لعل من حسنات التطور الهائل الذي أضحت تعرفه مناهج البحث التاريخي المعاصر، الانفتاح المتزايد على عطاء المتون الروائية والسرديات الحكواتية والأعمال الإبداعية. لقد اقتنع مؤرخ اليوم بضرورة العودة للإنصات لنسق الحكي والتدوين في النصوص الإبداعية، ليس من زاوية التأمل في القيم الجمالية والوظائف التعبيرية والآفاق التخييلية، ولكن -أساسا- من زاوية تقصي الحقول الدلالية الموظفة في السرد، ونظيمة الرموز اللامادية التي تشكل المادة الخام الضرورية للكتابة الإبداعية المجددة والخلاقة. لذلك، أضحى الاقتناع متزايدا لدى المتخصصين بأهمية العودة لقراءة النصوص الإبداعية، النثرية والشعرية، في كل محاولات القبض بالتفاصيل اللامادية التي لا يمكن التوثيق لها في سياق الكتابات التاريخية التخصصية بمعناها الحصري الضيق. وتجاوز الأمر مستوى الاستغلال البيبليوغرافي والقطاعي، إلى مستوى الانخراط في مغامرة إنتاج النصوص الروائية بالنسبة لمؤرخي الزمن المغربي المعاصر، حيث آثر المؤرخ نزع جبة الباحث المتخصص بصرامته المنهجية الحديدية، في مقابل ارتداء جبة المبدع الروائي الذي يطلق العنان لذاته للتعبير عن فردانياتها وعن كل ما لا تستطيع قوله والتعبير عنه في سياق أعمالها التخصصية المجهرية الدقيقة. ويمكن أن نستشهد بتجربة المؤرخ عبد الله العروي في أعماله الروائية المسترسلة مثل “الغربة” و”اليتيم” و”أوراق”، أو بتجربة المؤرخ أحمد التوفيق في نصوصه الروائية المرجعية مثل “جارات أبي موسى” و”السيل” و”ورقات قمر وحناء” و”ووالد وما ولد”… وقبل هذه التجارب، لا يمكن أن نمر بدون الإشارة إلى تجربة المؤرخ محمد زنيبر الذي استغل تكوينه الأكاديمي المتين من موقعه كواحد من بين أبرز المؤرخين المغاربة المعاصرين المتخصصين في التاريخ الوسيط، لإنتاج نصوص إبداعية راقية، وعلى رأسها رواية “الهواء الجديد” ومسرحية “الشابل” وقصة “خطوات التيه” ونص “عروس أغمات”.
يحضر التاريخ قويا في نصوص السرد التخييلي، بعد أن يعطي للذات فرصة البوح المطلق والتعبير عن التجربة الشخصية في فهم ذاتها وفي استيعاب واقعها وفي التفاعل مع محيطها. بمعنى أن السارد يتحول إلى شاهد على عصره، يخشى من ضياع رذاذ الذاكرة، ويخشى من فعل عوادي الزمن والنسيان، فيسعى لتكريس كل الجهد لإنقاذ ذاكرته الفردية المتقاطعة مع الذاكرة الجماعية، في محاولة لكتابة تاريخ اللحظة، لحظة الحدث، ولحظة الامتداد، ولحظة التمثل، ولحظة التذكر والاستحضار. في هذا الإطار، استطاع المبدع حسين العمراني استحضار هذه الأبعاد المتداخلة في الكتابة وفي التدوين، عندما أصدر روايته “أماس الريفية”، سنة 2021، في ما مجموعه 112 من الصفحات ذات الحجم المتوسط. فالعمل الجديد يشكل سجلا توثيقيا لمسار امرأة تنحدر من قرية أيت طاعا بقلب أصقاع منطقة الريف بشمال المغرب، في رحلة قاسية مع الحياة امتدت من ثلاثينيات القرن الماضي وإلى مطلع القرن الحالي. وعلى امتداد هذا المسار الطويل، استطاع المؤلف تتبع سيرة بطلة نصه بشكل يسمح بتحويل هذه السيرة إلى مدخل لتدوين تفاصيل المحطات الكبرى التي وسمت منطقة الريف خلال القرن العشرين.
لا يتعلق الأمر بكتابة تأريخية بمعناها الأكاديمي المعروف، ولا بشهادات شخصية حول أحداث بعينها عاشها المؤلف أو ساهم فيها، ولا بتتبع خطي لسير شخصيات المنطقة وأعلامها البارزين، بقدر ما أنها استنطاق لعطاء الذاكرة الجماعية التي أنتجتها الساكنة المحلية في سياق تطوراتها التاريخية الطويلة المدى، حيث تتداخل العاطفة بالواقع، الحلم بالانكسارات، الانتماء بالانفصام، الغضب بالأمل. وفي كل ذلك، اعتمد المؤلف على تطويع لغته الوصفية الراقية التي جمعت بين الانفتاح على البعد التقريري المباشر في استحضار الوقائع التاريخية والمعطيات الجغرافية والإثنوغرافية، وبين سلاسة السرد ومتعه اللامتناهية في إنتاج القيم الجمالية والإنسانية الواسعة.
