تَقـــــــــــــــــديم
في المغرِبِ اليَومَ حَرَكَةٌ نَشيطَةٌ في الجامِعَةِ المَغرِبِيَّة، وَلا سِيَما في شُعبَةِ التّاريخِ وَاللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ مِنها، تَعمَلُ عَلى نَشرِ كُلِّ المَصادِرِ التّاريخِيَّةِ وَالوَثائقِ المَغرِبِيَّةِ وَدِراسَتِها. وَهِيَ صَدى واضِحٌ لِدَعوةِ المُؤَرِّخينَ بِلِسانِ الحالِ أَو بِلِسانِ المَقال في القَرنِ الماضي، أَو بِهِما مَعا، إلى البَحثِ عَنِ الوَثائقِ العَرَبِيَّةِ لِكِتابَةِ تاريخِ المَغرِبِ كِتابَةً عِلمِيَّةً مَضبوطَة، وَعَلى رَأسِهِم عَبدُ الرَّحمانِ بنُ زَيدان، وَمُحَمَّد داوود، وَالمُختارُ السّوسِيّ، لِكَيلا يَبقى تاريخُ المَغرِبِ مَبنِيًّا عَلى الأَساطيرِ وَالحِكاياتِ وَالذِّكرَياتِ البَعيدَةِ وَحدَها، أَو لُعبَةً في يَدِ المُؤَرِّخِ الإفرَنجِيّ. وَهِيَ حَرَكَةٌ مَحمودَةٌ تُنقِذُ تاريخَ الأُمَّةِ مِنَ الضَّياع، وَتُعَرِّفُ بِه، وَتُقَدِّمُهُ لِلأَجيالِ اللاّحِقَة.
وَفي دائرَةِ هاذا التَّوَجُّه، فَإنَّ كُلَّ وَثيقَةٍ مَغرِبِيَّةٍ هِيَ شَيءٌ ثَمينٌ وَغال، يَحرِصُ عَلى تَحصيلِهِ النُّبَهاءُ مِنَ الباحِثين، مَهما كانَ شَكلُها وَطَبيعَتُها. وَهِيَ ثَمينَةٌ وَغالِيَة، بِقَدرِ ما يَجِدونَ في نُفوسِهِم مِن مَحَبَّةٍ لا حُدودَ لَها لِهاذا التّاريخِ المَغرِبِيّ. وَلا أَحسِبُ الأُستاذَ العَميد، د. مُصطَفى الغاشي الطَّنجِيّ، إلاّ مِن هاؤُلاء، مِمَّن شَغَفَهُم تاريخُ المَغرِبِ حُبّا، فَهُم حُرَصاءُ عَلى أَن يَرفَعوا قَواعِدَ بَيتِهِ عَلى أَساسٍ سَميكٍ مِنَ الوَثائق، عَسى أَن تَتَقَبَّلَ الأَجيالُ المُقبِلَةُ مِنَ المُؤَرِّخينَ عَمَلَهُم.
وَهُم في هاذا لا يَعبَأونَ بِوَقتٍ يُنفَقُ في هاذا السَّبيل، أَو مَجهودٍ كَبيرٍ يُبذَلُ فيما قَد يَحسِبُهُ بَعضُ النّاسِ أَمرًا هَيِّنًا وَما هُوَ بِالهَيِّن، أَو مالٍ يَصرِفونَه. فَقَد شَغَفَهُم هاذا التّاريخُ حُبّا، فَبَذَلوا لَهُ وَقتَهُم، وَهُوَ أَضيَقُ مِن أُفحوصِ القَطاة، وَجَهدَهُم، وَلا يَعلَمُ إلاّ اللهُ مِقدارَه، إذ يُقَصِّرونَ فيهِ أَيّامَهُم، وَيَسهَرونَ لَيالِيَهُم. وَهُم بِهاذا يُقَدِّمونَ ما يَستَطيعونَ مِنَ العِلمِ النّافِعِ لِلأُمَّة.
