تقديم :
تتألف رواية ” المصري ” للروائي القاص المبدع محمد أنقار من سبعة فصول ، تنتمي عناوينها إلى عنصري الزمان والمكان .فالفصل الأول عنونه المؤلف بزمن ” العصر” ، والفصل الأخير بزمن ” الغروب “. أما الفصول الأخرى التي وردت بينهما ، فقد اختار لها أسماء أماكن تمثل أحياء داخل مدينة تطوان العتيقة ، وهي على التوالي : ” حومة البلد ” ـ ” الترانكات ” ـ ” السويقة ” ـ ” العيون ” .فصل واحد في الرواية خرج عن العنونة الزمكانية هو الفصل الثاني ، فقد وسمه بعنوان ” الاستعداد النفسي “.
والرواية تقوم أساساً على العنصرين المذكورين أعلاه : الزمان والمكان. فالزمن هو زمن الموت والفناء والزوال. وأول عبارة تفتتح بها الرواية تؤكد ذلك : ” تدفن تطوان موتاها بعد صلاة العصر ” ( ص : 6 ) ، وأول حدث رئيس فيها هو موت عبدالكريم الصويري صديق السارد ـ المشارك أحمد الساحلي ، وما صاحبه من وصف لمراسيم الجنازة. ( انظر ص : 6 ). وآخر فصل تختتم به ( الغروب ) ، يوحي بالنهاية والفناء وتلاشي عمرالإنسان.
أما المكان بملامحه العتيقة الأصيلة الصامدة أمام عوادي الزمن، فيحاول الكاتب أن يرسخها في أذهان الأجيال الآتية ، وأن يغرسها في ذاكرة التاريخ في عمل روائي يستشرف آفاق الخلود.
والملاحظ أن الصراع بين هاجس الموت، ومقاومته بوساطة الإبداع الفني الخالد، يظل يحتد أواره منذ بداية الرواية إلى نهايتها.
وسنحاول أن نتناول هذا العمل الروائي المتميز انطلاقاً من مكونات الخطاب السردي ، راصدين أهم التيمات التي تعالجها الرواية .
السردالروائي :
يتولى مهمة السرد سارد ـ مشارك هو أحمد الساحلي الذي نجده مهموماً بكتابة رواية عن مدينته تطوان وأحيائها وحواريها العتيقة على غرار ما كتبه نجيب محفوظ عن القاهرة المعزية . يقول المؤلف على لسان راويه ” استمر حلم الرواية يدغدغني . يخبو فترة لكنه لا يغيب في حين أضحت مسألة التنفيذ إشكالاً مؤرقاً ( ص : 26 ) ، ولكن أثناء معاناته المؤرقة لكتابة روايته ، كانت الرواية تنكتب بالفعل.يقول د. محمد مشبال في هذا الصدد : ” فيما يجهر السارد بعجزه عن تنفيذ مشروعه الروائي ، يكون الكاتب قد أنجز روايته ” ([1] ). إنه منذ بداية الرواية إلى نهايتها وهو يبحث عن هيكل لروايته وعن الطرائق الفنية التي سيعتمدها في بنائها. ويدرك أن الإبداع الروائي صعب وطويل سلمه ، وأن العمر قصير. فهو يحس بقرب نهايته قبل أيام معدودة ، أو بعد أسبوع فقط من تقاعده كما حصل لصديقه الحميم عبدالكريم الصويري. إنه فضلا عن إدراكه صعوبة خوض غمار الإبداع ، فـ” مسودات الكتابة دليل على معاناة المبدع وأرقه المتواصل ، وقلقه المضني ، إذ للقلم لحظات يتأبى فيها فيتمرد على تحقيق المشتهى ” ([2] ) ، يدرك أيضاً أن العمل الإبداعي يتطلب شروطاً وطقوساً خاصة : التفرغ ، والعزلة ، والتخلص من اليومي ، وتحاشي الارتباطات العائلية وغيرها من الانشغالات التافهة التي من شأنها أن تمنع من الجلوس الطويل لتسويد مئات الصفحات. بيد أن السارد ـ المشارك يجد نفسه يواجه عدة عوائق:
ـ الولادة العسيرة للإبداع ـ زوجه ” رقية ” التي لم يكن يهمها سوى دعوات العائلة في المناسبات وغيرها ، وإلحاحها على اصطحابه معها أداء للواجب ـ المسؤولية الأسرية اليومية . كل ذلك كان يشكل عائقاً يحول بينه وبين كتابة الرواية المحلوم بها والتي كان يعتبرها هاجسه المؤرق ، بل إنه كان يراها ” تحدياً مصيريا غامضا، إما أن ينتصر عليه أو يقهره “. ( انظر ص : 50 ).
