الجميلة عند افتتاح “المنصور”، إعداد حفلتين مسائيتين خاصتين، استدعى لهما سائر طالبات المدارس الحرة بتطوان لمشاهدة فيلم “صاحبة الملاليم” مجانا، وقد شكرت أيضا جريدة الأمة هذا الصنيع قائلة: «وإنا لنقدر لصاحب قاعتنا الجديدة هذه الروح التشجيعية التي يشمل بها كثيرا من مؤسساتنا المغربية».
وبعد فيلم “صاحبة الملاليم” توالى عرض الأفلام المصرية على شاشة المنصور منذ افتتاحه يوم الجمعة 23 ماي 1952، منها: “فتح مصر” وقد عُرض هذا الفيلم التاريخي تلبية لرغبة بعض المواطنين الذين لم يتمكنوا من مشاهدته في أسبوع عيد الفطر. وفيلم “شادية الوادي”، و”عروس البحر”، و”حياة حائرة”، و”الشرف غالي”، و”بيت الأشباح”، و”بنت الشيخ”، و”سيدة القطار” …ثم “ظهور الإسلام” و”الوسادة الخالية”…
إذا كانت قاعة سينما حي الباريو مالقة Barrio Málaga المنجزة من قِبل أحد رجال الأعمال المغاربة الإسرائيليين التطوانيين يوم 22 ماي 1948، قد أُطلق عليها اسم فيكتوريتا “Victoria” (النصر) تخليدا لذكرى تأسيس دولة إسرائيل في 14 ماي 1948، فإن أهالي تطوان وفيهم رجال الحركة الوطنية ومعهم صاحب المشروع، آثروا تسمية قاعتهم “بالمنصور”، نصرة للشعب الفلسطيني. مما يدل على تعاطفهم الحميم مع إخوانهم بالمشرق العربي والتعبير عن ارتباطهم به.
وتجدر الإشارة إلى أن قاعة المنصور لم تكن هي الأولى التي قدمّت أفلاما عربية بهذه الحاضرة، بل سبقتها قاعة سينما فيكتوريا بأفلام نذكر منها:
- فيلم “ليلى الأميرة”، وهو شريط غنائي بمشاركة المغنية كوكا، والممثل يحيى شاهين، عُرض بتاريخ الجمعة 27 يناير 1950.
- وشريط “مصنع الزوجات”، فيلم كوميدي عرض يوم الأربعاء 8 فبراير 1950.
- و”أمير الأحلام” بطولة نور الهدى، ومحسن سرحان، بتاريخ الأربعاء 8 ماي 1950…
وكذلك كانت شاشةُ مسرح سينما مونومنطال مهتمة بعرض أفلام عربية للجمهور التطواني منها:
- كذبة في كذبة، تمثيل: أنور وجدي، أمينة شاكر، حسن فائق، بتاريخ الخميس 16 فبراير 1950.
- وشريط المظاهر، بطولة يحيى شاهين، فؤاد شفيق، بتاريخ الخميس 9 فبراير 1950.
- وفيلم “شارع محمد علي”، بطولة عبد الغني سعيد، وحورية محمد، بتاريخ 10 مارس 1950…
وكلما تعمقنا في التنقيب عن الأفلام المصرية الأولى المعروضة بتطوان سنجد قاعات أخرى كان لها السبق أيضا مثل مسرح سينما المصلى، وقاعة سينما الريف بمرتيل التي دشنت عام 1944. مما يعطي دلالة على اهتمام الجمهور التطواني بالأفلام العربية وخاصة العاطفية والاجتماعية والدينية والتاريخية والتربوية… وتشوقه لرؤيتها من جهة، وتنافس القاعات وتسابقها من جهة أخرى على جلب وجذب أكبر عدد منه بصفتهم يشكلون النسبة العظمى من ساكنة تطوان.
لقد لَقِيَت الأسر التطوانية المحافظة ارتياحها الكامل وسعادتها المطلقة وهي ترتاد هذا الفضاء العفيف، واستمتعت بفرجاته المختلفة في فترة لم يكن متاحا للمتفرج جهاز التلفزيون، ولا الإنترنيت ولا الهاتف النقال… وحتى المذياع لم يتوفر سوى للأسر الميسورة آنذاك.
يتحدث الأستاذ إبراهيم الخطيب أيضا عن الجمهور التطواني وطقوسه الاحتفالية في هذه القاعة، فيقول في مقاله السابق: «كانوا يفضلون الدخول إلى الممتاز، حيث هناك ينفردون كما لو كانوا في ناد خاص أو عرس عائلي، إذ كان بعضهم يعرف بعضا نساء ورجالا وأطفالا، لذلك كانت أصواتهم تتعالى وهم يتبادلون التحايا والأخبار، ولا يكفون عن الحديث إلا عندما تنطفئ الأنوار».
لقد وفَّرت هذه الأفلام لقيمة تمثيل نجومها المصريين، وتقمصهم الفائق لشخصيات الروايات المختلفة، وإتقان أدوار بطولتهم بامتياز، تجاوبا عميقا مع الجمهور التطواني ذي الطبائع الرقيقة والميول العاطفية الكريمة، فكلما تم انتهاء العرض السينمائي، كنتَ ترى معظم الوجوه وهي تودع القاعة متأثرة بما شاهدته، مُبدية الفرح الشديد والانشراح الواسع، أو ذارفة عيونُها عَبَرات الأسى والتأثر العميق، لاسيما إذا كان الفيلم المُشاهَد عاطفيا دراميا ونهايته غير سعيدة.
لم تتهاو بناية سينما المنصور كليا، كما حصل لجل القاعات السينمائية بمدن المغرب، لكنها واصلت مسيرتها بصورة مغايرة بعد بيعها، وقام مالكها الجديد بتغييرات وإصلاحات أكثرها داخلية. فتحول الفضاء الصغير القانع باستقبال جمهوره الوفي بالأمس إلى محلات سكنى ومتاجر وإدارات ضيقة، وأُتلف ما كان مكتوبا بلون أحمر على بابه “قاعة المنصور”، ولم يبق للأسف الشديد أي أثر يُفْصِحُ لجيل اليوم وللأجيال القادمة على أنها كانت في الماضي بناية فنية بديعة راقية بجمهورها، مفيدة بأفلامها الاجتماعية والتاريخية والترفيهية…، وكافية لساكنة تطوان خلال بداية الخمسينيات.
الزبير بن الأمين
شكرا على.اظهار داكرة المدينة المتميزة في تا يخ المغرب.