” منصور” : شاب مغربي طموح مثقف عانى من رتابة الحياة ببلده الأم لهشاشةهياكلها وعدم ملاءمة مناخها العام لسقف طموحاته، فقادته رغبته الملحة في استكمال دراسته في سلك الدكتوراه إلى الهجرة إلى الديار الفرنسية تاركا وظيفته في قطاع التعليم ، وعلى لسانه في الرواية سنتعرف على بعض خصوصيات المجتمع الأوروبي مثل تعصب وعنصرية البعض به، ومعاناة المسنين مع الوحدة عند مقاسمته المنزل مع السيدة العجوز لولو التي ستكون النموذج المعتدل للمواطن الفرنسي الذي ينفتح على الآخر دون تعصب ، ويساعده على التكيف برحابة وسعة صدر، لتحصد في النهاية مساندة منصور لها في شدة مرضها في الوقت الذي تخلت فيه عنها صديقاتها،علاوة على خوائهم الروحي، وإيمانهم بمعتقدات جديدة زائفة… وفي المقابل يصف لنا المفارقات الحاصلة في التعليم بين البلدين المغرب وفرنسا،مما جعله يتحسر على بلده الذي يكن له كل الود والوفاء.كما نجد شرحا مبسطا لبعض الأحداث السياسية التي مر منها المغرب وكذلك الصراع السياسي الذي شهدته فرنسا في انتخاباتها الرئاسية والتي احتدم فيها التنافس القوي بين اليمين واليسار، وتعريفا لبعض الفضاءات وتاريخها مثل مدينة كازابلانكا وجامعة السوربون وغيرهما هذا فضلا عن استحضاره لبعض الاستشهادات مثل الابيات الشعرية والأقوال المأثورة..ويعود بعد استكمال دراسته وحصوله على شهادة الدكتوراه إلى المغرب ليجد نفسه أمام رسالة من وزارة التعليم تستغني عن وظيفته…
في الجزء الثاني، سنسافر مع منصور إلى أمريكا في رحلة سجلها حافل، باحثا عن شيء لا يعرفه مسبقا متسلحا بالمغامرة.
في أمريكا ستبدأ رحلة معاناة صامتة أحس فيها منصور في بداية تواجده بها بأنه مطرود من الحلم الأمريكي، عاش فيها حياة المنفى،المنفى البدني، والفكري، والثقافي، بسبب التباعد الاجتماعي بالمجتمع الأمريكي. مرت عليه أيام لا طعم لها، ولا لون، كاد أن يجزم بحقيقة تؤكد أن أمريكا صعبة المنال،اضطر في هذه الظروف أن يشتغل بفندق أغرقه في بحر الملل واليأس.
كانت الحوارات الداخلية لمنصور مصدر قوته للمضي إلى الأمام ،ونفض العزلة عن حياته، ومقاومة الصدمة الحضارية والاجتماعية أمام أكبر قوى اقتصادية في العالم، وعدم الاستسلام لمعيقات حلمه بها، لأن رصيده الإنساني، والاجتماعي ،والثقافي ، كفيل بجعله شخصية متميزة وقادرة على الاندماج، وفرض وجوده أمام العنصر الأمريكي، وسينتصر منصور على نفسه،وعلى الأنا الأمريكية و سيشتغل أستاذا بجامعة كانتيكات الوسطى في مادة ” ثقافة وحضارة المغرب الكبير”، ثم سيرحل في اتجاه فرجينيا،ويعمل هناك محللا جيوسياسيا للعالمين العربي والفرنكفوني،وكان لاستقراره بفرجينيا دور في التقائه بنماذج بشرية من جنسيات مختلفة، الهنود الحمر،الافارقة-الأمريكيين…وفئات اجتماعية متباينة، من فنانين، ورسامين ،وطيارين…جمعته بهم ألفة وتقاسم معهم الهموم، هم ترك الموطن الأصل، الغربة، والعنصرية.. كما سنحت له فرصة سفره إلى ولاية كاليفورنيا،وتنقله بين مدنها،مونتري، وكرمل،وسان فرانسيسكو، أن يلتقي بشخصيات إيرانية كانت لها سلطة ببلدها إيران،فغادرته مجبرة طالبة اللجوء السياسي بأمريكا، هروبا من الاغتيال، أو السجن، بعد سقوط الشاه وتولي الخميني السلطة.ورغم الاندماج في أمريكا إلا أنها تبقى بلد انتظار المجهول..
خلخل النص نمطية الرواية الكلاسيكية لتوفره على أكثرمن عقدة محققا النجاح في جذب القارئ، وتوظيفه لأسلوب يجمع بين القوة والجد في مواقف إنسانية هيجت انفعالات الحزن لدى المتلقي، وأسلوب المرح لاستعمال أساليب السخرية في مواقف جعلتنا نضحك عليها وننكرها بمرارة وكأننا وسط الحدث لا خارجه،واعتماده تقنية السرد المتداخل، وتنوع الراوي الذي تارة يكون مجهولا ومحايدا وشاهدا على الأحداث التي يعرفها أكثر من الشخصيات ذاتها،وينفذ إلى أعماق هذه الشخوص، وينقل لنا مشاعرها الدفينة فتكون بذلك زاوية الرؤية من الخلف باستعمال ضمير الغائب. وتارة يكون الراوي مشاركا في الحدث، وتتساوى معرفته له مع الشخصيات، وتكون الزاوية هي الرؤية المصاحبة.
عموما، فالكاتب ألهب مشاعرنا بخيال واسع جعلنا نتابع القراءة بشغف ومتعة كبيرين موظفا لغة جميلة غارقة في التشبيهات والاستعارات والمجازات ولكن بحيادية ملموسة في نقل الوقائع مما يجعلنا نقول أن فكرة المبدع وهدفه تحققا بامتياز. وختاما يمكن تصنيف هذا العمل الإبداعي بالرواية السيرية مبنى ومحتوى، واستطاعت أن تحقق متعة للمتلقي ومده بحقائق، ومعطيات تاريخية، وسياسية، وجغرافية ودينية، مغربية،وعالمية.
الدكتورة كريمة رحالي