إن السارد ـ المشارك بالإضافة إلى رغبته الملحة في ” سجن مدينة تطوان في قمقم زجاجي صغير مثلما سجن نجيب محفوظ القاهرة كلها في قمقمه المسحور ” (انظر ص : 58 ) ، فإنه يقدم بين أيدينا معضلة من أخطر المعضلات التي يواجهها الكاتب ، تلك هي معضلة الإبداع الفني، ويتعلق الأمر هنا بالإبداع الروائي تحديداً ، وصعوبة اقتحام عوالمه السحرية المضللة.
يصف الكاتب نفسُه طريقة جمع المادة الروائية وعملية الخلق الفني على لسان السارد بأسلوب يتسم بالطرافة والصدق بقوله : ” وكنت أشبه في ذلك الطائر الصغير الذي يبني عشه في أمد طويل ، قشة قشة ، وتبنة تبنة ، وريشة ريشة ” ( ص : 95 ) ، ويؤكد الفكرة نفسها في أحد المقاطع السردية بقوله : ” فليس ثمة إبداع من دون مكابدة، ذاك ما باح به البحتري ونجيب محفوظ نفسه حينما طالب الكاتب بأن يتسلح بعناد الثيران.” ( ص : 10 ) . ويرى د. محمد مشبال أن رواية ” المصري ” تصور من بين ما تصوره قضية ” نشوء الرواية . إنها تسرد دوافع المغامرة الروائية عند الإنسان ..فهي تعد من هذه الجهة خطاباً واصفاً للجنس الروائي ، تسهم في تفسير حدوده التكوينية وفهم أصوله. ” ([3] ). إن المؤلف اعتمد في كتابة روايته على استخدام عنصر ” الميتاسرد ” ، وهو ” كل تفكير نسقي في مجمل أطوار الكتابة السردية ، والتي تدخل بوعي في تكوين النص ” ([4] ) ،
والملاحظ أن السرد في رواية ” المصري ” ، يتبنى تقنية “الارتداد ” في معظم فصول الرواية ، ولا يسير في زمن خطي كرونولوجي كما هو الحال في الرواية التقليدية . فيتم الارتداد إلى ماضي السارد ـ المشارك أحمد الساحلي ، وعلاقته الممتدة من الطفولة إلى الكهولة بصديقه عبدالكريم. ثم تتم العودة إلى سرد أحداث الحاضر ابتداءً من جنازة الصديق ، مروراً بما خلفته وفاته من حزن وألم وفراغ في حياته ، وانتهاءً بعقده العزم على البدء في جمع مادة روايته حول مدينته الأثيرة تطوان ، وذلك بتسجيل ما يشاهده من شخصيات وأحداث ، وما يلاحظه من ملامح القدم وآثار الحضارة العربية الإسلامية في دروب المدينة وجدرانها وأزقتها وأهم حواريها. إن ” هذا العبد الضعيف بصدد إنجاز مهمة ثقافية من شأنها أن تفيد الإنسانية قاطبة ..نعم الإنسانية قاطبة مادامت اليونسكو نفسها قد اعتبرت تطوان العتيقة تراثاً ثقافياً و إنسانياً. ” ( ص : 101 ) .
