كتابات في تاريخ منطقة الشمال:
“سبتة المغربية: صفحات من الجهاد الوطني”
صدر كتاب “سبتة المغربية: صفحات من الجهاد الوطني” للدكتور حسن الفكيكي ضمن السلسلة الشهرية “المعرفة للجميع” (ع. 14، أبريل 2000)، وذلك في ما مجموعه 202 من الصفحات ذات الحجم الصغير. والكتاب محاولة لتجميع المعطيات التاريخية الأساسية التي اكتنفت حدث الاحتلال البرتغالي لمدينة سبتة سنة 1415م، وسعي للتعريف بالجهود التي قام بها المغاربة على امتداد الحقب الطويلة للاحتلال، وذلك من أجل تحريرها وطرد الأجنبي عنها، جهود جهادية رسم صفحاتها رجال كبار في التضحية وفي العطاء وفي البذل، أتوا من كل أصقاع البلاد مدافعين عن قدسية الأرض وعن كرامة الإنسان. وحسنا فعل حسن الفكيكي حينما ركز على إبراز الملامح الجهادية لهذه الشخصيات، فلقد ساهم –بذلك- في الكشف عن الكثير من السير ومن التفاصيل التي كنا نجهل عنها الشيء الكثير، وكذا في رد الاعتبار الرمزي والتاريخي لرموز خالدة لم نكن –في الغالب- نعرف عنها إلا الاسم. ولعل هذا ما انتبه له واضعو المدخل العام للكتاب، عندما كتبوا في الصفحة رقم 13 ما يلي: “كما تأتي أهمية نشر هذا العمل الأصيل للدكتور حسن الفكيكي، من ملاحظاتنا لقلة المصادر المتداولة والتي تتحدث عن رجالات المقاومة وعن جهادهم وعن نضج الوعي الوطني خلال فترة عصيبة من تاريخ المغرب، تعرض فيها لهجوم صليبي وحشي. فعلى الرغم من تعدد المصادر التي تتحدث عن المقاومة المغربية وعن جهاد المجاهدين وحصارهم لمدينتي سبتة ومليلية، سواء المصادر الأجنبية أو المغربية، فإنها تبقى بشكل عام شحيحة في الحديث عن شخصيتهم، ولا تقدم تفاصيل عن حياتهم وعن رباطهم وعن علاقاتهم وعن استعداداتهم للجهاد وما إلى ذلك مما كان سيفيدنا لا محالة في معرفتهم أكثر والتعرف على جميع الظروف التي رافقت عملياتهم الحربية وكذا نتائجها المباشرة وغير المباشرة… وكانت تكتفي في أحسن الأحوال، بإشارات سريعة إلى ملاحمهم وبطولاتهم. فإذا توقفنا قليلا وعلى سبيل المثال، عند نموذج واحد من بين العديد من المجاهدين وهو سيدي طلحة الدريج فإن تلك المصادر –والمغربية منها على وجه الخصوص- لم تستثنيه، باعتباره من رجالات التصوف من ذكر مناقبه وكراماته وتكتفي بالحديث عنه بشكل عام، بنفس الأسلوب المتبع في العادة في الحديث عن الأولياء والأشراف زعماء الزوايا ومرابط الجهاد…”.
وإلى جانب هذه القيمة التوثيقية التي اكتنفت عمل الدكتور الفكيكي في التعريف بسير المجاهدين الذين رابطوا حول سبتة المحتلة، يكتسي الكتاب قيمة راهنية كبرى من حيث مقارعته للحجج وللأباطيل التي تروج لها الدعاية الإسبانية حول ماضي المدينة. في هذا الإطار، كان المؤلف دقيقا في سرده للوقائع، حريصا على إضفاء البعد الأكاديمي على خلاصاته واستنتاجاته، صارما في انتقاده للخرافات وللأساطير التي تروج لها المنابر الإسبانية “العلمية” والإعلامية بهذا الخصوص، حريصا على تجميع المظان المتشعبة للدراسة، وساعيا إلى مقارنة الروايات مع بعضها البعض للتدقيق في صحتها أو في افتراءاتها. وبذلك، نجح في تقديم دراسة مختصرة جمعت –بتناسق فريد- بين الانشغالات الأكاديمية للمؤلف، وبين إكراهات الراهن في التعاطي مع مختلف الإشكالات التي تطرحها تبعات استمرار احتلال إسبانيا لأجزاء من ترابنا الوطني.