بَينَ يَدَيَّ رِحلَةُ الهاشِمِيِّ النّاصِرِيِّ الهَشتوكِيُّ إلى باريز، عامَ 1344هـ/1926م، لِحُضورِ افتِتاحِ السُّلطانِ المَولى يوسُفَ لِجامِعِها العامِر. وَهُوَ وَثيقَةٌ نادِرَةٌ نُدرَةَ الوَثائقِ العَرَبِيَّةِ بِالنِّسبَةِ إلى الوَثائقِ الأجنَبِيَّة، كَتَبَها رَجُلٌ وَسَطٌ في النّاس، ذو عِبارَةٍ عامِّيَّة، كَما كانَ يَكونُ كُتّابُ رِجالِ المَخزَنِ في ذالِكَ العَصر، وَلا سِيَما في البادِيَة؛ لَم يَزُرِ الغَربَ وَلَم يَتَعَلَّم لُغاتِه، وَلا قَرَأَ في مَدارِسِ الشَّرق، وَلا اطَّلَعَ عَلى ثَمَراتِ مَطابِعِه. ثُمَّ تَكتُبُ لَهُ الأَقدارُ أَن يَزورَ هاذا الغَربَ في زِيارَةٍ رَسمِيَّة، يَنتَقِلُ فيها مِن بَلَدٍ إلى بَلَد، وَمِن عَصرٍ إلى عَصر، وَمِن حَضارَةٍ إلى أُخرى.
اِكتَشَفَ هاذِهِ الرِّحلَةُ الزَّميلُ الفاضِل، اَلأُستاذُ مُصطَفى الغاشي اكتِشافا، فَاهتَبَلَ بِها اهتِبالا، وَرَأى أَن يَنفَعَ النّاسَ بِإنقاذِها مِنَ الضَّياعِ وَتَحقيقِها وَنَشرِها. وَلا عَلَيهِ أَلاّ يَكونَ مِنها إلاّ نُسخَةٌ واحِدَة، تُتعِبُهُ في القِراءَةِ وَالضَّبط، أَو قُل تُعنِتُه، وَقَد تُضِلُّ المُحَقِّقَ عَن سَواءِ السَّبيل. فَقَد احتَسَبَ عَمَلَه، فَلا يَهُمُّهُ أَن يَتعَبَ في تَحقيقِهِ وَدِراسَتِه، وَأَن يَنصِبَ فيهِ ما لا يَنصِبُ غَيرُه. لا يَرجو مِن وَراءِ ذالِكَ إلاّ خِدمَةَ هاذا التّاريخِ المَغرِبِيِّ العَظيمِ خِدمَةً مُباشِرَة، بِما استَطاع، وَبِأَكثَرَ مِمّا استَطاع، فَيُضيفَ هاذِهِ الخِدمَةِ إلى ما سَبَقَ لَهُ مِن دِراساتٍ تاريخِيَّةٍ وَتَحقيقاتٍ عَنِ التّاريخِ المَغرِبِيِّ العُثمانِيِّ المُشتَرَك، طَيِّبَةً بِذالِكَ نَفسُه.
لَنا أَن نَفهَمَ سُكوتَ الهاشِمِيِّ النّاصِرِيِّ الهَشتوكِيِّ في هاذِهِ الرِّحلَةِ عَن مَساوئِ فَرَنسَةَ المُستَعمِرَةِ الكافِرَةِ في بَلَدِه، بِأَنَّهُ تَعاوُنٌ وَتَواطُؤٌ وَمُجامَلَة، أَو حَتّى خِيانَة، كَما يَطيبُ لِلمُؤَرِّخينَ المُتَشَبِّعينَ بِفِكرِ الحَرَكَةِ الوَطَنِيَّةِ المَغرِبِيَّةِ بَعدَ استِقلالِ المَغرِب، إذ يَظلِمونَ بِفَهمِهِم هاذا أُمَّةً مِنَ الكُتّابِ وَالعُلَماءِ المُخَضرَمينَ مِمَّن كانوا بَينَ أَوائلِ زَمَنِ الحِمايَةِ وَقَبلَها. وَلَنا أَن نَفهَمَ سُكوتَهُ بِأَنَّهُ عَجزٌ عَن فَهمِ الغَرب، وَقَد أُلقِيَ في بَحرِهِ مَكتوفًا وَقيلَ لَهُ إيّاكَ أَن تُبتَلَّ بِالماء.