الفضاء الروائي :
يعتبر الفضاء الروائي في رواية ” المصري ” العنصر الأساس في بناء الرواية ، فقد عني به المؤلف عناية خاصة. فثمة عين راصدة دقيقة الملاحظة، شديدة الشغف بذكر التفاصيل.فالملاحظ أن السارد أحمد الساحلي يتوقف أمام الجدران العتيقة لمدينة تطوان ، ويعنى بوصفها وصفاً دقيقاً ، ذاكراً الأماكن بأسمائها الحقيقية ، سواء في الأحياء الكبرى ، أو الأزقة والدروب الضيقة الملتوية ، كما يتوقف ليقدم لنا صورة متكاملة عن المدينة ، فلا يكتفي بوصف الجدران والأزقة ، بل يعمد إلى تصوير السقوف المدعمة بالأعمدة الخشبية القديمة. ويقتحم المقاهي الشعبية التي يرتادها مدخنو الكيف ولاعبو لعبة الورق ولعبة الدومينو وغيرهما في الأحياء القديمة ، كما يدخل المساجد ، ويذكر جل الزوايا الصوفية المنتشرة بالمدينة بأسمائها المعروفة ومن أشهرها ( الزاوية الحراقية ) . وإذا كان المؤلف من خلال ذاته الثانية الساحلي ، يهتم بالفضاء اهتماماً ينم عن عشقه لمدينته ، فإن ذلك لايعني أن اهتمامه ينصب على الفضاء باعتباره فضاء جامداً، وإنما يصفه وصفاً ضاجاً بحياة الناس فيه ، ملتحماً بالإنسان بمختلف نشاطاته وممارساته اليومية ، وسلوكاته في الحياة.يقول محمد أنقار بهذا الخصوص : ” لقد قصدت إلى أن تكون ” المصري ” رواية الحياة ، وليس رواية الصنعة وكفى.” ([5] ) ، وبضيف مؤكداً نفس المعنى : ” إن كل ما أكتبه أريد أن يكون نابضاً بالحياة، صادقاً في تصوير أحاسيسها وعواطفها.” ([6] )
والملاحظ أن السارد يبدو مفتونا بفضاءات مدينته العتيقة التي تمثل مظاهر الحضارة العربية الإسلامية ذات السمات الأندلسية ، يحيا في أحضانها أناس يحملون قيماً حضارية أصيلة ، وتقاليد اجتماعية إيجابية ، كما يبدي تعاطفه مع أناس بسطاء مهمشين ، يمثلون واقع البؤس والفقر والعوز والفراغ التي تعاني منه شريحة عريضة من المجتمع في الأحياء الشعبية داخل هذه المدينة العريقة.
الهوامش :
* النسخة المعتمدة في الدراسة : المصري ، محمد أنقار ، سلسلة روايات الهلال ، العدد :659 ، نوفمبر 2003 م.
[1] ـ الهوى المصري، في المخيلة المغربية ، قراءات في السرد المغربي الحديث ، ط.1 ، منشورات بلاغات ، القصر الكبير ، 2007 ، ص : 174 .
[2] ـ أحمد فرشوخ ، ورش الكتابة : أنموذج السرد ، مجلة الراوي ، العدد : 20، ، ربيع الأول 1430 هـ ـ مارس 2009 م. ص : 85 .والجدير بالذكر معاناة فلوبير أثناء كتابته رائعته ” مدام بوفاري ” . و” مراسلاته حافلة بالملاحظات واللمحات حول معاناته وعذابه أمام الصفحة البيضاء ” ) انظر المرجع السابق نفسه والصفحة نفسها (
[3] ـ الهوى المصري في المخيلة المغربية ، م. س . ذ ، ص : 132 .
[4] ـ عبداللطيف محفوظ في دراسة له بعنوان : ” الميتاسرد ” في ” رواية ” عين الفرس ” للميلودي شغموم. شارك بها في الملتقى الروائي الذي نظمه مختبر السرد يات بكلية الآداب والعلوم الإنسانية / بنمسيك بالدار البيضاء ، وذلك يوم الجمعة 28 مارس 2008. تغطية التظاهرة من إنجاز : عبدالقادر كنكاي ، نقلاً عن موقع ايست أونلاين ، وعنوانه : www.middle-east-online.com.
[5] ـ ـ انظر الحوار الذي أجراه مع الكاتب د.محمد مشبال في مدونته على الإنترنيت بتاريخ : 24 أكتوبر 2008 . وعنوان المدونة : medmechbal.blogspot.com
[6] ـ نفس المرجع السابق.
د.عبد الجبار العلمي