لقد نجح المؤلف في الانتقال السلس من مركزية الحديث عن سيرة شخصية “أماس” إلى فتح نوافذ السرد على آفاقه غير المحدودة بتوظيف المعطيات الطوبونيمية واستنطاق معالمها قصد توليد محكيات على محكيات. فتحولت معالم المكان إلى سارد رئيسي داخل بنية النص، مثلما هو الحال مع مواقع إمزورن، وتمسمان، وتماسينت، وقبيلة أيت ورياغر، وأجدير، وأيت قمرا، والحسيمة، وتطوان، وطنجة، ومليلية، وسبتة، وتركيست، وكتامة، وشفشاون،… وأحياء مدينة تطوان التاريخية مثل حي الباريو، وحي سانية الرمل، وباب النواذر،…
وعلى أساس هذا الاستحضار الاسترجاعي لمعالم المكان ولرموزه الطوبونيمية، تنهض الكثير من الوقائع التاريخية التي طبعت تاريخ الريف الراهن، بعد أن حرص المؤلف على إدراجها ضمن سياقات السرد المرتبط بالموضوع المركزي المتمثل في سيرة شخصية “أماس”. لذلك، تحول الوصف إلى استنفار لذخائر الذاكرة الجماعية حسب ما نجحت عين المؤلف في تخزينه على امتداد تجربته الطويلة مع وقائع منطقة الريف. هي سيرة الريف المعاصر التي تحضر على هامش سيرة شخصية “أماس”، لتعيد تفعيل إواليات التفكير داخل دهاليز الذاكرة الجماعية المفتوحة على فعل التذكر المطلق، بعيدا عن صرامة البحث التاريخي المجهري، وقريبا من ندوب الماضي الذي يأبى النسيان. يقول المؤلف وهو يستحضر أحداث الريف لسنتي 1958 و 1959،على سبيل المثال لا الحصر: “في بداية الخمسينات بدأت الألسن تردد الكلام على رجل من الريف يلقي الدروس والمحاضرات في المساجد، يحرض فيها الناس على الجهاد والتصدي للاستعمار، سأل سي محمد عنه، فعلم أنه يدعى محمد الحاج سلام أمزيان، وقد درس في القرويين بفاس… وكان وقورا حسن الهندام وسيما ذا هبة خاصة وشخصية قوية ومؤثرة. واستعرض الأستاذ في محاضرته الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي يعيش فيها المغرب… وهذا ما كان ينعكس سلبا على حياتهم، وخلص في كلامه إلى ضرورة مقاومة الاستعمار، وأن الانتصار عليه ممكن، وضرب لهم المثل بالانتصارات التي حققها الزعيم عبد الكريم الخطابي في الشمال في العشرينات الماضية، عندما توفرت الإرادة والتضحية والإيمان بالجهاد…” (ص ص. 77-78). ويضيف السارد متتبعا مسار حركة محمد سلام أمزيان، ومسجلا وقائع الانكسار الذي خلف ندوبا عميقة على ضفاف الذاكرة الجماعية لساكنة المنطقة، قائلا: “بعد يومين، عاد رجال الدوار الذين اقتادهم الجيش إلى إمزورن، حيث تمت محاكمتهم محاكمة عسكرية جماعية تنعدم فيها أدنى شروط المحاكمة العادلة، فلا وثائق ولا ملفات جاهزة ولا دفاع ولا مداولات، فصدرت أحكام على التو بمجرد الاستنطاق، فتم إطلاق سراح أغلبيتهم، إلا أن بعضهم تم الاحتفاظ بهم، منهم من رجع فيما بعد، ومنهم من اختفى إلى الأبد ولم يظهر له أثر، إذ بلغ عدد المعتقلين بالريف إبان الانتفاضة 8420 بينهم 110 امرأة… وفرض على الريف الطوق العسكري والحصار الاقتصادي، وتم تعيين رجل عسكري عاملا على الإقليم…” (ص. 91).
وعلى غرار هذا النمط التدويني، انساب سرد المؤلف للوقائع المميزة لتاريخ الريف على هامش الموضوع المركزي لحكيه، مثلما هو الحال مع وقائع حرب الريف ضد إسبانيا وظروف استسلام محمد بن عبد الكريم الخطابي سنة 1926، أو مع وقع الجوع والقحط والجفاف الذي ضرب المنطقة منذ نهاية ثلاثينيات القرن الماضي ودفع بقطاعات واسعة من السكان نحو الهجرة إلى الخارج أو إلى المناطق المجاورة للريف وخاصة منطقة جبالة وحواضرها الكبرى.
لقد استطاع الأستاذ حسين العمراني تقديم متن شيق، بعمق تاريخي أصيل، وبآفاق تخييلية رحبة، مما أضفى على لغته قيما جمالية مثيرة وأبعادا إنسانية واسعة. فالتاريخ لا يكتبه المؤرخ لوحده، ولا تنتجه المنتديات المنغلقة على يقينياتها والمطمئنة إلى مسلماتها، ولكن قبل كل ذلك، يظل التاريخ جسرا لتنظيم الانتقال الآمن من ضغط جموح الذاكرة الجماعية بحمولاتها العاطفية المتداخلة، إلى منفرج الذاكرة التاريخية بأدواتها المنهجية الصارمة.
أسامة الزكاري