تتكون مضامين كتاب “سبتة المغربية” من مدخل عام وستة مباحث شكلت مجموع مواد العمل، إلى جانب التصدير الذي أعدته الهيئة المشرفة على سلسلة “المعرفة للجميع”، ثم التقديم العام للكتاب الذي وضعه المرحوم محمد حجي. ففي المدخل التمهيدي، سعى المؤلف إلى تحديد السقف العام للدراسة، من خلال وضع الحدث في سياقه التاريخي الوطني والدولي، ثم على تقديم خلاصات التنقيب البيبليوغرافي الخاص بالموضوع، سواء في مصادره العربية الإسلامية أم في مصادره الإيبيرية للمرحلة المعنية بالدراسة. وبعد هذا المدخل العام، انتقل المؤلف –في المبحث الأول- إلى تفصيل الحديث عن ظروف احتلال سبتة وملابسات تأجج الوعي الوطني بخطورة هذا الاحتلال. وقد سعى في ذلك إلى التعريف بالرصيد الجغرافي والتاريخي للمدينة المحتلة، وإلى الكشف عن جذور تشكل مفهوم الوعي الوطني المغربي المقاوم للاستعمار، مع التركيز على إبراز تهافت الادعاءات الاستعمارية بهذا الخصوص. أما في المبحث الثاني، فقد انتقل المؤلف لتوضيح الدواعي التي أدت إلى اغتصاب مدينة سبتة. ولقد لخص هذه الظروف في عاملين اثنين مرتبطين –أولا- بالأطماع الاستراتيجية لدولة البرتغال بالبحر المتوسط، ثم –ثانيا- بتدهور أوضاع الدولة المغربية عند مطلع القرن 15م. وفي المبحث الثالث من الكتاب، اهتم المؤلف بالتوثيق لمعالم المقاومة المغربية الأولى ضد الاحتلال البرتغالي لمدينة سبتة خلال الفترة الممتدة بين سنتي 1415 و1419، ساعيا –في ذلك- إلى التعريف بشخصية عب بن محمد المجكسي باعتباره أول زعيم للجهاد بالمنطقة، ومفصلا الحديث عن التنظيم الحربي بميدان سبتة، مع إبراز بعض النماذج عن التضامن الإقليمي والوطني مع المدينة المحتلة. وفي المبحث الرابع، انتقل المؤلف للكشف عن ملابسات الحصار المغربي الأول لمدينة سبتة المحتلة والذي غطى الفترة الممتدة بين سنتي 1418 و1419، وهو الحصار الذي ساهمت فيه العديد من المدن المغربية والأندلسية بفرق مجاهدة عملت على تجاوز وضعية الضعف والتشرذم التي كانت عليها الدولة المرينية. أما في المبحث الخامس، فقد رصد المؤلف مجالات انتعاش حركة المقاومة المغربية حول مدينة سبتة خلال فترة ما بين 1420 و1430، مبرزا –في هذا السياق- أهمية الدور الذي كان لجهاد الجزوليين وجبل حبيب خلال فترة 1420-1424 في الضغط على القوات المحتلة. وفي نفس الإطار كذلك، قدم المؤلف المعطيات الأساسية للحصار المريني الثاني الذي فرض على المدينة سنة 1425، إلى جانب التعريف بالسير الجهادية لكل من طلحة الدريج السبتي الذي قاد المقاومة خلال فترة ما بين 1427 و1429، والشيخ أحمد بن مرزوق المجكسي الذي برز اسمه على الساحة خلال سنة 1430 بشكل خاص، أثناء حصاره للمدينة المحتلة.
وفي المبحث السادس والأخير من الكتاب، اهتم المؤلف بتوضيح حيثيات الانتصار الكبير الذي حققه المغاربة بمدينة طنجة أمام محاولات الاحتلال البرتغالية خلال سنة 1437. وقد سعى في ذلك إلى إبراز أهمية التعبئة الوطنية الشاملة في صنع حدث الانتصار المغربي الذي أحيى آمال المغاربة في استرجاع مدينة سبتة المغتصبة. لذلك، فقد حرص المؤلف على التعريف بأبرز المحاولات التي بذلها المغاربة من أجل تحقيق هذا الهدف، على الرغم من أنهم لم ينجحوا في تحقيق المراد.
واستلهاما منه لدروس احتلال مدينة سبتة، فقد استخلص المؤلف الكثير من المواقف الدالة على تجذر الوعي الوطني لدى المغاربة وعلى انبعاث شعور جماعي بقدسية الانتماء لهذا الوطن كلما اشتدت المحن وكلما ازداد هول الأخطار الخارجية ووقع الانتكاسات الداخلية. ولعل هذا ما كان يرمي إليه المؤلف عندما قال: “فعلى الرغم من أن المغرب كان على موعد لتلقي ضربات صليبية أخرى مماثلة لما حدث في سبتة وقريبا منها، إلا أن شعوره الوطني لم ينضب، بل على خلاف ذلك، تناسبت قوة نموه واتساع نطاقه وتعميق جذوره مع ازدياد خطورة الغزو الأجنبي وامتداد نفوذه…” (ص. 199). إنها روح وطنية ظلت تجدد مقومات بقائها، ونزعات جهادية أصيلة قهرت الظلام لكي تبدع كل صيغ الوفاء والإخلاص للمجال وللإنسان.
أسامة الزكاري