تابعت مؤسسة الشهيد امحمد أحمد بن عبود تعزيز سلسلة إصداراتها بكتاب جديد للأستاذين امحمد بن عبود وعبد العزيز السعود تحت عنوان “زيارة السلطان محمد الخامس لطنجة وتطوان: خطابان تاريخيان”، وذلك سنة 2022، في ما مجموعه 138 من الصفحات ذات الحجم المتوسط. وإذا كان موضوع زيارة السلطان محمد بن يوسف إلى طنجة سنة 1947، ثم زيارته إلى تطوان سنة 1956، قد حظي بالكثير من الاهتمام من قبل المؤرخين والباحثين والمهتمين، فإن الكثير من خبايا الأحداث الموازية أو المتقاطعة مع الموضوع ظلت غير معروفة وقليلة التداول. لذلك، كان لابد من العودة للأرشيفات الغميسة، وخاصة الإسبانية منها، من أجل إعادة التنقيب في جزئيات وفي تفاصيل منفلتة من بين خبايا الكتابات الوصفية والتقريرية. لذلك، فقيمة الكتاب تظل مرتبطة باستناده إلى زاد وثائقي إسباني فريد، وإلى مواكبات إعلامية دقيقة، وقبل كل ذلك، إلى عمق أكاديمي أصيل يستند إلى التحليل التركيبي الذي اعتمده الأستاذ بن عبود في القسم الأول من الكتاب الخاص برحلة طنجة سنة 1947، إلى جانب العمل المماثل الذي اعتمده الأستاذ السعود بالنسبة للقسم الثاني الخاص برحلة تطوان سنة 1956. وسواء تعلق الأمر برحلة طنجة أم برحلة تطوان، برز الحس العلمي الحريص على تدقيق النظر في المرويات، وعلى استنطاق “مجاهل” الوثائق الإسبانية، وعلى ضبط السياقات المؤطرة للأحداث وللوقائع، ثم على استثمار النتائج في سياق كتابة تاريخية علمية تعيد مقاربة الموضوع بحس وطني أصيل، وبعدة إجرائية محترمة في تجميع المواد الخام وفي استغلالها.
ويلخص الأستاذ امحمد بن عبود معالم هذا الإطار العام الموجه لمجهود ضبط المادة الخام، في كلمته التقديمية، قائلا: “يتجلى الجديد في هذا الكتاب على مستوى التوثيق، فيما يخص رحلة 1947 إلى طنجة، فلقد اعتمدنا فيه على وثائق الجنرال بريلا بالدرجة الأولى. يحتوي هذا الأرشيف الإسباني على وثائق وصور وجرائد لا توجد في الوثائق الفرنسية والمغربية، وتم استغلالها لدراسة هذا الموضوع لأول مرة. أما رحلة السلطان سنة 1956، فلقد تم الاعتماد لدراسة هذا الحدث أساسا على الجرائد الوطنية خصوصا الصادرة منها في تطوان وطنجة وكذلك الصحافة الإسبانية بالمنطقة الخليفية والأجنبية الأخرى. فهي تقدم صورة حية للحدث وتضبط الحقائق بدقة وتعكس الروح الوطنية العظيمة للجماهير التي استقبلت السلطان منذ نزوله من الطائرة بمطار سانية الرمل إلى وصوله إلى القصر الملكي بساحة المشور. وعلاوة على الجديد على المستوى التوثيق، هناك جديد في المضمون وفي التحليل… إن المحاور التي تناولها الكتاب كثيرة ولكننا نريد أن نركز على نقطة واحدة وهي دور السلطان محمد الخامس الجوهري، بل البطولي في النضال لتحرير المغرب من نير الاستعمار. والطريف أن هذا النضال كان مشهده هو الشمال، وتحديدا مدينتي طنجة وتطوان” (ص ص. 5-6).
