قراءة في كتاب:
” رياض البهجة في أخبار طنجة للعلامة محمد بن العياشي سكيرج”
الجزء الثاني بعناية الدكتورة نبوية العشاب
إلهام الصواب لمن جهل فضل عالمات طنجة ذوات الألباب .
من العبارات الدائرة بين جمهور المهتمين بالتراث العربي بالمغرب الأقصى ، أن فن التحقيق ، علم الرجال ، وليس للنساء فيه حظ ولا نصيب .
والعبارة في مسيس الحاجة إلى قدر غير قليل من المراجعة ، للوقوف على الحق ، والحق والحقيقة غاية الباحث المنصف .
نعم وأجل ، فقد بعج الرجل بالمغرب الأقصى باب التحقيق ، وكان ذلك على يد لواء ظافر من الصادقين ، منهم : سماحة الإمام مولانا الشيخ عبد الله كنون ، والعلامة الفقيه الشيخ محمد المنوني ، وشيخ الإسلام مولانا عبد السلام الهراس وصاحبه الأستاذ سعيد أعراب ، والشيخ البروف مصطفى الغديري ، والعميد محمد الفاسي ، وابنا تاويت :عنيتُ التطوانيَّ والطنجيَّ ، والسفير عبد الهادي التازي ، والبروف الرئيس محمد ابن شريفة ، وبقية العقد الفريد النضيد من هؤلاء الأعلام الصادقين الماهدين الخالدين …
ويبدو أن المرأة قد أعجبت بالصنعة التحقيقية من أخيها الرجل ، فأدركت حجم الجهد المبذول ، فأشفقت – وطبيعة الأنثى الحقيقية الشفقة – مما يكابده شقيقها ، فمدت يدها إلى خزائن الكتب تنفض عنها غبار الأيام والليالي ، بعدما تلقت أصول التحقيق ومقاييسه عن أخيها خير ما يكون التلقي ، فنشأ عن ذلك جيل من الصالحات الصادقات ، منهن : البروف الراحلة الدكتورة مولاتي ثريا لِهِي برد الله ضريحها ، والأستاذة ميلودة الحسناوي -عليها رحمة الله -التي تلبثت عند (جُنة) ابن عاصم الغرناطي ،فضمت من جيمها ما كان فتحه البروف الأردني مولانا صلاح جرار ، والبروف حياة قارة صاحبة البُونِسِي الشَّرِيشي ، والأستاذة السعدية فاغية التي نفضت جانبا من (نفاضة جراب ابن الخطيب) ، وكان ذلك -حقا- عزما من عزماتها، والأستاذة نور الهدى الكتاني التي سحرها عالم ابن الصباغ الجذامي الشعري …
وسوى هؤلاء النسوة اللواتي أثبتن للرجال :أن كل مُجْرٍ في الخلاء يُسَرُّ ، حينما همسن بصوت خفيض حَانٍ : أن عمل الرجل يلزم أن يقاس بغيره ، لكي يكون في نجوة من الإعجاب .
ويداول الله الأيام بين الناس ، فتمضي المرأة مرابطة في ميدان التحقيق صابرة قانتة محتسبة ، وكان ممن لمع نجمهن اليوم بطنجة المغرب : حضرة البروف الدكتورة نبوية عبد الصماد العشاب .
فممن المرأة ؟ وما قصتها مع التحقيق وشجونه ؟ وما عملها ؟ …
الأستاذة الدكتورة نبوية العشاب ، مغربية الوجه واليد واللسان ، نشأت في بيت طنجي تواتر فيه الاهتمام بالعلم والحرص عليه : إنه بيت آل العشاب ، ولذلك ليس بدعا أن تتعشق حضرتها المحابر والأقلام والأَمِدَّةَ ، وتجعلها غايتها وَوُكدها ، فأظهرت نجابة عدَّها السادة من آل العشاب نعمة من نعم الله الظاهرة السابغة …
نعم وأجل ، فتأملوا قول الأول :
نِعَمُ الإله على العباد كثيرةٌ ************* وأجلُّهن : نجابةُ الأولاد .