وَلَنا أَن نَفهَمَ الأَمرَ كَذالِكَ عَلى أَنَّ هاذا الرَّجُل، عَلى مَحدودِيَّةِ إمكانِيّاتِهِ الثَّقافِيَّة، كانَ قَد أَدرَك، كَكَثيرٍ مِنَ العُلَماءِ وَالأُدَباءِ وَالأَعيانِ وَقتَئذٍ في المُدُنِ وَفي الرّيف، أَن لا سَبيلَ إلى إنقاذِ المَغرِبِ مِن تَأَخُّرِهِ التّاريخِيّ، وَإلى الأَخذِ بِيَدِه، إلاّ بِأَن يَضعَ المَغرِبُ يَدَهُ في يَدِ الدَّولَةِ الحامِيَةِ بِالأَصالَة، فَرَنسَة، وَالحامِيَةِ بِالنِّيابَة، إسبانِيَة، عَسى أَن تَنفَعاه فَيَخرُجَ مِن وَهدَتِهِ وَوَرطَتِهِ التّاريخِيَّة، وَلا سِيَما بَعدَ انهِيارِ الدَّولَةِ العُثمانِيَّة، اَلَّتي كانَت الآمالُ الكَثيرَةُ مَعقودَةً عَلَيها عِندَ النّاس. وَقَد عَمِلَ بِمَبدإ: عَلَيهِ كُفرُه، وَلَنا عَدلُه، وَلَكُم دينُكُم وَلِيَ دين. فَتَرَكَ صَبَّ اللَّعَناتِ عَلى أَصحابِ العُقولِ الظُّلمانِيَّةِ الَّذينَ نَفِذوا مِن أَقطارِ الأَرض، كَما سَمّاهُمُ الطّاهِرُ الفاسِيّ، وَكانَ هاذا مَبدَأَ فَهمِهِ لِلغَرب. وَلَيسَ هاذا بِقَليلٍ في ذالِكَ الزَّمان.
كانَتِ الرِّحلاتُ العَرَبِيَّةُ إلى الغَربِ مِرءاةً لِإدراكِ المُثَقَّفينَ المُسلِمينَ لِحالِهِم، وَمِقدارِ تَأَخُّرِ دارِهِم، وَإدراكِ مِقدارِ تَفَوُّقِ الغَرب. وَقَدِ انقَسَمَ هاؤُلاءِ الرَّحّالونَ إلى ثَلاثَةِ أَقسام:
قِسمٌ شاهَدَ وَحاوَلَ أَن يَفهَم، وَعَرَضَ فَهمَهُ عَلى النّاس، وَهُمُ الرَّحّالونَ الَّذينَ دَوَّنوا رِحلاتِهِم عَن مَعرِفَةٍ بِاللُّغاتِ الأورُبِّيَّة، كَالطَّهطاوِيِّ وعُمومِ الرَّحّالينَ الشّامِيّين.
وَقِسمٌ شاهَدَ وَحاوَلَ أَن يَفهَم، دونَ أَن يَستَطيعَ استِبطانَ الأُمور، إذ عَجَّزَهُ مُرورُهُ القَصير، وَجَهلُهُ بِاللُّغاتِ الأَجنَبِيَّة، فَاستَعانَ بِكِتاباتِ الفِئَةِ الأولى، كَابنِ إدريسَ العَمراوِيّ.
وَقِسمٌ شاهَدَ وَحاوَلَ أَن يَفهَم، وَعَجَزَ عَن فَهمِ الغَرب، وَلَم يَستَعِن بِالكِتاباتِ المَشرِقِيَّة. وَقَد كانَ مِنهُم الهاشِمِيُّ النّاصِرِيُّ الهَشتوكِيِّ.