وللاستدلال على عمق النبش موضوع الكتاب، يمكن الإحالة إلى تفاصيل وقوف السلطان في طريقه نحو طنجة بمدينة أصيلا يوم 9 أبريل من سنة 1947، وما ارتبط بذلك من تداعيات نجح الأستاذ بن عبود في ضبط تفاصيلها وفي التوثيق لها بالوثائق الإسبانية وبالصور الفوتوغرافية وبالسرديات المواكبة.
ففي معرضه حديثه عن حيثيات اتخاذ قرار التوقف بمدينة أصيلا، يقول الأستاذ بن عبود: “…كان جواب الجنرال بريلا، أنه موافق على رحلة السلطان إلى طنجة، بشرط عدم مرافقة المقيم العام الإسباني له خلال عبوره حدود عرباوة بين المنطقتين الفرنسية والإسبانية، وأن يستقبل السلطان باقي الوفود في أصيلا. تقرر تنظيم حفل على شرف السلطان في خيمة بأصيلا. واقترح الجنرال بريلا على السلطان أن يقيم في قصر الريسوني الذي كان في ملكية الإسبان، ولكن السلطان أجابه بأن مسألة الترتيبات ليست من شأنه وأنه سوف يكلف وفدا يرسله خليفة السلطان مولاي الحسن ابن المهدي بذلك بصفته خليفته في المنطقة الخليفية…” (ص. 10).
ويضيف الأستاذ بن عبود موضحا تفاصيل الوقوف عند مدينة أصيلا ودلالات الحدث في بعده التحرري، قائلا: “عندما وصل القطار الذي سافر فيه السلطان محمد الخامس إلى عرباوة، وهي نقطة الحدود بين المنطقتين الفرنسية والإسبانية، استقبلت الجماهير السلطان وقد ملأها البشر، وعند مروره بعرباوة في طريقه نحو أصيلا كانت الجماهير غفيرة غطت مساحات شاسعة على حد التعبير في وثيقة من وثائق باريلا “إلى السماوات”. لقد أراد السلطان محمد الخامس من خلال إقامته في أصيلا في 9 أبريل 1947، أن يؤكد سيادة الوطن المغربي وسلطته في منطقة الحماية الإسبانية، لذلك أعطى تعليماته الصارمة، لتنظيم حفل الاستقبال محددا جميع الوفود التي استدعيت… كان اختياره هذا ذا مغزى، لإن تقسيم المغرب إلى ثلاثة مناطق حسب توصيات مؤتمر الجزيرة الخضراء سنة 1906، تنص على احتفاظ السلطان بسلطته كما تعترف بحفاظ المغرب على سيادته. لذلك كان وجود الممثل الأمريكي في مقدمة الوفود الأجنبية، إذ اعترفت الولايات المتحدة بالسيادة المغربية وبشرعية السلطان. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، كان استدعاء وفود الموظفين المخزنيين في إدارة المخزن في المنطقة الشمالية…” (ص. 13).
لذلك، اعتبر السلطان أن لقاء أصيلا مناسبة رئيسية لتبليغ خطاب سياسي واضح للرأي العام الإسباني والدولي، مضمونه أن المغرب واحد موحد، وأنه لا فرق بين المنطقة السلطانية والمنطقة الخليفية والمنطقة الدولية بطنجة عندما يتعلق الأمر بالسيادة المغربية على التراب الوطني، كل التراب الوطني.
ولعل من عناصر القوة في مضامين “محطة أصيلا”، حرص وثائق المقيم الإسباني الجنرال بريلا على تقديم معطيات تفصيلية دقيقة عن جزئيات حفل الاستقبال بمدينة أصيلا، وعن رمزية إحضار الوفود الأجنبية وموظفي المخزن المغربي وممثلي الأحزاب الوطني بالشمال وأعيان المجتمع ونخبه. فالحدث لم يكن معزولا عن سياقاته، بل اكتسى بعدا تحرريا واضحا نجح الأستاذ امحمد بن عبود في تركيب وقائعه وإعادة فحص مروياته المتداولة سواء داخل السرديات المغربية أم داخل دهاليز الأرشيف الإسباني الغميس.
أسامة الزكاري