لقد أخرجت حضرة البروف نبوية العشاب بِأَخَرَةٍ ، عِلْقًا نفيسا من أعلاق سماحة الإمام مولانا الشيخ محمد سكيرج المتوفى مطلع مايو من سنة 1956م ، والكتاب هو :
* رياض البهجة في أخبار طنجة .
* تصنيف : العلامة الفقيه محمد بن العياشي سكيرج .
* الجزء الثاني .
* عناية الدكتورة : نبوية العشاب .
* مطابع جريدة طنجة .
* منشورات : النادي الملكي للسيارات بطنجة .
* تاريخ الإيداع : 2021م .
* 435 صفحة عدا ونقدا .
* طبعة أنيقة فاخرة ملونة الغلاف .
ولعله ليس نافلة أن نتوقف – وما في قوفنا من بأس – عند هذه البطاقة ، بما يختبئ تحتها من الدلالات ، وهي :
* أن آل سكيرج من بيوتات العلم بطنجة ، التي تتابع فيها الانتساب إلى العلم ، فممن نبغ منهم : العلامة أحمد سكيرج المتوفى سنة 1944م صاحب كتاب (شراب أهل الاختصاص) الذي نهدت لتحقيقه البروف المجتهدة الدكتورة نجاة الصباحي ، فقدمت بعملها هذا يدا باقية عالية النفع للعلم وأهله ، كما برز من هذا البيت السكيرجي الأديب عبد الكريم سكيرج .
* ومما يستفاد أيضا من القٌذَاذَةِ أعلاهُ ، أن الأستاذة البروف نبوية العشاب رضيت أن تكون شاكرية المنزع في عملها ، حينما وسمت عملها بأنه (عناية) ، ففي كلمة (عناية)، ما يذكرنا بكلمة اختارها سماحة الإمام مولانا محمود شاكر ، إنها كلمة (قراءة ) التي تشي بقدر عال من تواضع العلماء وحفظهم لهيبة التصنيف القديم ، وقد بسط البروف محمود إبراهيم الرضواني كلاما عاليا نفيسا عن دلالات (قراءة) لدى مولانا شاكر في كتابه (أبوفهر بين الدرس الأدبي والتحقيق /ص 367 ) ، وأشتهي هنا أن أطمئن إلى قياس كلمة (عناية)
على كلمة (قراءة) ، فتأملوا هذا المهيع الخلقي العلمي القويم لدى البروف نبوية العشاب .
* وثالثة أخرى أحب أن أشيد بها إشادة ما ، هي قضية التعاون التي دفع بها النادي الملكي للسيارات بطنجة ، الذي أعان على إذاعة الكتاب بين الناس ، وهو فضل يحسب للنادي ويذخر له ، وهذه السنة الحميدة تفطنت إليها أمم الغرب المتفوق ، حينما جعلت العلم مطلبا عاما ومسؤولية جماهيرية ، وتعجبني هنا عبارة عالية دونها البريطاني الدكتور دجون .ب .ديكينسون / Dr.John . P. Dickinson في كتابه الماتع : Science and Scientific researchers in Modern Society في الصفحة 19 من الطبعة المعرَّبة : (ينظر إلى العلم كعمل ذي شأن هام ومفيد … واستجابة لهذا المطلب بدأ تأسيس الكثير من الجمعيات المحلية لتقدم المعرفة ) … فتأملوا – هديتم سبل الرشاد – حجم الدور الريادي الذي آمن به النادي الملكي للسيارات بطنجة ، فقد كان مِعوانا على الخير ، وهو يضرب بسهم في سبيل ظهور كتاب رياض البهجة .
* وقد لا تخطئ العين الفاحصة فائدة أخرى ، وهي حرص البروف نبوية العشاب على أناقة الطبع ، وهذه مسألة أخطأها كثيرون ، ولم يعلموا أن الطبع الأنيق الرشيق ، يغري بالقراءة ، لما يشيعه في جوانية القارئ من أريحية ، بخاصة أن الكتاب وافر الصفحات ، إذ وصلت إلى 435 صفحة .