لَقَد آثَرَ هاذا المُدَوِّنُ لِرِحلَتِهِ أَلاّ يُعَلِّقَ عَلى مُشاهَداتِه، فَكانَ عَدَمُ تَعليقِهِ عَينَ التَّعليق. وَالعَجزُ عَنِ الإدراكِ إدراك، كَما يَقولُ الصّوفِيَّة. حَتّى إذا خَرَجَ أَحيانًا عَن صَمتِه، فَعَلَّقَ عَلى مُشاهَداتِه، اِستَبانَ عَجزُهُ الفادِحُ وَعَجزُ أَهلِ زَمانِهِ وَبادِيَتِه، وَعَجزُ ما مَعَهُ مِنَ المَوروثِ الثَّقافِيّ، عَن فَهمِ الغَرب، إلاّ مَن رَحِمَ رَبُّكَ مِنهُم. فَانظُر إلَيهِ وَهُوَ يُشَبِّهُ اصطِفافَ السَّيّاراتِ في باريسَ بِاصطِفافِ البَقَر، وَيَرى في زِيارَةِ قَبرِ الجُندِيِّ المَجهولٍ عِبادَةً وَثَنِيَّةً لِلنّار، مِن نَوعِ ما قَرَأَهُ في الكُتُبِ القَديمَةِ عَنِ المَجوسِ وَعِبادَتِهِم لِلنّار، يَتَبَيَّن لَكَ هاذا العَجزُ الفادِح.
لاكِن. هَل كانَ عُمومُ المُتَعَلِّمينَ المَغارِبَة، بَل عُمومُ عُلَماءِ المَغرِب، في عَصرِ السُّلطانِ المَولى يوسُف، قادِرينَ عَلى فَهمِ هاذِهِ الحَضارَةِ الغازِيَةِ الَّتي خالَطَتهُم وَلابَسَتهُم عَلى كُرهٍ مِنهُم فَجَرَت مِنهُم مَجرى الدَّمِ مِنَ العُروق؟ إنَّ ما كانَ مَعَهُم مِن بِضاعَةٍ مَوروثَةٍ لَم يَكُن لِيُؤَهِلَهُم لِهاذِهِ المُعضِلَةِ النّازِلَةِ بِهِم، وَلا شَكّ. وَإذا كانَ رَحّالَتُنا هاذا عاجِزًا عَن فَهمِ الغَرب، فَإنَّهُ لَم يَكُن لِيَعجَزَ عَن إدراكِ التَّحَوُّلاتِ التّاريخِيَّةِ في مَغرِبِ زَمانِه، كَالهِجرَةِ إلى أورُبَّة، وَالزَّواجِ بِالأورُبِّيّات، وَتَسجيلِ ظَواهِرَ لا قِبَلَ لِلمَغارِبَةِ بِها، كَدُخولِ غَيرِ المُسلِمينَ لِفِناءِ جامِعِ باريزَ الكَبير، بِهَندَسَتِهِ المَغرِبِيَّةِ الأَندَلُسِيَّةِ الفَذَّة. حَيّاهُ الله، وَأَبقاهُ مَنارَةً لِلمُسلِمينَ في بِلادِ الغَرب.
فَلتَهنَإ المَكتَبَةُ المَغرِبِيَّةُ بِهاذا المَولودِ الجَديدِ الطَّريف، وَليَهنَأ بِهِ مُحَقِّقُهُ الأُستاذُ الزَّميلُ د. مُصطَفى الغاشي، وَليَهنَأ بِهِ الباحِثونَ في تِلكُمُ العَلاقاتِ بَينَ الغَربِ وَالشَّرق، اَلَّذينَ يُحاوِلونَ الإجابَةَ عَن سُؤال: لِماذا تَأَخَّرَ المُسلِمونَ وَتَقَدَّمَ غَيرُهُم. وَالحَمدُ لِلَّهِ أَوَّلاً وَأَخيرا.
مَحروسَةُ تِطوان الكُبرى يَومَ السَّبت، 19 ذي القِعدَة، 1441 هـ ـ 11 يوليوز 2020م.
جَعفر ابنُ الحاجّ السُّلَمِيّ