لقد جاءت البروف نبوية العشاب إلى عالم التحقيق ، بعدما جمعت له كل ما يلزمه من أدوات التحقيق ، سواء في جانب العلم أو في جانب الصنعة ، فنجحت في مزاحمة أفذاذ المحققين في صنعتهم …
وإذا وقع لديك هذا موقعا حسنا ، وأطمأننت إليه ، فتأمل نباهة البروف نبوية في جودة اختيارها لمخطوط ذي قيمة عالية ، ذلك بأن :
* العمل يقع في الصميم من تاريخ الحواضر المغربية ، وهو ضرب من الـتأليف مفيد ، لأن في ظهور هذا اللون من الأوضاع ، ما يعين على كتابة تاريخ المملكة كتابة تحقق قدرا عاليا من الدقة … وقديما قيل : (لكي تكون أكثر عالمية ، ينبغي أن تكون أكثر محلية) .
* الكتاب يقفنا على جوانب من التاريخ الاجتماعي والثقافي والديني بمدينة طنجة ، عبر حقب زمنية ممتدة ، وفي هذا ما يبعث على رد كثير من الأوهام التي أحاطت بتاريخ هذه الحاضرة الساحرة الآسرة .
* المؤلف يصحح ما شاع بين جمهور المؤرخين ، بنية حسنة أو بغيرها ، أن طنجة ليست مدينة علم ، فالكتاب يسرد أخبار علماء طنجة وينتخب لهم فوائد ، ويضمن لهم مكانة بين نظرائهم من علماء باقي حواضر المغرب ، بصورة تبعث على وصف طنجة بأنها : طنجة العالمة ، قياسا على سوس العالمة .
الكتاب نفيس حقا وصدقا ، وظهوره سيسد ثُلمة في البحث التاريخي عن حاضرة طنجة ، وهذا ما يدعو بإلحاح أن تعقد الندوات بعد الندوات ، لإماطة اللثام عن تاريخ هذه المدينة ، تربي فضل علم على ما سبق أن قامت به جامعة محمد الخامس بالرباط ، في تعاونها مع جامعة عبد المالك السعدي ، ومدرسة الملك فهد للترجمة ، إذ احتشدت ثلاثتها للبحث في تاريخ طنجة بين 1800م و1956م ، وأخرجت حصيلة البحث في سفر جامع مطبوع في سنة 1991م ، دار النشر العربي الإفريقي بالرباط .
أعود على البُداءة لأشيد بهذا الجهد الجبار الذي قامت به البروف نبوية العشاب ، بخاصة أن فضيلتها شفعت العمل بفهارس وكشافات تيسر سبل الانتفاع بالكتاب ، وكم صدق الأول إذ قرر أن : (مفتاح كل كتاب فهرس جامع )، ولعل هذا القاعدة الذهبية من حر قواعد مولانا الشيخ شاكر ، وأقرأ نظائر لها عند مولانا الشيخ الطناحي في مقدمة أعمار الأعيان ص: 11 ، وزد عليه ولا تنقص ، وصاة الشيخ هارون عن قيمة الفهارس ، فهي مدونة في قطوفه الأدبية ، ص91 .
أقف هنا ، لأهنئ فضيلة البروف الدكتورة نبوية عبد الصمد العشاب على ما بذلته من جهد عال مذكور غير منكور ، في تحقيق الكتاب .وأقتبس من كتاب رياض البهجة من ص : 322 ، بعض وجادات الفقيه محمد سكيرج ، فقد وجد على أول رقة من كتاب (الفاخر) لشمس الدين اليعلي المتوفى سنة 709ه- ، بيتا ماتعا ينطق نصحا ، وهو :
وما الكتْبُ إلا كالضيوف ، فحقُّها *** بأن تُتَلقَّى بالقبول ، وتُقْرَا .
ثم افسحوا لي – وأنا التائه في هوامش حواضر الشرق – أن أبسط حبل الشكر لفضيلة البروف الدكتورة نبوية عبد الصمد العشاب ، فقد جاءني الكتاب هدية من حضرتها الموقرة ، فضربت بهداياها إلي مثلا في السخاء عاليا ، دالا على طيب مَحْتِدِها ونِجارِها .
بقلم : محمد الحسني / جرسيف / المغرب .